أرشيف

التوحش والتوحش المضاد في المجتمع السعودي

 

 

 

 

 

 

ليس من نزعة المبالغة حين يُـقال أن ثمة نسبة لا بأس بها من السعوديين من أكثر الناس اغتراباً عن أنفسهم، واشد الناس توحشاً تجاه الآخر سواء بسبب هويته أو عرقه او طائفته. لماذا ياترى وصل الأمر بالسعوديين الى هذا النفق المظلم من الإغتراب والتوحش والريبة؟

في البلدان التي تعنى بشؤون شعوبها تهتم كثيرا في إجراء الدراسات والبحوث الأكاديمية من اجل فهم الظواهر الاجتماعية السلبية التي تطفو على السطح وتطرح اقتراحات وتوصيات لحلها أو للتقليل من تبعاتها، وحيث أن ذلك لا يحدث في السعودية بالدرجة المرجوة، سنقوم بمحاولة لفهم الحال التوحشي السعودي الذي يعيشه فئة من الناس، ومعاينة التركيبة الاجتماعية التي ساهمت في تشكيل وتنمية ذهنية التوحش منذ ان هطلت على المجتمع السعودي أموال النفط الهائلة، وحتى تسلمت أفراده الأيادي المتصلبة دينيا من الطائفتين السنية والشيعية.

البحث في ظاهرة التوحش والتوحش المضاد التي ظهرت في اماكن مختلفة في داخل البلد وخارجه عبر العقود يحتاج أيضا إلى استيعاب للقوانين والأعراف القاسية وفهم آلية تدرجها وتشددها عبر الزمن، وحصر القوانين الأخرى الأكثر صلابة والتي اُستحدثت مع مرور السنين، وسُلطت على رقاب الناس من نساء ورجال واطفال، والتي تفسر الى حد بعيد مدى تغلغل التوحش في جميع مؤسسات المجتمع وبين سائر فئاته.

في الحقيقة أن الإنسان السعودي منذ الصغر يتجرع القسوة والتوحش جرعة تلو الاخرى الى ان يشب ويشتد عوده، فيتصلب قلبه، وتجف روحه، ويتجمد عقله، فإذا فلت وهو صغير من قسوة الأسرة، وتعسف الوالدين وانتهاك حقه في التعبير عن ذاته ومصادرة احلامه بحجة انه جاهل ولا يفقه، بالتأكيد لن يفلت من قسوة المدرسة والمسجد اللذين يحتضنان بين حيطانهم شتى أصناف الثقافات التي تعزز القهر والاستبداد. تتخرج أجيال من المدارس والجامعات والمساجد وهي لا تفهم سوى لغة التهديد والوعيد، ولا تتعامل سوى بسلوك التوحش والريبة.

السعودية بلد فسيح وفيه فئات وطوائف واعراق مختلفة، لكن لا يوجد مكان فيه لتعزيز الحوار الحقيقي البناء، ولا انشطة لغذاء الروح، ولا مساحة لتهذيب النفس وترويضها على قبول الآخرين واحترام معتقداتهم.

قسوة المناخ وقسوة الطبيعة تحالفتا على الناس مع قسوة التركيبة الاجتماعية والأعراف الموروثة والقوانين البدائية الفجة. من المؤكد ان القوانين والضوابط ازدادت صرامة خلال الثلاث العقود الماضية، فمنذ الثورة الإيرانية ونهوض الملالي في إيران وبالمقابل ظهور الجهاديين في أفغانستان هبت رياح التشدد على بلدان الشرق الأوسط وتفشى الفكر الاخواني والسلفية وتشيع ولاية الفقيه، وعلى وجه الخصوص في الجزيرة العربية وفي ايران وأتباعها.

