أرشيف

سلطان الصريمي.. الفيلسوف الذي كشف زيف عجائب طاهش الحوبان..!! (1)

 كتب / صفوان القباطي 

عندما يطلق صدر الوطن تنهيدة وجعه وحسرته ملتهبة في الفضاء الرحب تماماً كما تئن من جراحها الدامية حلم اليمن وحالمتها (تعز) وهي تلقي بآلامها منتحبة على صدور (الشقاة) المكافحين والغلابى من أبنائها الذين (يموتون غرباء) وكالوطن اليتيم الباحث عن معناه في زحمة صراعات أصحاب النفوذ العابثين بكل المعاني الجميلة والطاهرة يأتينا بقدمين حافيتين أدماهما طول المسير على شوك الحقائق المرة والواقع الأمر موزعاً علينا عصارة إبداع بطعم الغربة في الوطن فندرك منذ الوهلة الأولى أنه الدكتور سلطان الصريمي أبن الحجرية الذي عجنت طينته كف الطفر والطاعون والغربة فلم تكن قصائده سوى نزيف جرح غائر تشارك وجعه كل أبناء الحجرية (قلب الوطن النابض) على امتداد تاريخ البذل والعطاء والتضحية في زمن الجحود والنذالة والنكران.

في سن مبكرة تجرع شاعرنا الدكتور سلطان الصريمي مرارة البعد والاغتراب فقد ودع طفولته وذكريات صباه في القرية صبيحة يوم شاء فيها القدر أن يكون هو الرفيق لوالده في رحلته صوب أفريقيا أو (البحر) كما كانوا يسمونها وبالتحديد إلى جيبوتي بحثاً عن الرزق وسعياً وراء لقمة العيش على حساب المعاناة وضياع العمر وفراق الوطن والأهل، معيداً صياغة ذات  المأساة التي عاش فصولها غالبية اليمنيين وعلى وجه الخصوص أبناء الحجرية حيث أجاد تصويرها شاعرنا الصريمي على لسان زوجة تشكو لعمتها (والدة زوجها) ما تقاسيه في غربةمسعودبعد أن رحل وتركها عقب أسبوع فقط من زفافهما فلم يعد ولم ترد عنه أي أخبار تطفي نار لوعتها.. لنطلع على الحكاية كما صورها لنا بطريقة هي الأقرب إلى الواقع..

وا عمتي منوه شقول لمسعود..

بعامنا الأول رزقنا مولود

مسعود هجر وخلف المصائب..

والبعد طال وزادت المتاعب

من قلة المصروف وكثرة الدين..

بكر مسافر فجر يوم الإثنين

وقت الوداع سلم وقال مودع..

لا تحزنيش ششقي سنه وشرجع

شفارقك بعد الزواج بأسبوع..

العين تدمع والفؤاد موجوع

شتذكر الحنا وحمرة الخد..

شتذكر الزفة واليد باليد

هكذا قبل أن يحين الوداع وكما نلاحظ أن الاتفاق كان على أن مدة الاغتراب ستكون سنة ابتداء من يوم السفر وكما عرفنا أن حصيلة أسبوع الزواج كانت طفل وهو (محمد) الذي لم يشاهد وجه أبيه.. ولكن هاهي السنة مضت وأعقبتها ثانية وثالثة ولم يعود مسعود ولم يصل منه مكتوب أو حتى صدارة والمسكينة يمضي شبابها هدراً على جمر الانتظار الطويل..

واليوم لا مكتوب ولا صدارة..

وعود خلي كلها خسارة

مرت سنين والقلب مسكن الدود..

ما أحد درى أين الحبيب موجود

ومن لجة بحر حسرتها تستجمع الزوجة الصابرة كل مشاعر الغبن ومن صميم فؤادها المكلوم تخاطب والدة زوجها التي لا أستبعد أنها عاشت نفس القصة.. وها هي تسألها بكل ما في الكون من حيرة: ماذا أصنع لأرجع مسعود وقد طرقت كل الأبواب لكن دون جدوى فحتى العائدين من الغربة عجزوا عن أن يجدوه أو يرجعوا عنه بخبر..

وا عمتي كيف البصر لحالي..

ضاع الشباب وطالت الليالي

قوتي القليل من الشقا مع الناس..

البسل أكل وجهي وشيب الرأس

وا عمتي أبني هلك من الجوع..

الحب زلج وأني مريض مفجوع

رك النظر وجرحوا السواعد..

وكم شكون صبري وكم شجاهد

ما أقدرش عاد أشقي ولا أقدر أسأب..

ولا أقدر أتمهر ولا أطحن الحب

شهرين مريض ما أحد ظهر يراني..

