أرشيف

المعتقل عبده يحيى:ربطوا ذراعي إلى ساقي فتحولت إلى كتلة صماء

هذا الحوار جزء من ملف مفتوح عن التعذيب في اليمن تتبناه منظمة التغيير للدفاع عن الحقوق والحريات التي يرأسها النائب المستقل احمد سيف حاشد،وقد رأت المنظمة نشر هذا الملف في صحيفة (المستقلة)..و رأينا نحن إعادة نشره تباعا بالتنسيق مع (المستقلة ) لإيماننا بأهمية إطلاع الناس على ما حدث من أجل العمل معا على ألا يحدث مجددا…….«يمنات»

………………………

ضيفنا في هذه العدد الأستاذ/ عبده يحيى محمد أحمد يعمل مدرساً في وزارة التربية والتعليم وعضواً للجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني يقودنا عبر هذا الحوار الشيق الى الحالة السياسية ونشاط الاحزاب في فترة تجريم العمل الحزبي كما يشرح لنا سلوك الأجهزة الأمنية وتجربته مع الاعتقال والتعذيب فإلى الحوار :

كيف نقرأ الوضع السياسي العام في فترة الثمانينات؟

خارطة القوى السياسية في الثمانينات مؤلفة من نفس القوى الحاضرة في المشهد السياسي اليوم، ولا توجد فروق بين تلك المرحلة والوقت الراهن سوى في الشكل فقط، بل أننا نجد العمل السياسي في الماضي كان أكثر حيوية وفعالية بالنظر لما كان يسكن الناس والمجتمع من آمال عريضة وجدت تعبيراتها في موقف الناس من العمل السياسي وفي ثقتهم وقناعتهم بجدواه، لقد كان الكل منخرطاً في العمل السياسي برغم الصعوبات والمخاطر التي كانت تعترضه حيث كانت السلطة تمنع قيام الأحزاب وتجرم الانتماء الحزبي وتقمع الحريات العامة وفي مقدمتها الحريات السياسية وحرية الرأي والتعبير ..

على أي خلفية تم اعتقالكم؟

تم اعتقالي على خلفية انتمائي لحزب الوحدة الشعبية وهو تنظيم تكون من اتفاق عدد من فصائل العمل الوطني في الشمال للعمل تحت عنوان وتنظيم واحد أطلق عليه حزب الوحدة الشعبية والذي أصبح فيما بعد جزءاً من الحزب الاشتراكي اليمني.

حين اعتقلت في عام 1983 كنت مسئولاً تنظيمياً لخلية حزبية وكان قد مضى على وجودي في الحزب أكثر من خمس سنوات، ولم يكن التنظيم معنياً أو مشغولاً كثيراً بتغيير النظام أو الاستيلاء على السلطة بقدر ما انشغلنا بموضوع بناء الكادر الحزبي والدفع باتجاه خلق شروط حياة مدنية حديثة.

ما هي الجهة التي قامت باعتقالكم؟ وكيف كانت طريقة الاعتقال؟

تم اعتقالي من قبل جهاز الأمن الوطني (السياسي حالياً) ولم يكن للقضاء أية علاقة أو علم بموضوع الاعتقال، واعتقالي كان بنفس الطريقة المتبعة في مختلف نظم الاستبداد حيث حضر إلى منزلي أفراد بملابس تقليدية شعبية لا تخلو من الإشارة إلى الجهة التي أرسلتهم، يزيد من وضوح الصورة سلوكهم النزق والانفعالي وكأنهم في مهمة حربية. حضروا الساعة السادسة من مساء يوم جمعة لا أذكر الشهر وأخذوا يفتشون المنزل بحثاً عن وثائق وأدلة ولم يجدوا شيئاً لأني كنت قد أخفيتها بعد اعتقال مسؤولي الحزبي ثم اقتادوني خارج المنزل حيث كانت بانتظارنا سيارة كرسيدا وبجانبها طقم عسكري، السيارة الكرسيدا كان بداخلها شخصان و السائق، أحد الشخصين كان مسئولي الحزبي وكان قد اعتقل قبلي بأسبوع وقد قام بإرشادهم إلى منزلي الذي كان منزل تنظيمي بعد أن صبر وتحمل التعذيب لمدة أسبوع ولم يقم بإرشادهم إلا بعد أن اعتقد أنني قد تمكنت من الفرار.