الثمانينات في السعودية تميزت بالبطش في صفوف كل من هو ليس سلفيا أو اخوانيا أو جهاديا. اُختطفت مؤسسات التعليم والإعلام ولغمت بدعاة لا يحسنون سوى لغة العنف والزهد في الحياة. زادت الرقابة على الناس، ومُنعت سبل التواصل، وقُمعت مظاهر التقارب بين الطوائف، وتفاقمت قوانين الفصل العنصري بين الجنسين، وتضاعف قهر الاقليات والنساء.

ربما اعظم انجاز قام به دعاة الجهاد انذاك هو اجهاض التجربة الاولى للنهوض بالدولة السعودية من ظلام التخلف والرجعية، حيث ضربوا بيد صلبة افواج الخريجين السعوديين المتنورين الذين تلقوا تعليمهم في الخارج، وقدِموا الى بلدهم وهم يحملون معهم أحلاماً وآمالاً لتطوير المجتمع والدفع بحركة التقدم الى الامام. تربص المناهضون للتغيير بتلك الفئة المتعلمة، وقاموا بإبعادهم عن مراكز السلطة، وضيقوا عليهم في عيشهم، وأحبطوا جميع محاولاتهم للإصلاح والتغيير. دمروا خطط تطويرية صرفت الدولة عليها أموال طائلة تحت ذريعة تغريب المجتمع ونزع خصوصيته.

الجدير بالذكر هنا انه في حقبة الحرب الباردة تلك العالم الغربي وقف مساندا لتلك الفئات المتشددة بطريقة او بأخرى لصد اي تحرك فعلي للتحرر الوطني بحجة ايقاف الزحف الشيوعي.لم يكن تحالف العالم الغربي ضد الحركات التحررية مقتصرا على دول الشرق الاوسط، بل طال دول امريكا الجنوبية وبعض دول شرق اسيا.

الدولة السعودية وجدت من صالحها ان تنضم لصفوف ذلك التحالف الغربي، لذلك لم يكن يهمها كثيرا ما كان يجري آنذاك للفئات المختلفة من المجتمع، والتي تعرضت للقهر والإقصاء بشكل وحشي، بل على العكس بعض أجهزة الدولة ساهمت في تطبيق اجندة المتصلبين دينياً ممن يطلقون على أنفسهم بالصحويين، لأن أفعالهم كانت تصب في مصلحة الدولة، حيث مكنتها في الوقت نفسه من بسط سلطتها على شرائح كبيرة من المجتمع، وتخلصت من الصوت المطالب بالتطوير والاصلاح والمشاركة السياسية.

في بداية الثمانينات مع رفع راية الجهاد وتجهيز المعسكرات المدعومة بالتكتيك والمعدات والتدريب الغربي ومساندة المال الخليجي، وفتح تلك المعسكرات في دول مثل الاردن والسودان وباكستان، اثناءها بعض مشايخ السعودية المتشددين بدأوا بنشر ثقافة التوحش، والزهد في الحياة، وبغض الآخر، وتجميع الاموال لتجييش الشباب الاسلامي والزج بهم في اراضي افغانستان والشيشان بإسم نصرة الاسلام، واخراج الكفار من ديار المسلمين.

في السعودية، وعلى الساحة الاجتماعية في تلك الفترة، ازدادت محاصرة الناس وتجريدهم من ذواتهم وخصوصيتهم وحرياتهم الفردية، حتى المظهر الخارجي والطقوس الدينية صارت قسرا واجبارا. وعلى اثر تلك التحركات التوحشية، برز على الضفة الاخرى رد فعل للتوحش مساوٍ له في العنف ومختلف معه في الاتجاه، فقست قلوب الناس وانتشر التوحش المقنن في البيوت وظهرت تبعاته على الضعفاء منهم، وتفشى القهر ذو الماركة السعودية بين الطرقات وفي المحلات وفي جميع مؤسسات المجتمع.

لعقدين كاملين والعنف الديني والقهر السياسي في البلد يتفاقمان بوتيرة غير مسبوقة، والحال الاجتماعي يزداد سوءا وتدهورا، حيث ان الانظمة التعسفية كانت تلتف بشدة حول اعناق الناس والكبت بجميع اصنافه يتزايد عاماً بعد عام.

نُشرت الشرطة الدينية والأمنية في جميع الاماكن العامة لمراقبة الناس، وحُوربت جميع المظاهر الثقافية والصور الترفيهية، حتى التي تخص الاطفال مثل حفلات اعياد الميلاد والتخرج. فكل شيء لم يكن يروق للسلطة كان يُصنّف على انه حرام او بدعة او مفسدة.

اضُطهدت النساء بأحكام وتشريعات لا صلة لها بالدين لكنها اُلبست بعباءته. هُضمت حقوقهن، وغُيبن في ساحات المحاكم وأروقة المباني الحكومية، واُقصين في معظم الفعاليات والمرافق العامة، فتحولن الى كتل سوداء مجهولات الهوية. على الجانب الآخر، حُرمن من معظم الفرص والوظائف، وتوقفت بعثات الفتيات السعوديات للخارج، ومُنع توظيف النساء في الاماكن المختلطة عدا القطاع الصحي. ايضا فُصلت العيادات النسائية واقسامهن بجدران عازلة، وطُبقت على الموظفات قوانين صارمة لضبط الفصل العنصري بينهن والرجال والزامهن بالزي الرسمي: العباءة والنقاب الاسود الكالح.

وسائل الاعلام والمدراس والجامعات نالت نصيب الاسد من تلك الموجة المتوحشة فتحولت الى ساحات دينية من كثرة المواد الدينية والنشاطات والمحاضرات التوعوية التي تحرض على نبذ الغير وكرههم، وتعزز نزعة الزهد في الحياة، وتنشر ثقافة عذاب القبر وجهنم، وتحثّ على الشهادة ونيل الجنة. الاعلاميون والكوادر التعليمية، كثير منهم، ركبوا الموجة فاصبحوا دعاة ومبشرين بالصحويّة الجهادية.

ايضا فُرضت قوانين وانظمة شديدة على الطالبات والطلاب في الزي وفي اجراءات الخروج والدخول في المدرسة او الجامعة. حُذفت جميع المواد الدراسية التي تثير الفكر النقدي وتثري الجانب الابداعي لدى المتعلم، واُستبدلت بمواد تعتمد في مجملها على الحفظ والسرد البليد. حُرم السعوديون من الالتحاق بالمدارس الاجنبية الموجودة في البلد، كي لا يتشكلوا بفكر السلطة الدينية ليس لها يد فيه، وبالمقابل مُنع تدريس غير السعوديين في المدارس والجامعات الحكومية لحجب المتنورين منهم عن السعوديين وابعاد تأثيرهم عنهم.

المساجد صارت منابر لنشر ثقافة العنف والاقصاء، فقُمعت جميع المطالبات الحقوقية السلمية بوحشية وبعنف غير مبرر، مثل محاولة النساء لقيادة السيارات في الرياض في بداية التسعينات، وقبلها الحركات الاصلاحية في الثمانينات.

انذاك الكتاب ربما كان اكثر وابسط جنحة سُجن عليها الانسان السعودي وربما جُلد ايضا في بعض الحالات، فكلما عبرت كلمة "ثقافة"، تحسّس رجال "الحسبة" عصيانهم، وتلمّس حراس الامن اسلحتهم، وتحركت في داخلهم نزعة الهجوم والايذاء. كان الاطلاع على فكر وتجارب وأديان الشعوب الاخرى وتصفّح كتبهم ودراسة ثقافتهم وايديولوجياتهم امراً مُحارباً ومنبوذاً لدى السلطتين الدينية والسياسية.

