العرض في الرئيسةفضاء حر

السلسلة الأولى من تفاصيل حياتي “معدلة”

يمنات

أحمد سيف حاشد

الاهداء:

أهدي ما كتبت إلى المتعبين المكدودين التواقين للحرية..
والمنتمين للمستقبل الذي نروم..

استهلال وبداية

ما دفعني أن أكتب “بعض من تفاصيل حياتي” هي محاولة واطلالة على عهد عشناه بعسره ويسره.. بآماله وخيباته.. بفسحه وضيفه.. بتجاربه المتنوعة ومساراته المتعرجة، محاولين العبور إلى مستقبل ننشده، في واقع شديد الصعوبة والتعقيد، ومجتمع يئد العقل، ويقمع السؤال.. يتوق إلى الماضي ويعشق دجاه..

سبحنا عكس التيار.. أبحرنا في وجه الريح.. عشنا الصمود والتحدّي.. لم نيأس ولم نكف عن الأمل.. حاولنا إشعال النور في محيط يكتظ بالظلام الكثيف.. أشعلنا أعمارنا في محاولة لإزاحة بعض من هذا الظلام الذي يلبّد الحياة بسواده الحالك والمُحتشد..

بذلنا كثير من الجهد الكديد لزحزحة واقع أكبر من قدر.. أصبنا هنا وأخطأنا هناك.. فليتعظ من يأتي بعدنا.. يستفيد مما أصبنا، ويتعلم مما وقعنا فيه من أخطاء وخطايا، بعضها ساهم فيها عاثر الحظ ومنقلب القدر.

في معتركنا حاولنا الثبات في وجه ارتدادات وانكسارات الزمن.. تمرّدنا على رتابة المألوف وما يثقل الحياة من سأم وملل.. انتمينا للمستقبل وعشقناه بولع جموح.. رفضنا الظلم وتمردنا عليه.. قاومنا القهر ورفضنا الإذعان له..

قاومنا وتمردنا على كل السلطات التي أرادت تدجيننا وإخضاعنا في قطعانها، حتّى صيّرنا المستحيل ممكنا بعد اعتراك واستماته.. وإن ناخ علينا واقع كنّا عليه مرغمين، وقدر كان أكبر منّا فرض علينا شروطه ومشيئته، ومنع علينا كل حيلة واختيار، إلا إننا لم نستسلم، ولم نكف عن الحلم والمحاولة، والبحث عن المستقبل دون كلل أو ملل، رغم أثقال اليأس، و وطأة المحبطات..

وفي المقام نفسه ندعو ونحث من بعدنا أن يكونوا أفضل منّا في صناعة ومراكمة الوعي، وإصرارا على المحاولة والنجاح، وأكثر قدرة على تغيير الواقع مهما كانت وطأته، وتحويل ما أمكن من المستحيل إلى ممكن.. وحثهم أن يكونوا أكثر منّا استحقاقا للحياة والكرامة والإنسانية..

ونقول للبسطاء المكدودين ومن يسحقهم القهر لا تستلموا.. تمردوا وثوروا ما استطعتم على واقعكم الثقيل، وحاولوا كسر القيود التي تكبل أقدامكم، والسلطات التي تكتم بوحكم، وتغل الألسنة.. قاوموا ما استطعتم صنوف القهر والإذلال والإرغام الذي يُمارس عليكم، وأكثر منه إن تأتّى أو قدرتم عليه..

قاوموا من يريدكم أن تكونوا قطعانا داجنة، أو بشر منقادين ومستكينين ومستلبين الوعي والإرادة والفعل.. أمواتا مُستلبين الإنسانية والضمير.. مقموعين وممنوعين من ممارسة حق الشك والسؤال والمعرفة.. ابحثوا عن الحرية والمستقبل والحياة التي تليق بكم كأحرار ميامين، جديرين بالحياة والحب والكرامة والعدالة..

قولوا لمن أعتاش يوما على دمكم، وسرق حقوقكم وصادر أحلامكم: التاريخ نحن لا أنتم.. في التاريخ أنتم مجرد طغاة وقتلة ونهابة ولصوص مروا من هنا بلا مجد ولا كرامة..!!

قولوا لهم: أنتم مجرد طغاة وفاسدون تستقرون في نهاية المطاف في مزابل التاريخ المنتنة، وقيعانها السحيقة، ملعونين الذكر في كل حين، فيما نحن البسطاء المكدودين نستحق الحياة والكرامة والمجد كلّه.. نحن من نبني وأنتم من تهدمون.. أنتم الخراب كله..

لا بأس من بعض نرجسية وشموخ أمام خواء وادعاءات كل النرجسيين وحملة مباخرهم ووعّاظهم، الذين يدجنون العقل ويسممون الوعي، ويزيفون التاريخ، ويعتقلون المستقبل ويغتالون الحياة.. الذين يسفكون الدم، ويعممون الموت، ويعيثون في الأرض فسادا وانحطاطا وسقوطا، ودموية..

ما كتبته في هذا الجزء حرصتُ على جوهره ومضمونه العام، أما بخصوص الوقائع وما أكثرها فقد حاولت أتذكر ما استطعت تذكره، وأهملت بعض الوقائع تاركا إياها للذاكرة التلقائية، أو لعلني أذكرُها في مناسبات أخرى قادمة في موضع من الجزء الذي يليه أو ما بعده، دون أن أنسى في المقابل بين الحين والأخر أن أمرق بمناسبات أخرى، وبحضور أشد إلى الحاضر الراهن أو القريب منه، حتى لا أبقى مأسورا في الماضي وأحاديته..

أنتقل إلى الحاضر أو ما قرب منه بحسب الدواعي ورابط الصلة، وأهمية الاستحضار فيما أكون بصدده.. وفي بعض الوقائع العصية على استذكار تفاصيلها، حاولتُ أن أجد مقاربة للممكن وللواقع الذي عاشته..

وهذا الجزء ما هو إلا بداية لمشروع ربما يكبر ويتسع في المستقبل بحسب دواعي مقتضى الحاجة والحال، ودواعي الأهمية، وما يتسع لي من الوقت والعمر، أو ما بقي منه..

حاولت نشر جل ما كتبته في وسائل التواصل الاجتماعي قبل نشره في كتاب، ربما لأصل إلى المقاربة التي أبحث عنها، وإعادة تقيم ومراجعة ما تم نشره مرتين وثلاث، على أمل أن يأتي هذا الكتاب بأخطاء أقل، ربما ليتم تصحيحها أو جلّها، وإغناءها بالمزيد من الدراسة والمراجعة والتحليل في طبعة لاحقة..

***

السلسلة الأولى

(1)

حيرةٌ وأسئلةُ وجودية..!

لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالمِ المزدحمِ والمحتدمِ بالصراعِ والغضبِ والجنونِ.. المليءِ بالقتلِ والظلمِ والبشاعاتِ.. عالمٍ يُنحرُ فيه حقَّ الحياةِ باسم الحياةِ، وتُصلب فيه العدالةُ باسمِ العدالةِ، وتغيب عنه المساواةُ في تكافؤ الفرصِ حدَّ العدمِ أغلب الأحيان!!

مستبدون وطغاةٌ حكموا العالمَ، ولا زالوا بصيغةٍ أو بأخرى يحكمونه إلى اليومِ.. بنوا مجدهم الذي يتغنون به ويطرون عليه ويمجدوه، على حساب دماءِ الشعوبِ المنهوبةِ، واستباحة كرامةِ الإنسانِ، وجوعهِ ووجعهِ وتبديد أحلامهِ ورجائه..

فقراءٌ وتائهون ومحرومون.. مخدوعون حتّى الموت.. مُبتلون بلعنات الأقدارِ التي لا تتركهم ولا تكف عن اللحاق بهم دون أن تترك لهم فسحة أو مهل.. أشقياء بسوءِ الطالع وعاثرِ الحظِ.. يدفعون من فقرهم وعوزهم وشقائهم لغيرهم حياة الترف والبذخ والعبث.. منكوبون في واقع مراغم لم يصنعوه.. قدر أكبر منهم فرض إرغامه عليهم دون مشورة منهم أو سؤال..

الحياةُ بالبر والبحر والجو كاسرةٌ ومتوحشةٌ.. ممتلئةٌ بالظلمِ والألمِ والجنونِ.. عالم تسوده الغلبة في الغالب والأعم.. واقع مرعب أجاد في ضرب مثاله ووصف ملمحا منه الفيلسوف الألماني “شوبنهاور” بقوله: “كائنات معذِبة ومعذَبة.. لا تستطيع أن تعيش إلا بالتهام بعضها بعضا.. كل وحش فيها هو قبر حي لآلاف الوحوش، وطريقة البقاء فيها هي سلسلة من الموت المؤلم..”

وفي عالم البشر نجد هذا التوحش حاضرا بصيغ متعددة، بل أن المفكر والأديب الأمريكي “مارك توين” يذهب إلى إن الإنسان أكثر بشاعة وتوحش من الحيوانات، حيث كتب تحت عنوان “الجنس البشري الملعون” أن التجارب اقنعته بان الإنسان هو الوحيد الذي يحمل في صدره الضغن والأذى والثأر والانتقام والدناءة.. يتعامل مع نوعه بتشفي واذلال وامتهان واستعباد.. الحيوانات تقتل بدوافع لا واعية مثل الجوع أو الخوف، فيما الانسان يتخلّى فيه عن ضميره واخلاقه وإحساسه الانساني، ويرتكب أكبر الشرور فظاعة، وهي الحرب الجماعية المنظمة..

عالمٌ تمَّ حكمُه ولا زال محكوما في الغالب بأسوأ من شريعة الغابِ، وشروط البقاء فيه لازالت للأقوى أو الأدهى أو الأمكر، وكثيرون ممن يسفكون الدمَ باسم الله والمقدّس، أو باسم الفكرة أو الأيديولوجيا، أو العصبية المنتنة تحت أي مسمى، من أجلِ السلطة، أو من أجل أنانيةٍ مفرطةٍ ومستبدةٍ، وجشعٍ يزداد ويستمرُ ولا يتوقف.

***

هل وُجِدنا صدفةً أم ضرورة، أم هناك جوابٌ آخر، أم أنَّ الجوابَ سرٌّ عصيٌّ في عالم الغيبِ واللامعلوم؟! كيف جئنا إلى هذه الحياة؟! سؤال كان مبعثا لحيرة متكررة، أرّق كثير من الفلاسفة والشعراء والمفكرين قديما وحديثا..

الفلكي والفيلسوف والشاعر الفارسي عمر الخيام صاحب الرباعيات، والمتوفى سنة 1124م كانت حيرته وشكه سببا في أن يتم اتهامه بالزندقة والإلحاد؛ حيث قال:
“لقد أُكرهت على نزول ساحة الحياة
فما زادتني زيارتها إلا حَيْرة …
وها أنا ذا أهجرها مكرهاً
فليتني أعلم القصد من رحيلي، ومن مقدمي وإقامتي!!”

***

ويبدو أن الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة (الطلاسم) قد أستل فكرة مطلع قصيدته من تلك الرباعية.

تساؤلات وجودية كثيرة أثارها الشاعر إيليا أبو ماضي في قصيدة طويلة له مكونة من 340 بيت تقريبا أستهلّها بـ :
“جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ
وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ
وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ
كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي..
لَستُ أَدري”

ثم تتابع الأسئلة وتتناسل وتتكاثر وتغلق كل مقطوعة منها بجواب لست أدري، غير أن هذا الإغلاق كان ممتلئا بالحيرة التي تثير كثير من الجاذبية المعرفية، وتستحث مزيد من الفضول والمحاولة للاستكشاف وسبر الأغوار، وتلقي مزيد من الأسئلة الولادة للمعرفة.. الأسئلة الفاتحة لثقوب الشك التي تتسع، ومطارقها التي تطرق أبواب الوعي، وتظل تلح عليه حتى تُفتح الأبواب والمغالق..

إيليا أبو ماضي الذي عنون قصيدته بـ “الطلاسم” تحكي وتسأل الغموض الداعي للكشف، والمبهم الذي يدعي للإزاحة، واللغز الباحث عن الحل.. يسأل البحر والدير والمقابر.. ويثير الأسئلة الفلسفية القلقة التي تحاول إعادة الوعي المستلب، وإزاحة اليقين الزائف..

“لست أدري” كان يلقيها في نهاية المقطع كمن يسأل النجاة بعد تمرير السؤال الجريء الذي يريد.. أو هكذا أظن.

ويوغل إيليا أبو ماضي في الأسئلة، ويسأل نفسه أسئلة فلسفية سبق أن أثارها فلاسفة ومتكلمون قبل عهود وقرون مضت هل يكون الإنسان في هذا الوجود مخيرا أم مسيّرا غير أنه قدم هذه الإشكالية في قالب شعري جميل:

« هل أنا حر طليق أم أسير في قيود
هل أنا قائد نفسي في حياتي أم مقود
أتمنى أنني أدري ولكن…
لستُ أدري»

وفي مقطع آخر من القصيدة يقول:

أَنتَ يا بَحرُ أَسيرٌ آهِ ما أَعظَمَ أَسرَك
أَنتَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ لا تَملِكُ أَمرَك
أَشبَهَت حالُكَ حالي وَحَكى عُذرِيَ عُذرَك
فَمَتى أَنجو مِنَ الأَسر وَتَنجو..
لَستُ أَدري

وفي مقطع ثالث:

“فيكَ مِثلي أَيُّها الجَبّارُ أَصداف وَرَملُ
إِنَّما أَنتَ بِلا ظِل وَلي في الأَرضِ ظِلُّ
إِنَّما أَنتَ بِلا عَقل وَلي يا بَحرُ عَقلُ
فَلِماذا يا تُرى أَمضي وَتَبقى..
لَستُ أَدري”

***

كيف جئنا؟! سؤال قبل ما يقارب المائة عام أثار كثير من الردود والجدل.. وأستمر.. أما اليوم فنحن في وسط يبدو أكثر حلكة وقتامة من ذلك الأمس.. سؤالٌ يمكنه أنْ يُكلِّفك حياتك إن أطلقت لعقلك العنان بحثا عن جواب يحلق بعيد عمّا أعتاد ودرج عليه الناس..

باسم الله والذود عنه، ربما تُزهق روحك، ولا تجد ما تدافع به عن نفسك عند شيخ علم مزعوم، لا يريد أن يسمع إلا صوته وحده، أو جماعة دينية لا تقبل منك نقاش أو جدل إلا بمساحة قمقمها الصغير، ومحبسها الضيق وفتواها الصارمة، أو سلطة مأسورة أو محكومة بثقافة الماضي التي تستسهل الموت أو دونه لمجرد رأي أو اجتهاد أو تفكير، وربما يطالك مثل هذا الاستسهال حتى بمجرد وضع سؤال على الطاولة، أو إثارة تساؤل في أوساط مجتمعك التي تعيش فيه..

هناك اسئلةٌ كثيرةٌ منطقيةٌ ومعرفيةٌ الإعلان عنها أو البحث عن إجابة لها، في وسط صدئٍ ومتخلف، ربما يزُج بك في صدام محتدم مع واقعك الثقيل والقاسي، أو تدفع بك إلى المعتقلِ، أو تُودي بك إلى حتفك الأكيد، وتُصيُّرك قربانا، وجسر عبورٍ لجاهل، يبحث عن الجنةِ والغفرانِ بإزهاق روحك الشفيفة؟!

***

يرى البعضُ أنَّ الحياةَ هي شقاءٌ وتعاسةٌ وعذابٌ للنفس.. وأنَّ الفوزَ بها إنَّما هو فوزٌ بالألمِ والنَّدم والوهمِ، وما يتصوره البعضُ خسرانا، يراه البعضُ الآخر تحرراً مسبقاً من آلام الحياةِ وأوجاعها ومشقَّاتِها التي لا تنتهي إلاّ بالموتِ.

الروائي الأمريكي “هرمان ملفيل” مؤلف رواية الحوت الأبيض “موبي ديك” يرى “إن الحياة مجرّد مزحة فظة مارستها الآلهة علينا، وإن أفضل ما يمكننا فعله هو الانضمام إليهم وتشارك اللعبة والضحكات معهم.” فيما الحياة لدى المؤلف المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير ليست سوى خشبة مسرح وممثل بائس مستمر في شعوره بالقلق طوال ساعته على المسرح، وحكاية يملؤها الصخب والغضب ولكنها بلا دلالة.

الفيلسوف الألماني “أرتورشوبنهاور” يرى أنّ الحياة هي المعاناة، وأن الوجود الإنساني فوضويّ، وبلا معنى. ويرى “نيتشة” إن الحياة لم تكن عادلة أبدا، وينكر وجود أي عناية إلهية مشرفة على شئون البشر. أمّا الروائي الروسي “دوستويفسكي” فيرى الحياة هي الجحيم. ويراها “سقرط” الابتلاء، و”راسل” يرى إنها “ليست إلا منافسة يريد فيها كل منّا أن يكون المجرم لا الضحية”. وعلى الضفة الأخرى الحياة عند “بيكاسو” هي الفن، وعند “غاندي” هي الحُب، وعند “اينشتاين” هي المعرفة، وعند “ستيفن هوپكنز” هي الامل.

***

في سباق الـ 300 مليون حيوان منوي، واحد فقط من يلقِّح البويضةَ، ويتخلَّق في رحم الأمِ، وما عدا ذلك يفنا ويموت. أي صدفة هذه التي تصل فيه فارق النسبة 1 – 300 مليون، وإيُّهما المحظوظُ، هل من ظفر بالحياة أم من أدركه الموتُ والفناءُ؟!
الفيلسوف الروماني المكتئب “إميل سيوران” يرى إن المحظوظين هم أولئك الذين لم يوصلوا أصلا إلى البويضةِ، أما التعساءِ فهم من وصلوا إليها..

ويرى البعض أنَّ ارتقاءك بوعيك، وتراكم معرفتك، يزيد من جحيمك، ومعاناتك في الحياة.. يقول “شوبنهاور”: «لقد بينت الطبيعة أنه كلما تفهم أكثر، كلما تزداد قدرتك على الشُعور بالألم، ولا تصل الدرجة القصوى من الفهم، إلا وتصل إلى الدرجة القصوى من المعاناة». ويقول “كافكا”: أول علامات بداية الفهمِ أنْ ترغب في الموتِ، وأنَّ الإفراطَ في الوعي وإدراك الأشياءِ اشدُ خطورة من المخدراتِ.. ويرى سيوران أنَّ الوعي لعنةٌ مزمنةٌ، وكارِثةٌ مهُولةٌ، بل يذهب إلى القول إن الجهل وطن والوعي منفى.. فيما يؤكد دوستويفسكي إنَّ الإفراطَ في امتلاك الوعي علَّةٌ مرضيةٌ حقيقيةٌ وتامةٌ..

***

نجاحُ الواحد في سباق الـ 300 مليون، هو الواحد الذي كان سبباً لوجود كل واحد منّا؟! وجودٌ لو حاكيناه ربما أختاره البعضُ على أمل، وربما رأى البعضُ في المجهولِ شك، ولا أمل في عالم مملوء بالوهمِ والأكاذيبِ..

ربما رفض البعضُ هذا الوجود لو أُتيحت له الحرية و الإرادة في الاختيارِ.. الاختيارُ الذي يقوم بحسب فلسفة ورأي هؤلاء على إدراك عميق ومعرفةٍ مستفيضةٍ..

قال “دوستويفسكي “: «لو كانت ولادتي مرهونة بإرادتي لرفضتُ الوجودَ في ظلِّ ظروفٍ ساخرةٍ إلى هذا الحد. » وفي موضع آخر يقول: “أو ليس من الجنونِ أن نأتي بأطفالٍ في ظل هذه الظروف الحقيرةِ.”

“اميل سيوران” يقول: «مِن أجل نشوة لا تتعدى تسع ثوانٍ ، يُولد إنسانٌ يشقى سبعين عاماً».. «اقترفتُ كل الجرائم باستثناء أن أكون أباً». ويقول أيضا في نفس الصدد «أولئك الأبناء الذين لم أرغب في مجيئهم، ليتهم يدركون السعادة التي يدينون لي بها».

ويرى “شوبنهاور” إن «التضحية باللذة في سبيل تجنب الألم مكسب واضح» ويقول عن الحياة إنها «تتأرجح كالبندول بين الألم والملل».
وأوصى الشاعر والفيلسوف أبو العلاء المعري أن يكتبوا على قبره:
«هذا ما جناه عليَّ أبي … وما جنيت على أحدِ»
وتبدو الحياةُ في نظر فرانس كافكا حرب: “حرب مع نفسك.. وحرب مع ظروفك.. وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف”.

فيما يرى أنطون تشيخوف أنَّه مع الموت ستكون أنت الرابحُ الأكبرُ، فلا حاجةَ للَّهث وراء الطعامِ ولا الشرابِ ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة ابداً للجدالِ مع الآخرين.. أما إميل سيوران في مأساة الوعي والوجود، فيرى إن الموت هو خلاصنا الأخير..

ويسخر الكاتبُ والأديبُ الأمريكي مارك توين من الحياة والموت فيقول: “يُولد الناسُ ليؤلِم بعضهم بعضا، ثم يموتون” ويسخر آخرين من عبثيةِ الحياةِ كمثل الذي قال: خُلقتْ القطط لتأكل الفئران، وخُلقتْ الفئرانُ لتأكلها القطط.. وتساءل بعضهم عن هذه العبثية بقولهم: إذا كنّا نعرف أنّ من يولد الآن، سيموت فيما بعد .. فلماذا تتركنا الطبيعةُ نواصل ارتكاب هذه الخطيئة؟!!..

***

كم هي الصدف التي أنتجتها أو حركَتها الضروراتُ في عملية طويلةٍ ومعقَدةٍ، وربما محيَرة حداً يفوق الخيال؟!

سلسلةُ طويلةُ من الصدف والضروراتِ لا تكُف ولا تتوقفُ، لا ندري بدايتها الأولى، ولا ندري إلى أين تسيرُ، ولا ندري أين ستنتهي إن وجد للأمرِ نهاية!
المكانُ لا يكُفُّ عن السير، والزمنُ يتسرمد للأبد، ومألات الكون غامضةٌ ومجهولةٌ.

ولكن لماذا من علِق منّا في رحمِ الأم، وتخلَّق تسعة أشهر، يخرج إلى واجهةِ الكونِ صارخا بالبكاءِ؟! هل هذا البكاء أو الصراخ إعلانُ وجود، أم هو رفضٌ واحتجاجٌ على هكذا وجود؟! هل هو فزعٌ من العالم أم خوفٌ من المجهولِ؟!