وانطلقت السيارة بنا وتوقفت أمام البوابة الغربية للمستشفى الجمهوري مع سيارات كثيرة تحمل معتقلين أيضاً بعدها جاءوا بسيارة كبيرة وأخذوا يربطون عيوننا ويرمون بنا إلى السيارة الكبيرة لتأخذ طريقها إلى مبنى الأمن الوطني في حدة.

أين تم اعتقالكم؟ وكم استمرت فترة الاعتقال؟

المكان الذي تم احتجازنا فيه لم يكن واحداً ففي البداية كان المقر الرئيس لمبنى الأمن الوطني ونظراً لارتفاع عدد المعتقلين تم توزيعهم على أماكن أخرى مثل الاستطلاع الحربي (المخابرات العسكرية)، أنا تم نقلي إلى دار البشائر الواقع في بداية حي البونية وهناك أمضيت فترة اعتقالي التي قاربت التسعة أشهر علماً بأنه تم  إطلاق سراحي بموجب اتفاقية بين السلطتين في صنعاء وعدن في واحد من اجتماعات ما كان يعرف بسكرتارية المجلس اليمني الأعلى والذي كان يرأسه علي ناصر محمد عن الجنوب وعلي عبد الله صالح عن الشمال، ولولا ذلك الاتفاق لكان قد تم ترحيلنا إلى السجن المركزي الذي كان قد تم إعداده لاستقبالنا لتمضية فترة عقوبتنا والتي لم يكن يعلم مدتها إلا الله.

كيف كانت ظروف احتجازكم؟

 ظروف وشروط احتجازنا لم تكن إنسانية على الإطلاق، فقد تم توزيعنا في زنزانات.. الزنزانة التي كنت فيها كانت ترابية ولا يوجد فيها لا فراش ولا أغطية وعليك إذا أردت أن تنام على التراب، أمضينا في هذه الزنزانات ثلاث ليال ثم انتقلنا إلى الديوان وهو عبارة عن ديوان طويل يقع في الدور الأرضي.. الديوان كان طويلاً في حدود ستة أمتار وعرضه ثلاثة أمتار وفي نهايته توجد دورة مياه كل ما فيها معطل حتى الإنارة، وكانت تطفح بشكل دائم ويصل طفحها إلى الديوان. هذا عدا ما كان ينبعث منها من روائح .. بلغ عددنا في الديوان عشرين معتقلاً، وفي إحدى الليالي أحضروا عدداً من المعتقلين في حدود المائة معتقل تم اعتقالهم في رداع وقد تم زجهم معنا في الديوان وليلتها لم نستطع النوم ومن نام منا نام واقفاً، أما دورة المياه فقد وصل طفحها إلى الفرش والأغطية التي كنا ننام عليها.

أمضينا في الديوان قرابة ثلاثة أشهر لم نر خلالها ضوء النهار ولم نتعرض للشمس.

كانت فترة الديوان فترة الاستجواب والتحقيق وما يرافقه من حالات تعذيب وانتهاك لحقوقنا كبشر يومياً ثم أخذ يتناقص ويتباعد بحسب الحالة المزاجية والنفسية للمحقق، وقد كانت عملية الاستجواب في المساء ونادراً ما كان يتم نهاراً إلا إذا أراد أحد المحققين أن يتسلى فيقوم بطلب أحد المعتقلين ويمارس معه ساديته.

التغذية كانت في غاية السوء وقد كانت وجبة الغداء هي الوجبة الرئيسية وهي عبارة عن الأرز مع البطاط أما الفطور والعشاء فقد كان الكدم اليابس هي المادة الرئيسية ، حتى الشاي لم نكن نحصل عليه إلا إذا دفعنا ثمنه، وقد اضطر بعضنا وأنا واحد من هؤلاء إلى العمل في بناء سور المعتقل مقابل أجر يوفر لنا إمكانية الحصول على الشاي وخصوصاً في الصباح .

الجدير بالملاحظة والتنويه هو التأكيد على أن الظروف والشروط التي في المعتقل كانت كفيلة بانتشار الأمراض وتحديداً مرض التهاب الكبد خصوصاً مع انعدام أي مستوى من مستويات الرعاية الصحية للمعتقلين.

كيف كان يتم استجوابكم؟ وما هي الوسائل التي استخدمت معكم للحصول على المعلومات؟

أولى جلسات التعذيب النفسي هي التي تلقيناها في المقر الرئيسي وكان الهدف منها كسر إرادتنا وإضعاف معنوياتنا، عبر تعريضنا لجرعة من الرعب وإعدادنا للاعتراف والحصول على المعلومات، وذلك عبر الاستماع لأصوات العويل والصراخ وطلب النجدة والتوسل والبكاء والتهديد والشتائم والوعيد وما يرافقها وبما يجعلك في حالة ترقب للحظة التي يقع فيها عليك الدور وتسقط في الجحيم، بعد ذلك يتم اقتيادك إلى غرفة التحقيق وهناك يقوم المحقق باستجوابك علماً أنه يملك كل المعلومات التي يريدها وهو يريد منك أن تقر بما يمليه عليك، أن تقر بأنك خائن وعميل وكافر ومتآمر على البلاد….

وفي حال امتنعت يقوم بضربك أو يطلب من آخرين بثنيك عن موقفك هذا فيسارعوا إلى تنفيذ الأمر بالانهيال عليك صفعاً ولكماً وركلاً أما إذا لم تُجْد هذه الوسائل عندها يتم الانتقال إلى الوسائل الأخرى الأكثر فعالية ومنها :

تعليقك على قائمتين على طريقة الفروج، حيث يتم ربط ذراعيك إلى ساقيك وضمهما إلى عمود يوضع عند مفصل الركبة من الخلف فتتحول إلى كتلة صماء أشبه بالكرة يتم رفعها من أطراف العمود ووضعك على قائمتين لمدة تقررها أنت، أما أن تقر بما هو مكتوب حتى يتم إنزالك من على الهاوية أو أن تستمر في عنادك حتى تتجمد الدماء في عروقك أو تنفجر بها شرايينك وتسيل من كل فتحة في جسمك.

الخطير في الأمر أن الإقرار عبارة عن فخ يفتح التحقيق على احتمالات لا تنتهي بحيث لا يبقى أمامك سوى مواصلة السقوط فيه وللمحقق وحده تقرير أهمية ما تقوله.

طبعاً لم تقف وسائل التعذيب وطرقه عند هذا المستوى بل تتعدد وتتنوع، منها الإغراق بالماء والحرمان من النوم واستخدام الكهرباء.. بالنسبة لي الأمر توقف عند حدود التعليق أو الكنتاكي.

ما هي مشاعرك تجاه من قاموا بتعذيبك؟

أنا لا أعرف أحداً ممن حققوا معي أو قاموا باعتقالي وتعذيبي وحتى لو كنت أعرف أحداً منهم فلا أجد أي مبرر للحقد عليه أو حمل مشاعر الضغينة له فخلافي معه ليس شخصياً وهو ليس عدواً شخصياً هو مجرد موظف .. مجرد أداة، خلافي مع النظام والنظام ليس أفراداً ويبقى على النظام الاعتذار وتبني مشروع وطني يعيد الاعتبار لضحايا التعذيب والاعتقال القسري..

………………………..