يا رب تسامح الذي بلاني

فقط شاهدوا معي كيف أستطاع الصريمي أن يختصر في مجموعة أبيات مالا يتسع لشرحه في مجلدات، ولاحظوا أيضاً كيف أختتم القصة وبذات الطريقة السهلة الممتنعة والبديعة وكما أسلفنا هاهي الزوجة المفارقة تنقل الخطاب مباشرة لطفلها الوحيد (محمد) ضحية الجوع واليتم الذي أرادت أن تجعل منه الشاهد الوحيد على قصة العذاب بينها وبين زوجها الغائب الذي ذهب في ذمة توفير (المصروف).

أحرقتني لا تبكي يا محمد..

الموت أفضل للفقير وأسعد

أبوك نسى الحنا وحمرة الخد..

وأني الوفاء لحدي والموت يشهد

وصيتي يا أبني تكون شهادة..

بأن أبوك أحرمني السعادة

لكن مسامح قد يكون معذور..

وربما هو الأخير مقبور

ياااه.. أنظروا وتمعنوا.. إنها بعد كل هذه الشكوى والمعاناة تلتمس لزوجها وحبيبها الغائب العذر فلربما يكون غيابه نتيجة لسوء ما أصابه وفوق إرادته أو ربما يكون مقبوراً في جوف لحد وهي تلومه على ذنب لم يقترفه وربما وربما .. وتلك هي عادة في الزوجة الأصيلة والمخلصة.

يلي قصيدة «مسعود» وعلى قمة هرم روائع الصريمي الغنائية تتربع رائعته السياسية الشهيرةنشوانالتي كتبها في العام 73 من القرن المنصرم وصدحت بها حنجرة الفنان الكبير محمد مرشد ناجي حيث فجرها قنبلة تردد صداها في ربوع اليمن شماله وجنوبه آنذاك عبر أشرطة الكاسيت مما أضطر الجانب الرسمي فيما بعد إلى مصادرة شريط المرشدينشوانمن الأسواق إلى جانب أغان لفنانين آخرين كانت تعد ضمن قائمة الممنوعات آنذاك ولكن بعد أن انطبعت في عقول الجماهير ووجدانهم وأصبحت أشبه ما تكون بوشم على خلايا الذاكرة.. ونشوان يا نشوان.

نشوان لا تفجعك خساسة الحنشان..

ولا تبهر إذا ماتت غصون البان

الموت يا أبن التعاسة يخلق الشجعان..

فكر بباكر ولا تبكي على ما كان

قطر العروق شا يسقي الورد يا نشوان..

حسك تصدق عجائب طاهش الحوبان

ولا تصدق حكاية بنت شيخ الجان..

أصحابها ضيعونا كسروا الميزان

باعوا الأصابع وخلوا الجسم للديدان..

وقطعوها على ما يشتهي الوزان

وبلسان الشعب المسحوق ينطلق الصريمي على ذات الدرب مخاطباً نشوان:

نشوان أنا فريسة المصالح..

ضحية الطبال والقوارح

من يوم خلق سيف الحسن وصالح..

وأنا وحيد في قريتي أشارح

أبني المكاسر وأزرع البراصح..

والفائدة لمن مسبه فاتح

والويل لمن في سوقنا يصارح..

أو من بجش صدقه على الفضايح

وعلى درب نشوان يمضي الصريمي معاهداً نفسه على كشف كل المغالطات وفضح كل المؤامرات التي يحاول حياكتها من تفيدوا ثورات الشعب وثرواته ليضعوه تحت وصايتهم وضمن ملكياتهم الخاصة..

يا هاجسي كم أنا شصبر والزيف خلفي وقدامي

الصبر ما يشبع الجائع ولا يبرد عطش ظامي

يمين لا اسمع الدنيا هدير جرحي وآلامي

وأرسم على كل يوم تأتي خيوط حبي وأحلامي

في داخلي نار لا تطفى حتى ولو بعد إعدامي

ويعاود التأكيد مجدداً على الثبات والالتزام بهذا المبدأ مهما تكن النتائج معرجاً على فضائح من أشار له بـالدودحيكما أعتاد على استخدام الصور الرمزية في قصائده ذات الطابع السياسي..

يا هاجسي نذل من يسكت ونذل من يرتضي بالعار

الدودحي كمل القصة ورقد المشتري بالدار

أعطى له الأرض والغلة والغترة والمسبحة والغار

وبصوت فنان الريف الأولعبد الباسط عبسيالذي تغنى بمعظم غنائيات الصريمي تعالوا بنا نقف عند صورة أخرى من صور الإبداع الغزيرةالمباعدويا لشعري كم سيبتعد؟..