لماذا لا نخرج إلى واجهةِ الكون فرحين أو مقهقهين، أو حتى مبتسمين؟! لماذا المولودُ من بني البشر لا يستهلُّ حياته إلاّ بصرخةِ بكاءٍ حادةٍ؟! هل صرخةُ البكاء هذه هي تعبيرٌ عن رفضٍ لقدرٍ لم يخترْه هذا المولود، أو لم يكن لإرادته فيه شأنٌ أو خيارٌ؟!
يحاولُ أنْ يجيبَ الشاعرُ والكاتبُ المسرحي الإنجليزي وليام شكسبير بقوله ساخرا: “في لحظة الولادة نبكي؛ لأننا قادمون إلى مسرحٍ مكتظٍ بالحمقى”.

بين صرخةِ الولادةِ وشهقةِ الموت أو الرحيل بصمت عمرٌ مُثقلٌ بالمعاناةِ، وعَالَمٌ من المتاعبِ والأحزانِ، والأشياء، والتفاصيلِ.

عندما تتعثر خطاك على الدوامِ، ويلحقُ السوءُ بحظك كلعنةٍ لا تفارقك، وتخيب أمنياتُ حياتك، وتبطش بك الأقدارُ يميناً وشمالاً، وتصيرُ فريسةً للحرمانِ والمتاعب.. هل تكفرُ بنعمةِ مَنْ كانَ سبباً ومعجزةً في وجودك، أم تلعن تلك الصُدفة التي جلبت لك كلَّ ما هو تعيسٌ وخائبٌ؟!

***

أبي وأمي .. جدي وجدتي .. لولا هؤلاءِ لما أتيتُ إلى هذا الوجود، وكنتُ في حكم العدمِ.. وينطبقُ هذه على التراتُبياتِ كلّها.. إلى كلِّ الأجيال.. إلى الجذر الأول.. إلى الإنسان البدائي الأول على أي نحو كان.
ماذا لو أجهضتني أمي في بطنها، حالما كنت لا أعي، ولا أفقهُ شيئاً ولا أبالي بألم؟!

ماذا لو انتحرتُ يوماً، أسحقُ فيه أنانيَّتي، وغريزةً تتشبث بحياةٍ من جحيمٍ، أبقتني مثقلا بمعاناةٍ مؤلمةٍ، وآلامِ عمرٍ مُجهد، امتدَّ طويلاً حتى شارف على بلوغِ كهولته؟!!

وماذا نقول عمّا أسمَوه قتل الرحمةِ إشفاقا بصاحبه، وخلاصا من مرضٍ أدركهُ اليأسُ، وألمٌ يلسعُ كالنارِ، لا يُوقفه إلاّ عتقُ النفسِ وتحريرُها من محبسِها الجسدي الضيّق، والأشدِّ من محبسِ الحديدِ..؟!!

***

(2)

زواج أمّي قبل وجودي

قبل وجودي تزوجت “أمّي” مرتين قبل أبي.. كنتُ يومَها في حُكمِ العدمِ او هكذا أتخيل الأمر.. يبدو ذلك العدمُ حالَ مقارنتهِ بوجودي اللاحقِ خالياً من كلِّ شيء.. فراغٌ كبيرٌ، لا مكانَ له ولا زمان.. فراغٌ لا وعاءَ له ولا حدود.. ليس فيه همٌّ ولا معاناةٌ، ولا جحيمٌ.. لا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ من مظاهرِ الإحساسِ، أو الوجود من أيِّ نوعٍ كان.. حالةٌ لا يمكن تصوُّرُها أو وصفها بغير العدم، أو ما في حكمه، أو مقاربا له..

لتجد مقاربةً لفهمِ عدمك، عليك إطلاقُ عنانِ خيالك، لتتصوَّرَ هذا العدم.. عليك أنْ تتخيَّلَ عدمَك إنْ كنتَ تَغرقُ في الخيالِ، والتفكيرِ العميقِ.. عليك أنْ تطلقَ الأسئلةَ في فضاءاتِ استكشاف الوجودِ واللاوجود..

اسأل وعيك إنْ كنت تعي، أو خيالك إن كنت ذو خيال: ماذا كنتَ قبلَ ألفِ عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكونُ قبلَ مليون سنة؟! ماذا كنت تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى الصفر لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفرِ دون.

وبعد وفاتك ربما لن تعني الوجود في شيء، حتى وإن بقي لبصمتك فيه أثر تقول مر من هنا، لن يبقى غير مرورك العابر والقصير في هذه الحياة التي مرقت منها بسرعة الضوء، وما كنتَ عليه فيها..
عمرك القصير الذي يشبه لمح البصر، أو أسرع منه بألف ومليون بمقياس الزمن المسرمد في الأزل، لا بأس هنا أن تطلق عنان خيالك، ولا تثريب عليك، ومع ذلك ربما في رحلة وجودك تغمر الإنسانية بخير وجميل، وربما تقترف الفظاعات، وترتكب الخطايا، وتورثها للوجود قبل تحولك أو رحيلك عنه، ودون أن تعلم نهاية لها، وربما أنا وأنت ـ إن لم يكن في حكم الأكيد ـ وليدا لها، وكل في وجوده له نسبة في الخير والشر قد تنقص وقد تزيد دون محض..

زوج “أمّي” الأول

كان زوجُ “أمي” الأول من أقاربها.. لم يتعدَّ عمرها عندَ عَقدِ قرانها به الاثنا عشر عاما، وهو يَكبُرُها بأعوام.. استمرَّ زواجهما نحو أربع سنوات، ولم تنجب منه، ربَّما لأنه جاء قبلَ طمثِها الأول بسنين، ومع ذلك لم اسمعْ من أمِّي يوما أنَّها ذمّت هذا الزواج، أو قدحتْ فيه، إمَّا لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكرياتٍ وحنينٍ جميل تنزع إليه..