كوميديا سوداء

أطرف موقف حدث بالمعتقل  اجتمعت فيه المأساة والملهاة معاً حيث وجد في الزنزانة المجاورة لزنزانتي معتقل لا ندري ما هي دواعي اعتقاله وقد كان يعمل ممثلاً في التلفزيون وقد أعلن ذات يوم تنفيذه إضراب عن الطعام، وما أن أعلن عن نيته وشرع في تنفيذ إضرابه حتى بادر الجنود إلى ضربه ضرباً مبرحاً مما اضطره إلى فك الإضراب والتراجع عن قراره.

………………………

عن الشوافي

ما حدث مع المعتقل الشوافي – نسبة إلى منطقة الشويفة – هذا الرجل كبير في السن ويعمل فران في أحد مخابز صنعاء القديمة وكان قد نزل عدن في زيارة وهناك ذهب إلى السوق للتبضع وكان مما اشتراه بدلة كاكي كانت في الجنوب بدلة عادية يرتديها المدنيون أما في الشمال فقد كانت زياً عسكرياً، الرجل لبس البدلة ووضع على عينيه نظارات وبدا كقائد عسكري كبير وهو لا يدري، ثم ركب الباص عائداً إلى الشمال وفي النقطة توقف الباص للتفتيش وحين رآه الجنود تعاملوا معه باحترام شديد اعتقاداً منهم أنه قائد عسكري في مهمة في الشمال ومع ذلك طلبوا منه بطاقته الشخصية واطلعوا عليها فسارعوا إلى إبلاغ الضابط المسئول الذي أمر بإنزاله من الباص وخصص له سيارة أخذته مباشرة إلى الأمن السياسي بصنعاء، وما أن وصل حتى وضعوه في زنزانة انفرادية لمدة عشرة أيام وبعدها بدأ التحقيق معه.

 الطريف هو ما كان يحدث في التحقيق حيث تم التعامل معه باعتباره جاسوساً وشخصاً على قدر كبير من الخطورة، بينما الرجل بسيط إلى أقصى حدود البساطة وعلاقته بالحياة لا تتعدى فرن باب اليمن والطريق المؤدية إلى قريته في الشويفة، والمحققون مصرون على أنه رجل خطير وصيد ثمين يجب استغلال فرصة وقوعه بين أيديهم، كان المحقق يوجه إليه السؤال فيرد عليه بآية الكرسي والأحاديث النبوية ، لقد كان الرجل يعتقد أنه قد مات وأن القيامة قد قامت وأنه في موضع الحساب والعقاب واستمر الحال على هذا المنوال قرابة الثلاثة أشهر بعدها اقتنع المحققون بأن الرجل لا علاقة له بالسياسة وأن وجوده هنا كان غلطة كبيرة فقرروا إطلاق سراحه.

وقد تم إخراجه من حبسه الانفرادي وإدخاله معنا تمهيداً لإطلاق سراحه وعندها شاهدنا من الرجل ما يدل على بساطته وبدائيته فقد كان أحد المساجين يسمح لأهله بزيارته في السجن كل خميس ويحضرون معهم بعض الفواكه وفي أحد الأيام أحضر موز وقد قمنا بتوزيع الموز بيننا وكان للشوافي نصيب من ذلك الموز. ما أثار دهشتنا هو تعامل الشوافي مع الموز، فقد أكله دون أن يقوم بتقشيره، أكله بقشره، هذا الشوافي ضاق به السجن فقرر الانتحار لأنه لم يستطع أن يوفر الضمانة التجارية المطلوبة لإطلاق سراحه وفي إحدى الأيام حاول الانتحار ولكننا تنبهنا ومنعناه من تنفيذ قراره وقد تعرض للضرب المبرح من قبل الجنود بعد علمهم بالموضوع وتم ربطه إلى ماصورة مجاري حتى الصباح حيث أطلق سراحه دون ضمان.

زر الذهاب إلى الأعلى