العرض في الرئيسةفضاء حر

الارياني كان متميزاً ونشيطاً

يمنات

عبدالباري طاهر

ثلاثون سنة مرت، وما تزال أربع بنات حرمن من حنان والدهن ودفئه وحمايته يواصلن الانتظار والترقب لعودة الأب المخفي قسرياً، رغم الغموض الذي يكتنف مصيره، ما زلن متمسكات بقناعة ترسخت في قلوبهن بأنه ما زال حياً وسيعود إليهن ذات يوم، قناعة غرستها والدتهن التي حرمت من مودة زوجها، وظلت تنتظره عشرات السنوات قبل أن يخطفها الموت ولسانها يتلو وصيتها الخالدة في مسامع بناتها بضرورة مواصلة البحث عن والدهن دون يأس، مثلما انتظرته هي بقية حياتها ورحلت وفي قلبها خط منحوت باسم الزوج المخفي..

مطهر عبدالرحمن الإرياني ولد في صنعاء عام 1942م واعتقل الزوج المحب والأب الحنون في عصر يوم الـ23/10/1982 بعد خروجه من منزله متجهاً نحو عمله لدى وكالة الحسيني للسيارات، دون أن تعلم زوجته وأربع طفلات أكبرهن 8 سنوات وأصغرهن سنتين أي شيء عن ظروف اختفائه، وأن ثلاثة عقود ستمضي وما يزلن يجهلن مصيره أو الحالة التي هو فيها..

مطهر الارياني كتب على جدران غرفته قبل وداعه الأخير لمنزله كلمة (وداعاً) ولم تنتبه الأسرة لتلك الكلمة إلا في اليوم الثاني من اختفائه الذي بدأ في الحديدة وانتهى به في زنازين صنعاء وحتى يومنا هذا.

عرف عن المخفي قبل اعتقاله نشاطه السياسي الذي جعله مستهدفاً من قبل أجهزة أمن الدولة، والذي وصل إلى حد الاعتقال والاخفاء، رغم تغير الظروف السياسية، وحدوث تحولات عدة شهدتها البلاد..

الأستاذ عبدالباري طاهر تربطه بالمخفي قسرياً مطهر عبدالرحمن الأرياني علاقة صداقة وزمالة في النشاط السياسي اليساري قبيل اختفاء الأخير، وحول ظروف هذا الاختفاء وأبعاده تحدث طاهر للمستقلة قائلاً: “الأستاذ مطهر عبدالرحمن الأرياني سياسي وناشط يساري، كان عضواً في حركة القوميين العرب، وعضواً في الحزب الديمقراطي الثوري المنبثق عنها (تحول الحزب الديمقراطي فيما بعد إلى الحزب الاشتراكي)، وقبل أن يتم اعتقاله للمرة الاخيرة في 1982م، كان قد تعرض للاعتقال عدة مرات على خلفية نشاطه السياسي، ضمن مجموعات من الناشطين خلال تلك الفترة والمنتمين لأحزاب اليسار، والاتجاهات القومية، ولكن بعد اعتقاله الأخير تم اخفاؤه تماماً ولم يعلم أحد عنه شيئاً بعد ذلك..”.

وحول علاقتهما وآخر مرة لقيه قبل الاعتقال يقول الاستاذ عبدالباري: “طبعاً جاء اعتقال الأستاذ مطهر الأخير وأنا أتواجد في خارج الوطن وتحديداً في سوريا، حيث تم نقله إلى البحث وبعدها تم اخفاؤه، وكنا قبل اعتقاله على تواصل دائم حيث كنا معاً منخرطين في النشاط السياسي اليساري، وكنت التقي فيه دائماً ونجلس معاً في مقيل القات، وكان متميزاً ونشيطاً”.

وبالنسبة للأسباب المباشرة التي أدت لاخفائه بالرغم من الإفراج عن بعض من تم اعتقالهم في إطار الحملة نفسها قال طاهر: “بالصراحة لا أستطيع أن أقدم تفسيراً محدداً حول أسباب اخفائه، أما اعتقاله فقد جاء كما ذكرت على خلفية نشاطه اليساري” وحول مصيره المتوقع يقول: “من المفترض أن يكون مازال حياً، فلم يتم معرفة مصير آخر له.. هو رجل مخفي كما هو معروف، والمخفي قسرياً أسوأ حالاً من الميت وأسوأ من المقتول، لأن الميت أو المقتول يحظى على الأقل بعد رحيله بالتكريم ويكون مصيره معروفاً سواء لأهله أو للآخرين، أما المخفي قسرياً فإنه يحرم من التكريم ويحرم من الحياة الطبيعية، ويحرم أهله من رؤيته أو معرفة حاله ومصيره ويحرم من أشياء وحقوق كثيرة ينبغي أن يتمتع بها الإنسان في حياته أو بعد وفاته”.

في إطار سعي المستقلة لتسليط الأضواء حول ملف المخفيين قسرياً المفتوح، التقينا في الحديدة ببنات المخفي قسرياً مطهر الإرياني وكذلك زوج ابنته الكبرى، لننقل شطراً من معاناة هذه الأسرة طيلة العقود الثلاثة الماضية..
> لقاءات: آمنة هندي

جريمة ضد الإنسانية

زوج ابنته الكبرى طارق عباس صبري قال عن اختفاء والد زوجته: إن إخفاء رجل عن أسرته وحرمان زوجته وبناته منه لمدة تصل إلى 30 سنة وحبسه وإخفاء أي معلومة قد تدل على مكان حبسه وإبقاءه حياُ هناك أو قتله ودفنه دون أن تعلم أسرته وذووه تعتبر جريمة من أقذر الجرائم التي قد تمارس ضد الإنسانية وما حدث لوالد زوجتي مطهر عبد الرحمن الارياني من إخفاء وحرمان أسرته منه هو جريمة بشعة وسوف يعاقب الله مرتكبيها لأن الله لا يرضى بالظلم .

< قبل اختفائه أين كان؟

كان في منزله وخرج منه كالمعتاد عصراً متوجهاً لعمله في شركة الحسيني للسيارات بشارع صنعاء ولم يعد من ذلك اليوم في عام 1982م إلى يومنا هذا وفي اليوم التالي وجدت زوجته على الجدار في غرفة النوم بقلمه وخط يده كلمة (وداعاً) وعندما سألتها زوجتي وهي أكبر بناته وكان عمرها في ذلك الوقت ثماني سنوات ما معنى كلمة (وداعاً)؟ قالت لها : معناه أنه خرج ولن يعود مرة أخرى .

< هل ذكرت لكم زوجته أنه تعرض لمضايقات أو تهديدات قبل اختفائه ؟
لا فهي لم تكن على علم بعمله السياسي ولكنه قال لوالدها قبل اختفائه بعدة أيام يا حاج أحمد بيتك مراقب لأنه كان يسكن هو وزوجته وبناته في نفس منزل والد زوجته وقد كان لديه علم بأنه مراقب لأنه كان ينتمي لأحد الأحزاب المحظورة في ذلك الوقت وهو الحزب الديمقراطي الثوري الذي أصبح فيما بعد الحزب الاشتراكي اليمني .

< هل تعتقد أن اختفاءه كان بعد أعتقاله من قبل جهات أمنية ؟

هذا مما لاشك فيه وقد شاهد أخو زوجته في صباح ذلك اليوم أطقماً عسكرية بالقرب من منزله الكائن في حي الشحارية وأنا -شخصياً- أعتقد أنه قد قتل أو مات بسبب التعذيب لأنه يوجد عدد ممن اعتقلوا معه في نفس الفترة مازالوا مفقودين من ذلك الحين وحتى يومنا هذا.

< من الذي قام بالإبلاغ عن اختفائه؟

في اليوم التالي وبعد أن رأى والد زوجته كلمة (وداعاً ) التي كتبها على أحد جدران الغرفة ذهب للبحث الجنائي للإبلاغ عن اختفائه وهناك قيل له إنه قد تم الإبلاغ عن هذا الشخص من قبل أحد الأشخاص الذي يعتقد أنه أحد زملائه في التنظيم وكان من الطبيعي أن يبحث والده وإخوته وأقاربه عنه لكن المشكلة أنهم اتهموا والد زوجته وزوجته وطلبوا التحقيق معهما في سر اختفاء ابنهم وبالفعل تم طلبهما إلى صنعاء وتم التحقيق معهما هناك وكان لهذا الأمر أثره السيئ على نفسية بناته اللاتي كانت أكبرهن زوجتي والتي كانت تبلغ حينها الثامنة من عمرها وأصغرهن لم تكمل عامها الثاني بعد فكان الوضع بالنسبة لهن مؤلماً وقد وجدن أنفسهن فجأةً بدون أب وأم وجد فالأب مفقود (معتقل) والأم والجد يتم التحقيق معهما في صنعاء .

سر المكالمة التي انهت التحقيق

< وكيف انتهى التحقيق مع زوجته ووالدها؟
بعد عدة جلسات من التحقيقات وأثناء التحقيق مع زوجته ووالدها في الجلسة التي اعتبرت الأخيرة رن هاتف مكتب المحقق وبعد إنهاء المكالمة وإغلاق الهاتف قال لهما ذلك المحقق عودوا إلى البيت ومطهر الارياني سوف يعود بنفسه وهذا معناه أنه قد جاءت له تعليمات بإطلاق سراحهما وإغلاق ملف التحقيق وبعد هذا عادت زوجته ووالدها للمنزل على أمل عودته لكنه لم يعد حتى الآن .
في زمن الخوف والمصالح الصمت أفضل
خلال هذه الفترة الطويلة هل اكتفت أسرته بانتظار عودته أم ماذا فعلت ؟
كانت أسرته مكونة من شقين: شق والده وأخوته وأقاربه والشق ألأخر زوجته وبناته وهو الشق الأضعف لأنهن نسوةٌ : (امرأة وأربع بنات صغيرات) الشق الأول حاول البحث لكنهم تعرضوا للتهديد خصوصاً الأخ الذي يلي مطهر ويبدو أنهم قد ضيَّقوا عليه ولهذا لم يستطيعوا مواصلة البحث عنه لان الوضع في تلك الفترة كان وضعاً بوليسياً قمعياً وبالرغم من أن له أقارب مسئولين وشخصيات كبيرة ومقربة من الرئيس على عبد الله صالح إلا أنهم آثروا الصمت والشيء الغريب أنه قد تم إطلاق سراح بعض ممن اعتقلوا معه في تلك الفترة مثل مالك الارياني وغيره وبعضهم لم يتم القبض عليهم لأنهم على ما يبدو كانوا مواطنين من الدرجة الأولى .

الجديد هو الأمل

< ما الذي جد في هذه الفترة لكي تحاول بناته البحث من جديد عن والدهن ؟

الذي جد هو التغيير الذي حدث في البلاد وانتهاء حكم على عبد الله صالح.. والذي شجع بناته على البحث عنه هو أن إحداهن وجدت على ألنت خبراً عن أحد المفقودين الذي وجد في أحد السجون وعاد لأسرته بعد غياب دام مدة 35سنة .
عُلاء مطهر: (كبرتُ وتزوجتُ وما زلت انتظر أبي يعود لي حاملاً الحلويات)

بعد 30سنة من الاختفاء ماذا قالت عُلا مطهر الارياني عن والدها: هل تعلمون أني لا أعرف شكل والدي المسجون منذ نعومة أظافري بأمر متكبرٍ مجنون أخذوه وأخفوه عنا فاحترق قلبي كخشب العود المعجون.. وفاحت رائحة الجرح المحزون.. وشم الجناة تلك الرائحة وسدوا أنوفهم ثم ذهبوا بعيداً وكأن شيئاً لم يكن.. وناموا ملء عيونهم وأكلوا حتى انتفخت بطونهم وخزنوا من أجود أنواع القات ولبسوا الموضة والماركات ووضعوا حول معاصمهم أفخر الساعات وسكنوا القصور وجاءتهم من اليابان أفخم السيارات ..

تزوجوا وعددوا الزوجات وأنجبوا الأولاد والبنات .. وشابت رؤوسهم وضمائرهم ونسوا المفقود وزوجته وبناته الحزينات.. إنني أصرخ ولم يسمعني أحد هذه قصتي منذ زمنٍ فات.. لقد كبرت وتزوجت وأنجبت ومرت بي الحياة .. لكنني ما زلت أحمل في داخلي تلك الطفلة التي تبحث عن والدها في كل الأوقات.. لقد تعلمت وفي قلبي غصة لأن والدي كان يريد أن يكون معي في تلك الخطوات وأن يذهب بي إلى المدرسة ويشتري لي الأقلام والألوان والكراسات ، وعندما كان الآباء يعودون إلى منازلهم كنت أجلس خلف العتبات أنتظر أن يعود ويخرج لي من جيبه ما أحبه من الحلويات وكأي فتاة كنت أتمنى في ليلة زفافي أن يضع أبي على رأسي بعض القبلات ويسلمني لزوجي في مشهد لن أنساه أمام المدعوات وعندما أنجبت بكيت كثيراُ لأن والدي لم يحمله في ذلك اليوم ويقرأ على أذنه بعض الآيات وحين كان زوجي يلعب مع طفلنا في لحظات أبوية كانت عيوني تلمع كالجمرات ، وادعو على من حرمني من أن أعيش في مثل هذه اللحظات، ولا تسألوني عن أمي فقد كانت من أوفى الزوجات، وماتت وفي يدها خاتم ً مكتوب عليه أسم والدي وسجلها كله تضحيات .

لقد وجدت في ألنت والصحافة نافذة لأسمعكم بعضاً من هذه المعاناة وكلي أمل في أن تساعدوني في العثور على أبي لتنتهي كل هذه العذابات .

< في تلك الفترة الم تحاولن التواصل مع علي عبد الله صالح ومناشدته للإفراج عن والدكم ؟

حدث هذا وكان رده أن سجونه خالية واكتفى بأن منحنا مبلغ خمسة ألف ريال تصرف شهرياً من الرئاسة وكان هذا بعد سنوات من اختفاء والدنا وظلت تلك الخمسة الآلف تصرف كما هي دون أي زيادة وقد قبلتها أمي مضطرة بعد أن أصيبت بجلطة وتدهورت صحتها وكان في رقبتها أربع بنات ومن المؤسف أن يقوم جدي باستخراج ورقة طلاق لها من المحكمة لكي تصبح من حقها الحصول على معاش من الشئون الاجتماعية .

ما هي الهيئة التي تتوقعن أن يكون فيها والدكن في حال تمكنتن من العثور عليه؟

نحن نريد والدنا وبالنسبة لي فأنا لا أتذكر شكله عندما أختفى لكنني كنت صغيرة جداً وأعلم أن والدي قد كبر فعمره الآن ما يقارب السبعين عاماً فالرجل الذي خرج وأختفى بعد 30سنة قد تغير وقد سمعنا بعض الإشاعات التي تقول بأنه مشلول ونحن لا نريد شيئاً إنما نريد أن يعود لنا والدنا على أي هيئة كان .

 هل ستسامحون معتقليه في حال تم الإفراج عنه وأعيد إلى منزله ؟

ألان قد نقول نعم ربما لكننا إذا رأينا والدنا قد لا نسامح لكننا بكل تأكيد لا نريد الانتقام ولا نفكر فيه وسوف نترك الأمر في النهاية لله سبحانه وتعالى.

زر الذهاب إلى الأعلى