العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. في مشوار الألف ميل .. من الكواليس إلى التزوير

يمنات

أحمد سيف حاشد

بدى لي الخير متعة كما رآه زرادشت .. أحسست بسعادة غامرة و أنا أخوض معارك الخير و أنتصر .. و حتى تلك الإخفاقات التي واجهتها كانت تشبه تلك الأيام الذي قال عنها قائل: هي التي تصنعك .. بعض الأمور ربما تبدو مستحيلة كما يقول نيلسون مانديلا، و لكنها لا تظل كذلك حالما يتم إنجازها .. بدت لاحقا بعض معاركي و أنا أغادر “الخير المؤطر” تشبه تسلق الجبل الذي قال عنه ماركيز أنه هو سر السعادة و ليس العيش في قمته، و لطالما اعترفتُ بصواب من قال: “الطرق المستقيمة لا تصنع السائق الماهر”.

بدا الكيان الخيري في مخاضه و تبلوره ذو شأن و أهمية أمام بعض الطموحين من أبناء المديرية، بل و المهتمين من داخلها و خارجها، و أمام العامة من أبناء المديرية الذي يتطلعون إلى كيان يقدم أفضل مما هو موجود .. و كانت السياسة و الدين المسيس حاضرين في المشهد في كل منعطف و مرحلة حتى بلغ ببعضها حد التكفير أو التهديد، و إفساد ما تم إنجازه، أو بكلمات دونها كانت السياسة و الطموح الشخصي لا يعيشان بمعزل عمّا يتم و يجري..

بعض الساسة و المتحزبين كانوا يفكرون بالخير من أجل السياسة، و ليس سياسة من أجل الخير .. كما كانت بعض الأحزاب تتعاطى مع الخير من بوابة السياسية، و شهدنا أيضا بعض من مخاتلة الطموح، و التسيس الساعي للوصول إلى قيادة الجمعية لتسودها و تسوسها باسم الخير، أو الحصول على الأغلبية في هيئاتها القيادية بالانفراد أو التحالف..

كما كانت المناطقية الصغيرة ذات النزوع العصبوي حاضرة بقوة في ذهن و ممارسة البعض، حتى و إن أقتضى الأمر في اللحظة الفارقة اتباع الحيلة و المغالطة و التغرير، بل و التزوير أيضا..

كما أن ما هو شخصي من طموح فردي عند البعض، كان حاضرا، و يتقاطع أحيانا مع هذا و أحيانا مع ذاك، إن كان على صعيد الحزب الواحد، أو في إطار المنطقة الصغيرة الواحدة .. كان لدى البعض المصلحة الذاتية وحدها لها الأولوية القصوى على ما عداها، حتى و إن تصادمت مع ما هو حزبي و ما هو مناطقي.

قبل الانتخابات كانت “الكولسة” نشطة على الآخر .. المهامسة تسري كما تسري النار في الهشيم .. و كان بعض المهتمين و المتابعين و الطموحين و الأمنيين و المكلفين بمعرفة المستجدات و ما يدور وراء الكواليس، تجعلهم أو تحملهم على عدم اكتفاء الواحد منهم بالتخزين في مكان أو مقيل واحد في اليوم، بل ينتقل بين مقيلين أو ثلاثة لمعرفة المزيد، و متابعة ما يُستجد..

و هناك الشريحة الأهم و الأكثر عددا، هم المخلصون للعمل الخيري، أو من يتطلعون إلى عمل خيري ناهض، لمساعدة ما أمكن من المحتاجين، أو لتخفيف قدر من المعاناة، أو تقديم نموذج طموح و متميز يستحق التقدير و المفاخرة، و يستجلب الرضى نحو أي نجاح أو إنجاز.

محمد عبد الرب ناجي و الذي صار رئيسا للجمعية، عرفت طبيعته و سجيته أنه يمقت المناطقية العصبوية، و ينفر من الأيديولوجيا، و يهرب من رداءة السياسة مذعورا .. يزدري الإيديولوجيا و يمقت السياسة و عصبوية المناطقية و يعافهن على نحو صارخ و مجاهر، أو يهرب منهن كما يهرب الصحيح من طاعون فاتِك، أو جُدري يقتات حشاشة الوجه و العيون ..

كان محمد عبد الرب ناجي رجل اداري جدا، و عملي جدا، و من الطراز الأول و الرفيع .. منظم و مرتب إلى أقصى حد .. مُنجز في العمل .. يكره التنظير و الكلام الكثير الذي يعيق العمل و يهدر الوقت دون جدوى أو فائدة .. كان أستاذا لنا بجدارة و منه حاولنا أن نتعلم الكثير..

***

في عشية ليلة الانتخابات التأسيسية، تفاجأت بقوائم يتم توزيعها على المنتسبين المقرر مشاركتهم في الانتخابات .. عنوان تلك القوائم “انتخبوا هؤلاءِ” .. كل حزب و تيار لديه قائمة .. كل عزله لها قائمة أو أكثر .. رجال الأمن لديهم قوائم أيضا، و حتى المناطق الصغيرة لديها قوائمها، و خلط الأوراق جاري على أوجه و مداه..

الاستنفار بالغ، و الكواليس تشتغل بأقصى طاقتها، و الاتصالات نشطة و مثابرة، و التأثير جاري بأقصى قدر على إرادة الأعضاء الناخبين، و الذي وصل عددهم إلى أكثر من ألف و ثلاثمائة ناخب في صنعاء .. كانت بعض القوائم يأتي بها الطارق إلى باب بيتك..