في تلك الحقبة، الاقليات الدينية او معتنقو الافكار التقدمية طالتهم ايضا ايدي الجهاديين المتصلبة، حيث عاملوهم بشتى اساليب التهميش والاضطهاد والاقصاء. مُنعوا من العمل في القطاع العسكري ومن الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وحُرموا من تقلد مناصب عليا في القطاعات الاخرى مثل الشركات المصنّعة للنفط ومنتجاته، وفي البنوك والمؤسسات الحكومية. طُبقت لوائح مشددة على الاقليات الدينية، فحدوا من ممارستها لمعتقداتها وطقوسها. ايضا الاجانب العاملون في المملكة بعد أن تلقوا جرعات من التحذير والوعيد قبل قدموهم، وضُعت عليهم انظمة صارمة لكي يُحد من تحركاتهم و يُقلل من نشاطاتهم واختلاطهم بالسعوديين.

الدين صار بالقسر او متلبساً برداء النفاق، مما اثر على اللغة بين الناس وغيّرها بشكل عجيب، حتى صار الكل يظهر بأنه اكثر تدينا والتزاما من الآخر، وكأنهم في مارثوان ديني عالمي ستوزع فيه جوائز على الأشد تمسكاً بدينه. فحتى الاطفال الذين ولدوا في تلك الفترة، لقبوا بأسماء دينية مندثرة، لم يسمع بها من قبل.

بعد كل تلك التغيرات القسرية التي طرأت على المجتمع السعودي، لم يدرك الناس ولا حتى السلطة إلى أي مدى وصل التوحش المضاد وتوغل بين فئة من الشباب السعودي سوى بعد كارثة 11 سبتمبر في عام 2001، حيث نفذ العملية 19 عربيا، 15 منهم سعوديون، وبعدها نهض تنظيم القاعدة الدموي وانتشر مقاتلوه في كل مكان، و يرأسه سعودي ويلتف تحت رايته كثير من السعوديين الجهاديين.

لم ينتهِ الحال عند ذلك التنظيم. بل صُعق العالم مرة أخرى، خاصة العالم الغربي، بظاهرة التوحش السعودي اكثر حين ثبت ان معظم نزلاء معتقل "جوانتانامو" من السعوديين. ولم ينافسهم في العدد سوى اليمنيين. ايضا غالبية الانتحاريين الاجانب في العراق بين 2003 الى 2006 كانوا من السعوديين، وكثير من المقاتلين المغتربين في بلدان مثل أفغانستان وباكستان والصومال وقبلهم الشيشان كانوا من السعوديين، وحتى في فتح الاسلام في لبنان كان بين صفوفهم محاربين سعوديين.

بالطبع، بضاعتنا رُدت إلينا في النهاية. فلا احد ينسى عمليات القتل والتفجيرات التي حصلت في مدن مختلفة في المملكة بين عامي 2003 و 2004، وما زالت اجهزة الامن تبحث عنهم في كل بقعة في الارض، وقوائم المطلوبين الجهاديين مازالت حتى يومنا هذا تتصدر صفحات الجرائد السعودية.

وآخر ما توصلت اليه اجهزة الامن قبل شهر تقريباً خلية سعودية تابعة لتنظيم القاعدة ومكونة من 44 شخصا من حملة الشهادات العليا، كانت تخطط لشن هجمات ارهابية في مناطق مختلفة من البلد وفي منشآت نفطية. فتلك كانت المرة الأولى التي يعلن فيها جهاز الامن السعودي عن خلية من الجهاديين بينهم رجال على درجة عالية من التعليم والثقافة وفي تخصصات علمية مهمة. كانوا كلهم سعوديين فيما عدا شخص واحد قيل انه من بلد عربي.

بعدها فُجع الناس بحادثة محاولة الاغتيال الأخيرة التي حصلت في قصر الأمير محمد بن نايف يوم الخميس 27 أغسطس 2009، والتي ايقظت السعوديين البسطاء والعالم بأسره من جديد على كابوس يبدو ان ليله طويل جدا وتبعاته وخيمة ومخيفة.

الجدير بالذكر هنا أن الطوائف والفئات المقصية، ومنها الاقليات الدينية والتنويريين، كانت ولا زالت بريئة من تلك الجرائم والهجمات الارهابية، لأنها لم تتجرع التوحش بالطريقة التي حصل عليها الجهاديون وأتباعهم، ولأنها لا تحمل معتقداتهم لا تؤمن بفكرهم. لكن، لا يعني هذا انهم اقل اغترابا من تلك الفئة عن ذواتهم. فهم في نهاية المطاف عايشوا نفس الظروف، وظهرت عليهم اعراض اخرى من التوحش. لكن تبعاته تؤثر اكثر في محيطهم الخاص بهم، وهذا موضوع يحتاج الى بحث آخر لفهمه.

الآن، تظل تساؤلات مهمة تطرق الاذهان: يا ترى، لماذا تحمل تلك الفئة من السعوديين كل هذا التوحش، خاصة بين الشباب منهم؟ ولماذا هذه النزعة الشريرة لإزهاق أرواح الآخرين وتبريره بنصرة الإسلام ونيل الشهادة؟ وهل ثمة حلول لإطفاء فتيل تلك النزعة بين الشباب السعوديين وانهائها بدون رجعة؟؟

حقيقةً الأسباب كثيرة لتلك الظاهرة المروعة للتوحش المضاد والتي ما زالت تلوك مشاعر الامان لدى الافراد والمجتمعات في شتى انحاء الدنيا، وسوف نتناول تلك الاسباب وطرق معالجتها في الجزء القادم من هذه المحاولة لفهم التوحش السعودي…

اتسمت الحياة السياسية والاجتماعية في الثمانينات والتسعينات بالتوحش، لكن هذا لا يعني أبداً ان العقود السابقة كانت ذات سمات سمحة وأليفة، بل كانت بنفس الطابع والصبغة ومرات كانت اشد بكثير، لدرجة ان البعض يتهكم اليوم عن تلك الحقبة من تاريخ السعودية، بأنه "من لم يُلقَ به في السجن فليس بسعودي" من كثرة اعداد السجناء السياسيين، والاعتقالات العشوائية.

الستينات والسبعينات كانت الحرب الباردة في اوجها، والسعوديون لم يكونوا خارج رحاها. الناصرية في مصر والبعث في الشام والعراق والاحزاب الشيوعية ايضا كانت مننتشرة، ولها اقدام راسخة في الشرق الاوسط، وطموحات بعيدة الأمد في المنطقة، مما جعل المعسكر الغربي الرأسمالي وحلفاءه ومنهم السعودية يعدون العدة لمكافحة الموجة.

التيارات الدينية والإخوانية نهضت بأجندة تحارب تلك الانظمة، لذلك كانت مُطاردة في بلدان لديها تطلعات في التخلص من الموروث الرجعي المهيمن على الحياة العامة، وتحديث انظمتها وقوانينها. قاوم السلفيون النهضة والحداثة في بلدانهم فقُمعوا بوحشية، مما جعل الناجين منهم يفرون الى السعودية التي استقبلتهم هم وقاداتهم بالأحضان الدافئة، خاصة الذين قدموا من مصر وبلاد الشام.

حين انضم الاخوانيون للسلفيين في السعودية، افرزوا صيغة جديدة متشددة في فرض الشرائع الدينية في الاعلام والتعليم وفي السلوك العام. الاخواني والسلفي: معسكران قويان تمكنا من تشكيل نهج الحياة السياسية والاجتماعية في السعودية في ذلك العهد، والذي ما زالت تبعاته حاضرة الى يومنا هذا.

نهاية المطاف لتلك الحقبة المعتمة تتوجت في عام 1979م بالمحاولة السلفية المسلحة لقلب النظام السعودي بقيادة "جهيمان العتيبي" و"محمد القحطاني" واتباعهما في الحرم المكي في مكة المكرمة. في فجر اليوم الاول من دخول الامة الاسلامية القرن الخامس عشر الهجري، اندلعت اشتباكات عسكرية في الحرم المكي بين مسلحين سعوديين متشددين ورجال الامن السعودي وقوات اجنبية اخرى، واستمر القتال لأسبوعين كاملين تقريبا من اجل القضاء عليهم، وانهاء حركتهم العسكرية، لكن ليس امتدادهم الفكري.

لم يُعرف حتى اليوم من المتورط معهم من القادة العسكريين السعوديين، وكم عددهم، وكيف تمكنوا من تخزين اسلحتهم ومؤونتهم في سراديب الحرم بدون ان يعلم احد عنهم. كل ما عُرف عنهم هو مطالبهم وأهمها هو تطبيق السلفية كسياسة دولة، والعودة بالناس الى عهد الخلافة الراشدة، اي اعادة عقارب الساعة 1400 سنة الى الوراء!

اثناء انشغال جهاز الامن السعودي بمحاربة العتيبي ورجاله في مكة المكرمة، قام الشيعة في المنطقة الشرقية بإنتفاضة حقوقية ومظاهرات عارمة في نفس الوقت والذي تزامن في شهر محرم، شهر الطقوس الشيعية، حيث خرج الشيعة بعد العزاءات الحسينية افواجاً غاضبة الى الشوارع احتجاجا على احوالهم المعيشية المزرية، وضد التمييز الذي تمارسه الدولة عليهم. قُتل في تلك الانتفاضة اكثر من 30 شخصاً من الشيعة، وُسجن المئات معظمهم كانوا من مدينتي "القطيف" و"صفوى" وضواحيها.

الحركة الشيعية تلك كانت شبه صدى للثورة الايرانية التي كان قاداتها آنذاك يحاولون تصدير الثورة الى الخارج وتحريض الشيعة المهمشين على المطالبة بحقوقهم، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية الشيعية العالية مثل بعض دول الخليج ولبنان والعراق.

مع بداية الثمانينات دخلت ايران في حرب نازفة مع العراق استمرت لثمان سنوات، وخرجت السعودية منتصرة في معركتيها في شرق البلاد وغربه، فقد قُضي تماما على الحركة الحقوقية الشيعية، وعلى اثرها تضاعف التمييز ضدهم، وازداد حصارهم وملاحقتهم والتضييق عليهم في عيشهم.

على الضفة الاخرى قُتل جميع اتباع "جهيمان العتيبي" بعد أن شُهّر بهم في الاعلام، واعتقل الكثير من انصارهم. ولكي تأمن الدولة شرهم ارتكبت خطيئة كبرى حيث فتحت الابواب على مصراعيها للمد السلفي، وسلمت لرجاله زمام الامور لنشر الفكر المتشدد المفعم بالايدلوجية الجهادية في جميع منابر الدولة واهمها الاعلام والتعليم، لكي تقضي على الحركات التحررية والاصلاحية، ومن اجل اعداد الجهاديين للحرب في افغانستان لتحرير بلاد المسلمين من المحتل الروسي الكافر على حسب شعاراتهم انذاك، والتي تطورت فيما بعد فتحولت الى جهاد مسلح لنشر الاسلام في كل بقاع الدنيا قاطبة. حتى بلد مهبط الاسلام السعودية، كفروا قاداتها ووضعوها في قائمة الدول التي ستطالها ايدي جماعاتهم المتشددة المتوحشة، وستنفذ فيها عملياتهم الارهابية.

لعقود طويلة السعودية تنتهج انظمة متشددة وصارمة في تعاملها مع مواطنيها، مما حوّل اعداداً لا بأس بها من النساء والرجال السعوديين الى قساة وعنيفين في تعاملهم مع بعضهم البعض ومع الجاليات الاخرى. وخلق فئة من الشباب المتوحش بحيث اصبح لا يتردد ابدا في تفجير نفسه وقتل العباد وتخريب البلاد.

هناك أسباب اسياسية ومهمة يحتاج المسئولون وصانعو القرار في السعودية ان يتوقفوا عندها، ويعيدوا النظر فيها، ويحاولوا معالجتها واحتواءها قبل فوات الآوان، فهي التي تفسر جوانب كثيرة من هذه السلوكيات السعودية الوحشية وتزيد من تفاقمها، وتوفر ارضاً خصبة لتفريخ الارهابيين.

الأسباب هي كالتالي ومرتبة حسب اهميتها:

اولا: القهر بشقيه السياسي والاجتماعي:

إن القهر بشقيه السياسي والاجتماعي وقعه شديد في حياة الشعب السعودي، فقد سلبه حقوقه الشرعية الأساسية في حرية التعبير، وحرية المعتقد، والحرية الشخصية والابداعية، وحتى الشعور بالامان، وتسبب في انعدام العدالة والمساواة امام القانون، والمشاركة العادلة في القرار السياسي وفي توزيع الثروات.

القهر صار نمط حياة وثقافة سائدة بين السعوديين، فالقهر موجود في البيت، والقهر موجود في المدرسة، وفي العمل وفي المؤسسات الحكومية والخاصة وحتى في الطرقات والاماكن العامة. هذا القهر يتمثل في القوانين الصارمة، وفي رجال الامن، والشرطة الدينية، ويمارسه بعض المسئولين في المؤسسات الحكومية والخاصة، حتى بات الانسان السعودي يشعر اليوم انه امام خيارين: اما ان يكون قاهرا، او أن يكون مقهورأ.

ولّد ذلك القهر في حياة الناس دائرة عنف كبيرة ومعقدة لا تنتهي، وحوّل كل من ملكَ سلطة الى دكتاتوري وجبار، حتى النساء المضطهدات بعضهن يتحولن الى قاهرات لنساء اخريات اضعف منهن او اقل شأنا منهن. لذلك نقرأ مرات في الصحف عن ربات بيوت سعوديات يعذبن عاملات في منازلهن الى حد الموت، او عاملات المنازل ينفسّن عن قهرهن بتعذيب اطفال بقسوة، وتظل دائرة العنف تطحن الناس وتسحق انسانيتهم بدون رحمة.

ثانيا: التطبيق الوحشي للعقوبات والاحكام الجنائية

ان تطبيق اشد العقوبات الجسدية على المخالفين للقانون ومرتكبي الجريمة في الاماكن العامة، خلق اجواء من الرعب والتوحش في نفوس الناس، بالاضافة الى انه قلل من قيمة الانسان وحط من آدميته. فالسعودية هي الدولة الوحيدة التي تستخدم السيف كأداة لإهدار دم القاتل وازهاق روحه مثل البهيمة. ايضا هي البلد الوحيد الذي يستخدم عقوبة "حد الحرابة" في اعدام ما يُثبت عليهم بأنهم من "المفسدين" في الارض، حيث يُقطع رأس الجاني ويظل معلقاً من يديه وكأنه مصلوب، ورأسه مرميا على الارض بجانبه لساعات طويلة من النهار في الأماكن العامة، والشباب والأطفال والمارة يتفرجون عليه وكأنهم في فسحة، والآن مع الأنترنت اصبحت بعض الاعدامات تصور خفية وتُوضع على اليوتيب، مثلما حدث قبل شهور لأحمد العنزي الذي قُتل وعُلق في احدى الساحات العامة في الرياض، ونُشر فيلم اعدامه على الانترنت.

في العقود السابقة كان الزاني يُرمى به في حفرة في مكان عام، ويُرجم حتى يلفظ انفاسه الاخيرة، واذا خرج من حفرته يُعاد اليها لتنهال عليه الصخور حتى الموت. المارة يشاركون في تنفيذ حكم الاعدام مع رجال الامن، ومن لا يشارك في جريمة الرجم، يقف ليتفرج على المشهد ويؤيد الرماة. هذا الصنف من العقوبة توقف لأسباب غير معروفة، ربما لشدة وحشيته.

إحراق رموز "عيد الحب" في كراتشي

بالرغم من ان السعودية لديها برنامج متطور لتأهيل ذوي الاعاقات والاحتياجات الخاصة، لكن لا زالت الأحكام التعزيرية للسارق تسبب عاهات واعاقات دائمة. لا زال ينفذ حكم قطع يد السارق امام الناس ويترك معاقا ومنبوذا طوال حياته. توقف لعقود طويلة هذا الصنف من الاحكام على السارق، لكن مع بداية هذا العام في الرياض عاد من جديد، فقد قُطعت يد حسن بن عياش احمد صغير يمني الجنسية امام الناس بتهمة انه سارق.

ايضا استخدام عقوبة الجلد التي تتنافى مع ابسط حقوق الانسان، لازال يُمارس ذاك العقاب على المواطن علنا وسرا وعلى اتفه خطيئة، حيث يهينوا الجاني أمام الناس ويتعمدوا إيلامه، والشباب والأطفال والمارة يحدّقون في المشهد، وكأنهم يتفرجون على فيلم تراجيدي، وليس واقعا مريرا يعكس مدى احتقار الانسان الذي اقترف خطيئة، والذي بالإمكان معاقبته بطريقة تحفظ له آدميته وكرامته.

ربما افضل مثال يعكس مدى توحش الناس السعوديين، هي قصة مازن عبد الجواد والذي يُطلق عليه اليوم "المجاهر بالرذيلة" الذي ظهر في برنامج احمر بالخط العريض في محطة "ال بي سي"، والذي دفع الناس انفسهم الى المطالبة بمعاقبته اشد عقوبة وصلت الى حد الاعدام، لأنه تحدث عن علاقاته الخاصة بالنساء، الامر الذي يمارسه كثير من الرجال السعوديين في الداخل والخارج.

ثالثا: انعدام القوانين المدونة وغياب سيادة القانون

المحاكم السعودية الى يومنا هذا تفتقر للقوانين المدونة. كل قاضي سعودي يحكم على حسب فهمه ومعرفته بالشريعة الاسلامية. السعودية وايران الدولتين الوحيدتين في العالم قضاتهم رجال دين متشددين يحكمون بقوانين دينية هم اجتهدوا في استحداثها، واطلقوا عليها شرع الله. لذلك مرات كثيرة يُحكم على الجناة بأحكام مختلفة بالرغم من ارتكابهم نفس الجريمة. هذا يجعل الناس تعيش في خوف وتخبط حيث لا احد يعلم ماذا سيحل به حين يلج اروقة المحاكم لأي جنحة.

ايضا القانون في السعودية لا سيادة له على المتنفذين والفاسدين في الدولة، فوباء الواسطة هو الذي يتحكم في مصائر الناس ومستقبلهم، ولأن القضاة رجال دين نجد بعضهم يتعاطفون مع من هم مثلهم، او يسير على نهجهم او من لديه نفوذ وثراء.

بالطبع الشرطة الدينية فوق القانون دائما مهما ارتكبوا من جرائم واهانات في حق الناس، حتى لو كانت جريمة قتل، مثلما حصل في عام 2008م في قضية سلمان الحريصي الذي ضُرب بأيدي رجال الشرطة الدينية بتهمة انه يحتسي الخمر ويصنّعه، وهُشمت جمجمته الى ان فارق الحياة. القتلة برأتهم محكمة التمييز في الرياض، بالرغم من ان التقرير الطبي اثبت ان سبب الوفاة شرخ في الجمجمة ادى الى نزيف حاد ومن ثم الوفاة.

وسنكمل استعراض اسباب اخرى ادت الى التوحش السعودي في الجزء القادم من هذه المحاولة…. وللحديث بقية…

[email protected]

——————-

نشر في 3 حلقات على: شفاف الشرق الأوسط

زر الذهاب إلى الأعلى