أراد زوجها أنْ يذهبَ بها معهُ إلى عدن، حيثُ يعملُ ويقيم، غيرَ أنَّ أبَ الزوج كانت له سلطةُ القرار الأول في الرفضِ أو القبول، وكان منه المنعُ والرفضُ جازما وحازما، وفرض على الزوجين خيارهُ هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيلِ.. كان بإمكانهِ أنْ يتدخلَ ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجتهِ في القرية، وهو ما حدث بالفعل، وكان باب لمشكلةٍ يوما تداعت..

كان على الزوجةِ رغمَ صِغَرِ سنّها، بذل ما في وسعها لخدمةِ أسرة الأب وطاعته، أمّا الابنُ فيجبُ أن يكون خاضعا ومطيعا، لا يُرد للأب أمرا، ولا له حقُّ أنْ يعترضَ أو يغالبَ إرادةِ والدهِ إذا ما شاءَ وأراد..
كان من المعيبِ، بل ومن المعصيةِ والعقوقِ أنْ يتصدَّى الابنُ لرغبةِ وسلطةِ أبيه، حتى وإنْ سحقَ الأبُ سعادةَ ابنهِ وحُبهِ لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطةُ أسرةِ الزوجةِ هي الأخرى، وبدعوى حمايةِ ابنتهم من تعسفِ أسرةِ الزوجِ، فتبدأ المقامرةُ بمصيرِ الزوجيةِ ومستقبلِها، وكثيرا ما كان يؤدّي هذا التدخلُ والتضادُ، إلى الطلاق والفراقِ الكبير..

تدخلتْ سلطةُ “أم أمّي” وكانت الأم ذو شخصيةٍ نافذة، وإرادةٍ قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجين يُجهشانِ بالبكاء، لا يريدان طلاقا أو فراقا.. الاثنان يُجهشانِ بالبكاء، ويزيد من مرارة الحالِ، أنْ ليس لهما في مصيرِ زواجهما وحبِّهما حولا ولا قوةً، ولا يدَ لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرةُ أربابِ الأسر، وباحتدامِ الخلافِ بين أبِ الزوجِ وأمِّ الزوجةِ، وعدم الاكتراثِ والحفاظ على ما أمكن، خسر الحبُّ المغلوبُ بالطاعةِ والمقامرة، وأنتهي به المآلُ الى الُخُلع، والفراقِ إلى الأبد..

***

زوج “أمّي” الثاني

تزوجتْ “أمي” للمرةِ الثانيةِ من منطقةٍ بعيدةٍ نسبيا، ومن غيرِ الأقارب.. ولكنْ هذا الزواجُ كان قصيرا وعابرا.. لم تمكث “أمّي” لدى هذا الزوجِ الطيبِ والكريم، غيرَ أسابيعٍ قليلةٍ، كان الحبُّ ناقصا، أو من طرف واحد، ولم يستطعْ سخاءُ الزوجِ وكرمِه، أن يسدَّ ما نقصَ من الحب الفاقدِ نصفُه..

لقد تم زفاف “أمّي” في زواجها الثاني، دون سابقِ معرفةٍ بمن أرادها للزواج، بل ودون أنْ تراه أو تُستشار، ودون أنْ يكونَ لها كلمةٌ في قبولٍ أو رفضٍ أو خيار.. لم تراه “أمي” إلا في ليلةِ الزفافِ.. كان الزواجُ بالنسبةِ لـ “أمي” ورُبّما للزوجِ أيضا، أشبهَ بالبختِ، وضربِ الحظ، واليانصيب..

يبدو أنَّ قلبَ “أمي” لم ينجذبْ لمن أختاره لها أهلُها، أو لمن كان له طلبُ اليدِ والاختيار.. ربما أخفق حظُّها، أو كان قلبُ “أمي” مُحبطا، أو معلَّقا في رجاءٍ يائس، أو ربما لازال بعضٌ من حبِّ قديمِ ينبضُ بسرٍّ وكتمان.. فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتَها، وتظل في الذاكرة فترةً قد تطول وتمتد إلى الكهولةِ، ويظل الحنينُ إلى القديم يرفض أن يغادر أو يموت..

ما لبث عَقد هذا الزواج أن انفض وتم الفراقُ باكرا، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنّ الحمل أدركه، ورُزقت “أمي” منه بنتا، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفةٍ باهظةٍ، تستمر من الولادة حتى آخر العمرِ.. واقعٌ اجتماعيٌّ ثقيلٌ وظالمٌ، يحملها على أن تدفعَ ضريبةَ وجودِها وجعا وإرغاما، وانتقاصا يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل وتلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها الترابُ!.

لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجةِ أخطاءِ غيرِه، وعلى هذا النحوِ من الكلفةِ الباهظةِ التي ترافقه حتى اللحظةِ الأخيرةِ من العمر، بل وتمتدُّ إلى تحتِ الترابِ؟! لماذا بني البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمل نتيجة خطيئةٍ وأخطاءٍ لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعوها هم؟!

لماذا الأبناءُ والأحفادُ يتحملون أخطاءِ وخطايا الأجدادِ البعاد؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملوا خطيئةَ أمِّنا حواء وأبونا آدم إلى آخر الزمانِ، إن كان للزمان آخر وختام؟!

أختي هذه بنقاء البلور وبساطةِ الناس الطيبين.. مستسلمةٌ للأقدار بصبر من ليس له حولا ولا قوة.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمنِ أخطاءِ آخرين.. مستسلمةً لأقدار لم تصنعْها، ولم تشاركْ في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا. عاشت طفولةً بائسة، وزُوجت وهي طفلةٌ لرجلٍ يكبُرها بحدود الثلاثين عاما.. أُختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدارُ السيئة على غيرِ ما تريد… آخرُ نكبةٍ لها رحيل ابنتها المريضة، وقبلها مُصابٍ جللٍ أصابها وهو مقتلُ ولدها في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تمّ الاستيلاءُ عليه من قبلِ أمراء الحرب، وأرباب الفسادِ، وتجار الحروبِ والأوطانِ.. حتى اسمها يبدو أنه قدرٌ مخادعٌ..