حصلت من صديقي المحب ردمان النماري على أغلب ما تم توزيعه من قوائم الدعاية الانتخابية، و ذلك في الليلة التي سنغدو في النهار الذي يليها على موعد الانتخابات، و التي بدت لي من خلال تلك القوائم إنها ستكون ساخنة، و سباقها محموم و محتدم..

تلك القوائم كانت تكشف في وجها منها، ما دار و يدور خلف الكواليس من تنسيق و تحالفات، و يمكن معرفة الأكثر من خلال الاسم الذي وزّعها، و الذي يستدل منه على مصدرها و وجهتها، و عرفنا من يقف خلف بعضها من خلال اسم الشخص الأول و الثاني اللذان يعترشان رأس القائمة، و مع ذلك بعض القوائم بدت فيها بعض الغموض، و بعضها ربما وجدنا فيها التعقيد المستعصي على الفهم .. فيما قوائم أخرى بدت في بعضها تتآمر على بعض لخلط الأوراق، و أخرى تناور بعضها على بعض..

محمد عبد الرب ناجي لم يكن يفهم في هذه القوائم، لا ألف و لا باء .. عندما أخبرته عنها، كان يُغرق بالاستغراب، و كأنه أمام مخلوقات و كائنات فضائية، و ليس أمام وصايا أو قوائم إعلانية انتخابية .. هو كان كل همه أن توجد جمعية خيرية فاعلة و كبيرة بحجم المديرية التي يريد أن يوحدها تحت ظلال عمل خيري فاعل و موحد و كبير، و ما عداه من كواليس و مهامسة لا يأبه و لا يكترث له، إلا في حدود الاستغراب الذي يذهله..

شاهدت عدد من القوائم تشمل اسمي، و اسم محمد عبد الرب ناجي فيها .. و أحيانا يغيب اسمي، و يحضر اسم محمد عبد الرب، و أخرى يرِد العكس أيضا، و بعضها تخلوا من اسمينا معا .. و كان التمعن و الوقوف على تلك القوائم، يمكنها أن تكشف خارطة تقاطع و تعارض من أعدوها كأحزاب أو مناطق أو مراكز أو جماعات، و ربما تبين بدرجة أو بأخرى ما اُعتمل خلف الكواليس من إعداد أو تأثير على مخرجات الانتخابات و صنع نتائجها..

و في موعد المؤتمر الانتخابي، حضر مندوبو وزارة الشؤون الاجتماعية، و استقالت اللجنة التحضيرية، و تم تشكيل رئاسة للمؤتمر، و لجنة للصياغة، و تم تشكيل لجنة فرز، و لجنة طعون .. و تمت الموافقة على مشروع برنامج الجمعية و النظام الأساسي لها، و تم الاقتراع السري بسلاسة، فيما كان الفخ الكبير الذي يستهدف الانتخابات أو تجيرها على غير ما هو واقع معدا في لجنة الفرز ينتظر بفارغ الصبر لتزويرها .. كان فخ بحجم فك الديناصور..

أما معدّو الفخ، فكانوا على ما يبدو متوزعون هنا و هناك، معززون بشفرات و تفاهمات، و بتنسيق مسبق، و طوايا سيئة، و نوايا مبيتة .. تولّت لجنة الفرز الشروع في الفرز، فيما كانت دعوات الغداء إلى خارج القاعة تحن من كل جانب، و ذهب للغداء أكثر الأكثرية، بعد أن وثقوا و أسلموا الأمانة لذمة لجنة الفرز غير الأمينة، فيما بقينا عدد قليل نتابع و نتطلع لإعلان النتائج على مقربة من حرم لجنة الفرز .. لم أبارح قاعة لجنة الفرز، حتى لا يتكرر بصيغة أو أخرى ما يشبه “غداء الغشمي” و كرمه الباذخ..

تم إعلان نتيجة الانتخابات، و تم قلب النتائج عاليها سافلها .. كانت النتائج المعلنة عكس كل التوقعات .. حدثت جلبة و ضوضاء .. هرج و مرج من قبل المتبقين في القاعة الذين ينتظرون إعلان النتائج، و كان بعض النبهاء يتابعون بوجه حثيث نتائج الفرز أولا بأول، و منهم الشيخ محمد هزاع الذي كان أهم من شكك بل و أعترض على النتائج من خلال متابعته للفرز هو و آخرين، و تم تقديم الطعون، و كانت فوارق الأرقام المزورة تعد بالمئات، و هو ما جعل المشككون بالأرقام يتكاثرون..

طالبنا من مندوبي الشؤون الاجتماعية بإبلاغ الوزارة، و تحرير محضر، و تحريز صناديق الاقتراع، و إعادة الفرز .. و تم نقل صناديق الاقتراع إلى مقر الجمعية مدعومة بالحراسة .. حرسنا الصناديق، و هددنا باللجوء إلى النيابة و القضاء، و تم إعادة الفرز مرة أخرى و بحضورنا و حضور من طعن أو رفض النتائج، لتسفر عن نتيجة مختلفة تماما عن الأولى الموغلة بالتزوير، و حصل محمد عبد الرب ناجي على المرتبة الأولى، فيما حصلتُ أنا على الرقم الذي يليه في عدد الأصوات، و أتضح لنا أن هذا التزوير لم يكن بدوافع حزبية، بل بدوافع مناطقية عصبوية صغيرة..

كانت ولادة متعسرة و صعبة، و لكن هذا التعسر ـ الذي تحكيه أغنية المرشدي بكلمات فتاح “مخلف صعيب”ـ قد أكسب هذا المولود، مناعة و قوة و صلابة، و قدرة على الصبر و الجلد و المقاومة..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى