العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. عندما تتعاكس أقدار المحبين

يمنات

أحمد سيف حاشد

جل قصص حبي خائبة، غير أن قصة حب مغايرة خيبت فيني أمل المحب .. هي نقيض تلك القصص التي أعتدتها و ألفتها .. في هذه القصة ربما كنت أنا الجاني .. ربما جنيت عليها حتى أحسست أني أحدثت في رأسها مقبرة .. حفرت فيه مغارة مظلمة تركض فيها أشباحي المزعجة .. سببت لها كثيرا من الألم و الوجع، و إن كان دون قصد أو عمد..

كانت ذكية و متفوقة .. عفيفة و طاهرة .. صبورة و كتومة .. حصيفة و مخلصة .. هادئة كبوذا، و عاقلة كحكيم الصين العظيم .. من أسرة شفيفة .. تملك من العقل رجاحته، و من الروح سماءها المشبعة بالشفافة و الجمال..

لستُ وحدي من حب و جلد نفسه في جحيم الحب الناقص نصفه .. لست الوحيد الذي بحث عن توأم روحه في متاهات وجودية خاسرة .. لطالما وجدت نفسي في معادلات حب أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها غير عادلة .. لطالما حالت الأقدار دون أن يكتمل الحب المنقوص بحظه العاثر، و قلّة الحيلة المهدودة بتكرار الخسران، و فداحة الخيبات المتعاقبة..

لست وحدي من فقد حيزه الوجودي لصالح الفراغ الذي ألتهم ذلك الحيز الذي كان يبحث عن نصفه المفقود، فاجتاحه الفراغ، و تمزق تحت دواليبه المجنزرة، و أنتهى حبه إلى خسران موجع، و ذكريات اليمة، و بقايا إنسان يندب بقاياه المتلاشية، و يرثيها بحزن عميق..

مثل قصتي مع “هيفاء”، كانت لهذه الفتاة قصتها معي .. كان للحب مسارات متعاكسة لما كنّا نتمنى و نرتجي .. عتبتُ على أقدارنا التي وضعت قلب كل منّا في مكان قصي، أو على مدار مختلف..

كنت شاردا عنها في البعيد، موغلا في التيه، غير مبالٍ و لا مكترث إلا بما كنت أعيشه من خسران الحب المستمر الذي ألقى على عيني العمى، و سد مسامعي بالشمع الأحمر، و كتب على جدار القلب مُغلق من قبل المحكمة .. و عند علمي بحبها تمردت .. حاولت أن أساعدها و أساعد روحي المهشمة من خيبة الحب الكفيف..

كنت لازلت أعاني من فقدان هيفاء و فراغها الملول، و من خيبة تلاحقني و تقتفي أثري أينما و لّيت .. لم أفطن لحب الفتاة إلا في الأشهر الأخيرة من سنتي الرابعة في الكلية .. السنة التي يتجاوز فيه المحب ما أهدره من الزمن الذي فات، محاولا اللحاق بالفرصة الأخيرة .. فرصة تغتنم ما بقي من وقتها الضائع، و الرجاء الأخير للمحب الكتوم..

حاولت التأكد من حبها حتى لا أجد نفسي متوهما على غير الحقيقة .. طرحت كل الاحتمالات في مبحثي حتى لا أكرر خيبتي .. اختبرت كل فرضية أتت .. أجبت على كل الأسئلة .. وجدت الخلاصة كلها .. إنه الحب منها لا سواه..

 لا أدري متى بدأ إعجابها أو صرت محلا له..!! لا أعرف متى بدأت تفكر أن نكون معا..!! لا أعلم إلى أي مدى كانت تحبني..؟! لم نتحدث عن هذا، و اكتفينا بالإيجاب و القبول .. تركنا بحث التفاصيل إلى المستقبل الذي غادرنا هو، أو نحن من تركناه..

كل ما فعلته من جهتي حيالها كان يشبه قفزة الكنغر، و لكن إلى مكان أحسست أني محاطا بما هو مجهول و مستصعب .. لم أستطع المضي فيه إلى مستقبل مجهول، و استصعبت العودة إلى المكان الذي أتيت منه .. خياران بين ذهاب و إياب .. وجدت نفسي على صخرة محشورا في وعر أحاط بي من كل اتجاه..

نقبل على الحب حيث تدبر حظوظنا فيه .. نلوذ بمن ليس لنا فيه ملاذ أو أمان .. نعبر فتعترضنا نتوءات الخيبة التي لا تلبث أن تكبر وتصير أكبر منّا .. عقبات كأداء تعترض طريقنا و تستنزف أرواحنا قبل الوصول .. نحتشر في المأزق الذي يضيق حتى يُطبق علينا من كل الجهات .. تتكوم الموانع في وجوهنا .. تعترض النحوس أقدامنا المنهكة و خطواتنا المتعثرة .. ننزف في الانتظار الطويل ولا يأتي الحبيب .. نصير أنقاضا تحت أقدامنا المثقلة بالحديد، لا نستطيع المضي نحو الأمام، و لا نقدر على العودة من حيث أتينا، و قد صرنا ركاما من حطام..