اسمها ليس على مسمى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر.. حتى أسماؤنا الجميلة منها في جلّها أو بعضها بِتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر، أنها كانت مجرد وهمٍ على وهمٍ، وسرابٍ فوق سراب.

***

زواج “أمي” من أبي

كانت “أمي” لا تريد الزواج مرةً ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني.. ولكنْ تمّ إقناعها بالزواج للمرةِ الثالثة من قِبَلِ إخوانها، وإغرائها بوصف “أبي” ـ التي لا تعرفه ـ بالشهامةِ والمروءة والشرف، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد لهما..

قالوا لها: إنّ البنتَ لن تفييدك في حياتِك، إنّها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خيرٌ معين وساندٌ في حياتك، وضمانٌ لمستقبلك في قادم الأيامِ، وما قد تحمله لك من نوائبِ ومجهولِ..

كلٌّ له منطقهُ وحججهُ في ظل واقعٍ ملغومٍ، وغير آمنٍ للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطةٌ عميقةٌ ومتجذِّرةٌ، وفي المحصلةِ كلمته عليها هي فصل الخطاب.. وليس لـ”حذام” قولٌ هنا، ولم تقطعْ “جهينة” قولَ كلِّ خطيب..

“أبي” شاهد “أمي” في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها.. تزوج “أبي” قبل “أمي” أربع نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدةٍ بقت في عصمته، إنها أم أخي علي.. كان علي الولد الناجي الوحيد من الموت، والمتبقي لها، وظلت زوجةً لأبي حتى توفاها الأجل، وصارت “أمي” أمّا لسبعة ناجين بناتٍ وبنين، وكانت في زواجه مسكَ ختام..

عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى “البقطة” علّقت على هذا الزواج بقولها: “حنش مع محنوش” وكأنَّ لسانَ حالِها يقول: خيبتها على خيبته.. “جنِّي تزوج جنِّية”.. تعدد زواج “أبي”، وتعدد أزواج “أمي”، فـ “أبي” سبق أن تزوج قبل “أمي” أربع زيجات، وأمي تزوجت قبل “أبي” اثنين، وتلاهما “أبي” ثالثاً..

رُبما بدأ الأمرُ في نظر البعض تجاربَ فشلٍ متعددةٍ من الجانبين، ورُبما نظر البعضُ أنّ كليهما بات خبيرا في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواجُ إلى نهايةِ العمر، متحديا ومغالبا مصائبَ وأحداث عظام..

وفي حياتها اختارت أن يكون قبرها جوار قبر أبي في القرية، الذي سبقها بالرحيل عشرين عام، وكان اختيار مرقدها الأخير هو وصيتها الوحيدة والأخيرة، وتم نقل جثمانها من صنعاء إلى القرية لترقد بجواره بسلام وسكون..

لقد استمر زواجهما طويلا في صمودٍ اسطوري ندر مثلُه.. زواجٌ اشبه بزواجِ البحرِ والجبل.. عراك دائم مدّاً وجزرا.. ضجيجٌ مستمرٌ لا يقرُّ ولا يستكين، ولكنه لم يتخلّ أو يُدرْ احدٌهما ظهره للآخر في قطيعةٍ تدوم.. عظمةُ هذا الزواجِ هو صمودُه الخرافي، واستمرارُه مقاوما كلَّ عواملِ الفراقِ والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أيِّ صدامٍ أو احتدام.. لم يستسلم لعاملٍ أو طارئ، وإنْ كان بحجم كارثة، ولم يهتزْ بجزعٍ أو هلع، أو بقطع رِجْلٍ ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكا للختام..

أمّا أنا فكنتُ الجامعُ والمشتِركُ الذي ظلَّ يمنح الصبر والبقاء، والرقمُ الذي رفض أنْ يخرجَ من حسابِ المعادلة بينهما.. أنا الولدُ الغائبُ الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عَقد قرانِ “أمي” على “أبي”.. أنا الذي سيكونُ في حياةِ أمّي ضماناً لمستقبلها في قادمِ الأيام، وما قد تحملهُ من نوائبَ ومجهول.. وكنت لها من وجهة نظرها هذا الضمان، بل وربما الوجود كلُّه..

***

(3)

وجودي وولادتي بغير إرادتي

في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي آفل، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته.. مسقط رأسي كان في حجرة حاسرة الضوء، وميالة للعتمة.. كواء بالكاد تسمح بمرور بصيص من ضوء باهت، بزاوية مكسورة تصد الضوء.. الضوء الخافت لا يكفي، وعليك أن تمعن نظرك.. تجهد عينيك قليلا لترى أشياءك..

الباب إن أنفرج أو فُتح إلى أقصاه.. بالكاد يمر قليل من ضوء خافت.. يتسلل من طابقنا العلوي.. يتكسر في درج الممشى إلى الأسفل.. يتلاشى في طريق ملوي على قطب الدار.. يصل إلى الحجرة شحوب متعب..

في قاع الحجرة هناك وعاء مملوء بالماء واشياء أخرى، وفي الكوة حلتيت ولبان عربي وبخور.. وسراج تحاول ذبالته المحترقة أن تنشر ضوء منهك بين السقف والجدران.. السقف من أعواد أشجار العاط، وخشب السدر المثقل بالطين.. المطر إن كب على السطح بات قاع الحجرة أوعية وآوني تتلقّف نطفة..

أمي تتلوى ألما.. تعيش لحظات مخاض.. حبل مربوط إلى خشبة سقف الحجرة.. يداها ممسكة عُقد الحبل بثبات أملا في عبور جدار من وجع وولادة.. ولولة والألم يمتد ويزداد، والوسواس يوسوس، فيدركها خوف الموت نفاس..

خرجتُ من بطن الأم إلى ظهر الدنيا أصرخ ببكائي محتدا محتجا على مجهول قدمتُ إليه دون إرادة.. كنتُ منهوكا ووجهي مكتظا بوجوم وعبوس.. ولدتُ شقيّا في ريف ناء صعب..

لا حول لي ولا قوة.. أقدار فرضت ما ليس لي فيه حيلة.. استقبلت الحجرة وجودي العابث بضوء خافت كاد صراخي يمزقه إربا.. لو كان خيار لي قبل وجودي وبوعيي هذا لما أخترت وجودي.. وسخرت من حياة فيها البؤس عميم.. حياة تكتظ بالظلم والعبث المكتظ..

استهديت على تاريخ ميلادي بصعوبة.. ولدتُ في 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان وعام هجري تاهت مني أرقامه.. قالوا طالعك الحوت والبرج هو الدلو.. وقالوا في حساب الأحرف برج الأسد على اسم الأم، وقالوا الجدي “شواح بواح” على اسم الأم المتقادم عهده..

يدا العمة زوجة عمي، استقبلت جسدي المنهك من أول طله منكوت الرأس.. قالوا المولود يأخذ من قابلته بعض طباع وصفات.. هذا ما يُحكى ويشاع على العادة في قرانا المسكونة بحكايات الجدّات..
خبر وجودي المتعوس خبر سار على وجه الأهل.. فرحة تموج على وجه أبي.. ووجوه الأخوال تنبض بهجة.. أمّي غمرتها الفرحة.. كان القادم ذكرا لا أُنثى.. ذكر يُبنى له متراس.. وعي ذكوري ووجوم يكلح إن كانت المولودة أنثى.. لازلنا نعيش الزمن الغابر..

الأنثى أمر واقع، وفيه قبول المُكره.. مضض من أول وهلة.. ثم يعتادون عليه.. كانت أمي تميزني بفيض زائد.. في الحب والمأكل والمشرب.. تريدني بسرعة ريح صرصار أكبر وأشتد في وجه الدنيا..
كان لخالي صالح باعا في التنجيم وفي “الرمل”.. يبحث في طالعنا والأبراج.. أسماني أحمد.. قال إن ميلادي سعيدا، بل وأكثر من هذا قال، غير أن الواقع كان فيه القول الفصل.. حظ عاثر وبؤس ومتاعب.. نصيبي من السعد قليل.. البؤس حل معي طوال عقود ستة.. صار بعض مني أو صرتُ بعض منه.. تعاندني الأقدار وأحيانا تتخاتل وتخادعني.. حياتي بؤس وشقاء.. حظي في وجه الريح أشتات، وأهداب تقاتل سيف..

يتوالى السوء والحظ العاثر.. الفرحة إن تمت فبشق النفس.. أجتهد وأكدُّ وحصاد لا يشبع جوع.. جهد يُضني وحال يشتد.. الجني قليل، والقلة تستولي على الوفرة.. الوفرة تستولي عليها الغلبة بالسيف.. صرت أناهز ستينا والحال أقرف من أمس.. كد وتعب.. مجهول وضيق في العيش وظنك حياة..
أنا الموجود دون رضاي.. جئت إلى بطن الأفعى.. تلويني الأفعى كي تهضمني على جذع شجرة يبست من عهد، وصارت أصلب من صخر صوان.. تهرس جمجمتي وعظامي.. تعصرني بالحمض الناري.. تحرق آمالي.. الواقع عسف ووبال.. أنا موجود غصبا عني.. وجدتُ ولم أجد فسحة رفض قبل وجودي.. ولا مهلة فيها أشاور نفسي.. قطعوا عني طرق العودة..

النار أمامي تجتاح مداي، والبحر يركض بعدي فاغر فاه.. أنا لم أختر اسمي أو معتقدي.. لم أختار مكان وجودي.. ولا حتى تاريخ الميلاد.. الغربة تلاحقني والويل يتوعدني، أعيش معركة الإرغام ليل نهار.. والمجهول يترصد خطواتي ذهابا وإياب..
لو كنت على وعيي هذا وكان علي أن أختار.. لاخترت عدمي، ورفضت وجودي بدل المرة ألف.. وجودي قسري رغما عنّي.. ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم..

أُكرهتُ على هذا الحال.. أُكرهتُ حياة ووجود.. لست راض بحياة يفرضها البؤس ويتعممها الطغيان.. لست راض عن حال فيه استغلال إنسان لأخيه الإنسان.. يسفك دمه ويزهق روحة في عبث لا تجرؤ عليها وحوش الغاب.. هل قرأت كتاب “الجنس البشري الملعون” لـ “مارك توين”.. أنا من وجد نفسه في مقولة فيلسوف قال: “من يوم ميلادي وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق”.
أحيانا احتفل بميلادي كسرا لروتين العام.. بعيد الميلاد أسافر بعيدا عن وعيي.. أخرج من وعيي محتجا أخفف بعض معاناة وجودي.. أنتزع لحظة سعد من رأس عام قادم ليس أقل سوادا من سابقه.. الكاهل مثقل بالحزن، والحظ العاثر يرافقني طوال العام..

الواقع سيء، والحقيقة مُرة.. قالتها نوال السعداوي.. الحقيقة “وحشية وخطيرة”؛ فألوذ بخيال لأعوض فقداني وكثيرا من حرماني.. أتمرد على ما يفرضه الواقع من أقدار في وسط تتقبله الكثرة بخضوع وسكون..

في وجه الظالم أقول “لا” وأكررها في سط ينعم بـ “نعم” طوال العام.. أتذكر مجد الأمل المنهك بالوعي وهو يقول: “المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم.” أدفع كلفتها مهما كان كبيرا.. أدفع كلفتها وأمضي.. أدفع كلفة ولا استسلم.. جحيمي هذا ونزيف الروح بعض منها..

***

زر الذهاب إلى الأعلى