المباعد صورة منقوشة على جوف التراب

تدمي قلب من راعى كثير

تمطر في جفاف الأرض آية

تقرأ سورة الرعوي المخالف

ليت من له قلب يتحاكي بلسانه وسيفه

بس حكاية تمسك العرجاء وتكرع

تشق رأس الأذية

والمغالط كم شغالط

شاقي اليوم غير شاقي زمان

عرف من يأكله.. عرف نوع الأذية

فتح عينه وبحرر بعرض الحول وطوله

وللراعية (الرمز) نصيب من خطابات الصريمي المحملة بالكثير والكثير من الهموم والمعاناة التي طالما تشاركا ترديد مواويلها من فوق أنكاب الصبر والانتظار ومر من الوقت الكثير قبل أن تلبي هذه الراعية دعوة الصريمي في نهاية المطاف وتخلع ثوب الطاعة العمياء والذل والخضوع..

وا راعية غني وشلي بالدان..

ما تنفع الطاعة ولا التمسكان

وسلمي على نقم وشمسان..

سلام دامي من بتول مهتان

وا راعية كم ششتكي وشخبر..

من قصة المدار والمكسر

الموت يحفر أرضنا ويقبر..

ويقتل الشاهد مع المكبر

وعن أي موعد يبحث على درب انتظاره الطويل؟ تحتار الأجوبة وتتوالى علامات الاستفهام.. إنه السؤال الأصعب الذي تعبت الأيام وفنيت الأجيال وهي تحاول جاهدة أن تجد له إجابة محددة يستشف منها مصير وطن وأمة طالما انتظرا الخلاص والانفراج من مخاض الأزمات المتعاقبة طيلة عقود من التاريخ المسطر بالدماء والمشبع بالحروب والجبهات والاغتيالات والحقد السياسي الذي لا يطلب إلا المزيد من الدم والخراب والدمار.. والبداية من القرية مصدر إلهام الشاعر  :

جمعة  ورا جمعة وعيد ورا عيد..

يا قريتي كم أكره المواعيد

وكم ضجر قلبي من الأناشيد..

العيد وصل ما فيش معي غدا العيد..

وأحباب قلبي كلهم مطاريد

والخبز والسمن المليح والغيد..

عند سارق الرمان والعناقيد

يا قريتي صيحي بصوت عالي..

قيمي الرقود بالسفل والعوالي

وخبريهم موجرى لحالي..

ثوري هلك وضيعوا نبالي

وأمي تموت دلى دلى قبالي..

وتلعن الأيام والليالي

ويعمد إلى شرح تفاصيل واقعه المرير والمزري.. واقع تعز المحافظة البائسة التي لم تجن من ثمار تضحيات أبنائها غير الحرمان والمزيد من التجاهل والإهمال المتعمد وواقع أبنائها المقهورين والمغلوبين على أمرهم..

يا قريتي لو تسمعي كلامي..

باتعرفي ما بي ومو مرامي

أهيم مكسور الجناح ظامي..

أتعشي جوعي وأصطبح غرامي

والسل والطاعون في عظامي..

والجرح بالشق اليسير دامي

بحولنا يا قريتي حرامي..

وجهه شفيق وباطنه إمامي

أحرمني من قوتي ومن منامي..

وأصحابنا يعطفوا سمامي

ويصور حال البعض من أبناء تعز الذين مازالوا إلى اليوم مشغولين بمضاربة (الرباح)غير آبهين بما تتعرض له جربتهم من التدمير والعبث..

يا قريتي ما اسخف المفارع..

بين الرباح وجربته تنازع

وحالنا مثل الذي يشارع..

يطلب المربط والعنز ضائع

أتفاقدي يا قريتي المرافع..

حمي الطبول ودوري المقارع

العمر زلج طلفاس بالشوارع..

والسم من بين الدروف جازع

والذيب سامر بالدرج وطالع

وكما أسلفنا لا يمل الصريمي من إعادة تكرار السؤال على (الراعية) يحدوه الأمل بانتظار رحمة السماء في إزاحة الكابوس الذي طالما كتم نفس حياة الوطن الأرض والإنسان..

متى وا راعية شمطر..؟

وما مطرة تقع من غير رعود

متى سيل الجبل شدفق إلى الأحوال..؟

وبالكاذي شنطرفهم ونذراهم ورود

ونغرس بالحوية الفل والأزاب..

نقطف حينما شئنا مشاقر للخدود

معك حتى المسيل يوصل..

نطفي الغلة نتغسل

ونبذر في الشعاب البر..

ونتغنم جهيش أخضر

زر الذهاب إلى الأعلى