تتحول فسحة الكون الفسيح في وجوهنا إلى أضيق من زقاق مملوء بالمخانق .. أحلامنا الكبيرة تتحول إلى كوابيس مرعبة ترفض الرحيل عن بقايانا المبعثرة .. آمالنا العراض تتلاشى في التيه و تنتهي إلى وهم على وهم، و سراب في سراب، و ما كان لنا متسع في الأمس يتم خنقنا فيه بقبضات ثقال تجهز على أنفاسنا اللاهثة و الباحثة عن نصفنا الآخر، أو نصف الحب المفقود منّا إلى الأبد..

حاولتُ الخروج من مأزقي المحشور فيه، و أصنع ممكنا في وجه استحالتي التي رجوتها متوسلا أن تطاوعني لأجل من تحبني .. تمردت على حكم المحكمة .. حاولت أن أفتح لها في جدار قلبي شرفات للحب و الفرح؛ فأدركني الفشل الذريع .. أصبتها بجرح عميق دون أن أدري كم ظل ينزف..!! يا لنبلها الآسر و كبرياءها الأبي و كرامتها التي شمخت في وجه جرحها و نزيفها و حزنها الوخيم..

حاولت أن أفتح لها شغاف قلبي .. فرشت لها سجاجيدي .. حاولت أن أفتح لها أبوابي و شرفاتي .. دعوتُ الحمام إلى نوافذي المحبّرة بالهيام .. حاولت أن أجد لفرصتها في قلبي مسار متسع .. لم أتريث و لم أطلب منها فُسح أو مُهل..

عرضت عليها الزواج فوافقت .. شرحت لها ظروفي فلم تعترض، و لم تبدِ حيالها أي مانع .. أرجينا بحث التفاصيل فأدركنا المحاق و لم نلحق بحثها .. بين بدايتي معها و طلبي الزواج منها ضيق لم يتسع غير أسابيع قليلة .. ثم تبدل الحال بعده .. ظلت الفجوة بيننا تكبر و تتسع بصمت و تجاهل، فيما كنت أعتب على نفسي: يا لعجلي الذي داهمني كطوفان أجتاح تريّثي، و أودى بي إلى ما صرت فيه..!!

داهمني السؤال و قد أدركني الندم: ماذا دهاني لأفعل ما فعلت..؟!! هل هو تعويضا لما عشته في الحب من فشل و إخفاق..؟! أم بسبب إضاعتي للفرص..؟! أم هو استجابة لضغط فراغي و فقداني لمن أحب..؟! أو هو ظني إن العجل سيلتقطها قبل فوات الأوان حتى لا آتي متأخرا و أندم على ما فات..؟! أو هو التوكل و خدعة المثل: “خير البر عاجلة”..؟! أم هو كل هذا و ذاك..؟!!

كان حالي أشبه بمن يلاحق كرة الحظ الصغيرة في يوم مطير على أرض زلقة، فانزلق بعدها إلى المنحدر .. كنت أحمق عجول يطلق وعد الوصول دون أن يفكر بعثرات الطريق و وسيلة النقل و المسافة بين البداية و النهاية .. كنت أحمق أضع العربة قبل الحصان، و ألسع الحصان بسوط العجل .. فقدنا التوازن و انقلب الجميع، و وجدت عجلي مجرورا بعجلات الندم .. حاولت إصلاح مدار أقدارنا المتعاكسة، فجاءت الأقدار على غير ما نريد..

حاولت أن أمنح لها في قلبي الفرص لعلِّي أحبها، فأدركني الفشل المؤكد، و أدركت هي فتوري و ترددي الذي ظل يكبر .. تخاتلت كقطة .. مشت بأطراف الأصابع .. أدارت المفتاح في مغلق باب الخروج باحتراف لا تسمع منه تدويرا أو طقطقة .. فتحت الباب بخفة دونما أسمع للباب صرير أو رجوع .. انسلت بهدوء كنسمة هواء .. غابت بعيدا في غروب لا يعود..

بلعت جرحها النازف بصمت صبور، و مضت دون رجعة .. و بدلا من أن أساعدها هي من ساعدتني على تجاوز ما كنت فيه .. أخرجتني من حيرتي التي كنت أغرق في قاعها .. أنقذتني من ورطتي التي تشبه حفرة عميقة كلما حاولت الخروج منها انهال على رأسي التراب .. رأسي المثقل بالحياء..

وفّرت عليّ كثير من الحرج الذي يشبه الموت .. غادرت دون حقيبة أو وداع .. لم تحاول طرق بابي ثانية، و لم تلقِ في وجهي كلمة من عتب، أو حتى سؤال عابر سبيل .. غادرت إلى الأبد، و بقيت ألتمس عفوها و المغفرة..

حبي لم يكن بيدي و لم يكن رهن ما أرغب .. الحب في قبضة الأقدار ليس لنا فيها ولاية .. لا نملك إصلاح مسارات أقدارنا المتناقضة .. و على قول شاعرنا المتنبي “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن” .. كم أنا أسف و كل الأسف إن كنت يوما قد كسرت قلبها .. لقد تعلمت و اكتشفت كثيرا أن ثمة خلل موجود في مسارات الحب و كيمياء النفوس، و في أقدار البشر، و ربما ما هو أكثر و أكبر .. لك كل اعتذاري يا أطيب البشر..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى