أرشيف

هل تستفيد الثورات العربية من النموذج التركي؟

في كتابه الجديد “إسلام بدون متطرفين”، يتناول الكاتب التركي مصطفى أكيول تاريخ الحضارة الإسلامية الطويل، ويستعرض ما انطوى عليه من تسامح ودعم للحريات واحترام حقوق الإنسان مؤكدا على أن بذور الربيع العربي المُـطالِـب بالحرية والكرامة، موجودة في التراث الإسلامي.

 

مع انطلاق شرارة الثورة التونسية التي ألهمت شعب مصر ثم شعب ليبيا فاليمن فسوريا، لكي تفيق من غفْـوتها وتثُـور على حكّـامها الطغاة، ومع نجاح الشعوب في الإطاحة بأنظمة بن علي ومبارك والقذافي، والتي استطاعت هي وغيرها من الأنظمة الاستِـبدادية في العالم العربي أن تُـنـشـئ ربطا غير حقيقي بين الإسلام والدكتاتورية، رأى الكاتب التركي مصطفى أكيول أن من واجبه أن يبيِّـن للعالم أن بذور الربيع العربي المُـطالِـب بالحرية والكرامة، موجودة في التراث الإسلامي، وأنه لا تَـعارُض بين الإسلام والديمقراطية واحترام الكرامة الإنسانية وأن النُّـظم الدكتاتورية العِـلمانية، هي التي خلقت هذا الربط المغلوط، وأن تركيا التي تتطلّـع شعوب ثورات الربيع العربي إليها، تقدم نموذجا لإسلام بلا تطرّف ولدولة عِـلمانية لا تناصب الإسلام العداء، فنشر كتابه الجديد بعنوان: “إسلام بدون متطرفين”، شرح فيه تاريخا طويلا للإسلام، انطوى على دعم الحريات والتسامح والتجارة الحرّة واحترام حقوق الإنسان، وقدم تركيا كمثال للديمقراطية في العالم الإسلامي.

في واشنطن، التقى مراسل swissinfo.ch مع الكاتب التركي وأجرى معه حوارا مستفيضا حول إصداره الجديد.

swissinfo.ch: ما الذي دعاك إلى كتابة هذا الكتاب، وما هي الرسالة التي أردْت توصيلها للقراء؟


مصطفى أكيول: انتفاضات الربيع العربي طرحت تساؤلات في أنحاء العالم عمّـا يمكن أن تتمخّـض عنه التغيّـرات في أنظمة الحُـكم العربية، وهل سيمكن لرياح التغيير أن تأتي بنُـظم حكم ديمقراطية منتَـخبة في منطقة لم تعرف إلا الأنظمة الدكتاتورية القمعية، وسط شعور راسخ بأن هذا هو النوع الوحيد من الحكومات الذي يمكن أن تنتجه المنطقة وأن البديل الآخر هو أن يخطف المتشدّدون الإسلاميون ربيع الثورات العربية، وأردت أن أوضّـح أنه لا تعارُض بين الإسلام والديمقراطية وأن تلك الصورة السلبية المغلوطة، سببها أن أنظمة حكم دكتاتورية علمانية، هي التي قيّـدت حريات مواطنيها وأشبعتهم قمْـعا واستبدادا، وأن التفسيرات الشمولية للشريعة الإسلامية لم تنبثِـق أصلا من القرآن الكريم، وإنما من عُـلماء في القرون الوسطى رفضوا إعمال العقل والمنطِـق وآثروا إغفال السياق التاريخي وأسباب النزول.

 

ولكن، ما هو تصوّرك لقُـدرة الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا على التغلّـب على صعوبات التّـشدد الدِّيني التي قد تصاحب صعود نجم الإسلاميين في المجتمعات الثلاثة كلاعب سياسي أساسي؟


مصطفى أكيول: يجب أن نتذكّـر أن بن علي ومبارك والقذافي نجحوا في قمْـع شعوبهم لعشرات السنين وفتحوا الباب على مِـصراعيْـه للفساد السياسي والمالي، وفي نفس الوقت عمِـل الطغاة الثلاثة على قمْـع القوى الإسلامية بشكل زاد من تشدّدهم عبْـر السنين، وهكذا نشأ تياران متطرِّفان في الدول الثلاث: تيار الدكتاتوريات العلمانية، التي قادها بن علي ومبارك والقذافي، وتيار الجماعات الإسلامية، التي باتت تشكِّـل المعارضة الرئيسية لتلك النُّـظم، وانحدر الجانبان إلى حلقة مُـفرغة من التفكير الشمولي الذي قلّـص إمكانيات التعددية وفرص ثقافة الديمقراطية. ومع أن حركة الإخوان المسلمين في مصر مثلا، ليست حركة ليبرالية، فإنها ترغب في أن تصبح بعد طول انتظار جزءا من اللعبة الديمقراطية، وبمجرّد أن يصبح أعضاؤها جزءا من الحكومة وقوة سياسية في البرلمان مسؤولة أمام الشعب، فستضطر الحركة إلى التعامل بشكل عملي مع المطالب السياسية والاقتصادية لقطاعات المجتمع المختلفة وسيؤدّي ذلك إلى تطوّر تدريجي في تفكيرهم باتِّـجاه مزيد من الديمقراطية والتحرّر والتوجّه نحو تفسيرات أكثر ليبرالية للإسلام، وسيتكرّر نفس الموقف مع الإسلاميين في تونس وهم أكثر انفتاحا، ولكن الوضع سيظل مُـبهما في ليبيا لعدم وجود تجارب في الممارسة الديمقراطية وغياب الأحزاب السياسية.

 

هناك إعجاب في دول ثورات الربيع العربي بالنموذج التركي في التحوّل نحو الديمقراطية في العالم الإسلامي. فهل يمكن محاكاة التجربة التركية في تلك الدول؟


مصطفى أكيول: يمكن لتركيا أن تصبح نموذجا تحتذيه الثورات الثلاث، حيث أن التجربة التركية قدّمت نموذجا لنجاح الديمقراطية في دولة تقطنها غالبية عظمى من المسلمين، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء التركي أردوغان، حينما دعا مصر إلى أن تصبح دولة علمانية، بينما يحافظ المسلمون فيها على هويتهم الإسلامية، وشكّـلت تلك الدعوة دفعة للِّـيبراليين في مصر، بينما أثارت حفيظة الإسلاميين، ولكنها قد تثير حوارا مجتمعيا حول المعنى الحقيقي للعلمانية، وكيف أنها لا تعني معاداة الإسلام، وإنما فصل الدِّين عن الدولة وتوفير حرية العقيدة، وليس فرضها.

ولعل محاكاة التجربة التركية سيكون أسهل في تونس، لكونها أكثر ليبرالية من مصر وليبيا، ولأن السيد راشد الغنوشي، زعيم حزب النهضة الإسلامية يتميز فكره بقدر أكبر من التقدّمية فيما يتعلق بعلاقة الديمقراطية بالإسلام، وحقيقة أنه مؤمن بصلاحية النموذج التركي للتحوّل الديمقراطي في تونس وبتجربة حزب العدالة والتنمية.

كما أن لتونس سجلا قديما يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر في مناصرة التفسير العصري الحديث للإسلام منذ أن حذر خير الدين باشا (شغل منصب رئيس الوزراء في مملكة تونس من عام 1873 إلى 1878 – التحرير) المسلمين من أن أفول نجمهم في العالم الحديث يعود إلى إهمالهم للحريات المدنية وحجب الفكر الجديد، وربما ستؤدّي هذه العوامل مجتمعة إلى أن تسبق تونس مصر وليبيا في تحقيق تحوّل سلمي سلِـس نحو الديمقراطية.

 

وماذا عن استفادة ليبيا ما بعد القذافي من التجربة التركية؟


مصطفى أكيول: تحوّل تركيا نحو الديمقراطية لم يكن سهلا واستغرق عشرات السنين، وتجربة ليبيا مختلفة تماما حتى عن نظيراتها في تونس ومصر. فالقذافي دمّـر مقومات الدولة الحديثة وعاد بها إلى الوراء، سياسيا واقتصاديا ومجتمعيا، فليس في ليبيا أحزاب سياسية ولا مؤسسات فاعلة للمجتمع المدني تصلح أساسا للممارسة الديمقراطية، كما أنه فكك مؤسسات الدولة وحوّلها إلى ما سُـمي باللجان الشعبية الموالية له، فأصبحت ليبيا مجسّـدة في شخصه وحده، ولذلك سيكون البناء في ليبيا من الصفر تقريبا.

كذلك، فإن الثورة في ليبيا لم تكن سِـلمية كما حدث في تونس ثم في مصر، وإنما تحوّلت بعناد القذافي إلى حرب أهلية دمَـوية خلّـفت وراءها الدمار المادي والنفسي، الذي سرعان ما تجسّـد فيه الرغبة في الانتقام التي ظهرت جلِـية في الطريقة التي أنهى بها الثوار حياة القذافي.

 

ولكن، ما أهمية جانب الفصل بين الدِّين والدولة في نجاح محاكاة النموذج التركي في التحوّل نحو دولة ديمقراطية حديثة في ثورات الربيع العربي؟


مصطفى أكيول: يوفِّـر النموذج التركي فُـرصة لتلك الثورات، للنظر بشكل عقْـلاني في أهمية الفصل بين الدِّين والدولة، دون التفريط في أحكام الشريعة الإسلامية. فالإصلاحات التي أدخلها العُـثمانيون في القرن التاسع عشر، بتوفير الحماية لحقوق غيْـر المسلمين في المجتمع، حقّـقت مبدأ المواطنة الذي يتساوَى في ظلّـه كل المواطنين في الحقوق والواجبات، وعندما قامت الجمهورية التركية، ساعد ذلك في إرساء مبدأ الفصل بين الدّين والدولة، ولكن الأتراك بالغوا في عِـلمانية الدولة باستلهام مبادئ مُـعادية للدّين، نقلوها من الثورة الفرنسية، مما أكسب العلمانية سُـمعة سيِّـئة داخل تركيا وخارجها.

ومع ذلك، فإن التجربة التركية شهدت الجمْـع بين العلمانية والاقتصاد الحُـر، المستمد من تراث التجارة في التاريخ الإسلامي، وبذلك مارس الأتراك شعائر دينهم وتقرّبوا إلى الله بشكل شخصي، دون أن تفرض عليهم مؤسسات الدولة ذلك.

أما الجانب الآخر، فيتعلق باقتصاد السوق الحُـر الذي ساد عصور ازدِهار الإسلام، ويرجع الفضل في الأخذ به إلى إصلاحات رئيس الوزراء التركي تورغوت أوزال في الثمانينيات، حين حرر الاقتصاد التركي وحوّله إلى نموذج للاقتصاد الحر المستنِـد إلى رجال أعمال مخلصين، آمنوا بمشروع قومي للارتقاء ببلادهم ودعْـم جهودها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكان من بينهم مسلمون ملتَـزمون، رأوا في الاقتصاد الحر توسّـعا مرغوبا لأعمالهم التجارية والصناعية.

 

ولكن مصر وتونس، تشهدان دعوات تتّـسم بالتشدد الإسلامي، خاصة من السلفيين الذين تحوّلوا من رفْـض الثورة على الحكّـام، استنادا إلى اعتقادهم بأن طاعة الحاكم واجب دِيني، إلى المنافسة على الفوز بمكان في الساحة السياسية؟

 

مصطفى أكيول: بطبيعة الحال، السلفيون هم أكثر الإسلاميين تشدّدا وتصلّبا وتمسّكا باستبعاد العقلانية في تفسير الأحكام، ولكن من الأفضل في غِـمار التحوّل نحو الديمقراطية، أن تشارك كل القِـوى السياسية، حتى الأكثر تصلُّـبا منها، في العملية السياسية، بدلا من استبعادها ولجُـوئها للعُـنف لفرْض رُؤيتها.

ومع أنني لا أؤمن بأن الديمقراطية تصنع المعجِـزات، فإنها توفِّـر فرصة على المدى الطويل لمزيد من الاعتِـدال عن طريق حِـرص أكثر الجماعات تشدّدا على انتهاج منطِـق أكثر اعتدالا في إطار محاولتها اجتِـذاب أكبر نسبة من التأييد الشعبي لتوسيع قواعِـدها الانتخابية في داخل النظام الديمقراطي، ولذلك ستضطر القوى الإسلامية للإستجابة لمطالب الناخبين، وتوفر لهم ما هو أكثر من مجتمع المدينة الفاضلة. وآمل أن يؤدّي جو الإنفتاح الذي وفّـرته ثورات الربيع العربي، إلى مزيد من النقاش العَـقلاني لدوْر الدِّين في المجتمع وتفسير أكثر حداثة للإسلام.

 

محمد ماضي – واشنطن- swissinfo.ch

 

زر الذهاب إلى الأعلى