أرشيف

اليمن في حروب الآخرين

نجح الرئيس علي عبد الله صالح في تدويل الأزمات اليمنية بعد أن أمّن تعريبها بجر العربية السعودية إلى الحرب عند حدوده الشمالية. ومع أن الرئيس اليمني لم ينجح في إقناع أحد بوجود تدخل إيراني من خلال الحركة الحوثية، إلا أن محاولة تفجير طائرة ديترويت أعادت توجيه الأنظار الدولية إلى تعاظم خطر تنظيم "القاعدة" في اليمن. ساعتان اقتطعهما "المجتمع الدولي" من المؤتمر الدولي المنعقد في لندن حول أفغانستان للبحث في اليمن كانتا كافيتين لتحقيق هدفين:

الأول ـ إغراق النزاعين الشمالي والجنوبي عن طريق وحدانية "الحرب على الإرهاب". إذ جدّدت العشرون دولة المشاركة الحرص على أمن اليمن ووحدته وسيادته وحرمة أراضيه، في غياب لافت للجامعة العربية التي لم تدع للمؤتمر أصلاً. لم يقتصر الأمر على اعتبار أن الحرب في صعدة والحراك الجنوبي من الشؤون الداخلية اليمنية. بات بإمكان ترجمة الحرص الدولي على الوحدة اليمنية بما هو القبول بالرواية الأمنية التمييزية والقمعية للوحدة كما يقدمها ويمارسها نظام صنعاء.

ومع أن المؤتمر مؤتمر دول، لم يلتفت لا إلى حرب حدودية ولا إلى حرب داخلية مستمرة منذ أربع سنوات. فكأن المؤتمر أجاز استمرارها. عشية المؤتمر عرض الرئيس علي عبد الله صالح الحوار على جميع أفرقاء النزاع الثلاثة، بما فيها تنظيم "القاعدة". استجابت الحركة الحوثية فأعلنت الاستعداد للتقيّد بالنقاط الخمس من اتفاق الدوحة للعام 2008 شرط أن تلتزم صنعاء وقف العمليات العسكرية. انتظرت صنعاء إلى ما بعد المؤتمر لترفض وقف إطلاق النار. الحجة الأولى إضافة نقطة سادسة إلى بنود وقف إطلاق النار تتعلق بوقف العمليات الحوثية ضد الجيش السعودي وتسليم الأسرى. والمعلوم أن الحوثيين انسحبوا قبل المؤتمر من 40 نقطة يحتلونها داخل العربية السعودية ما أدى إلى وقف العمليات على تلك الجبهة. حتى أن السيدة كلينتون، في كلمتها أمام المؤتمر، هنأت العربية السعودية على وقف العمليات العسكرية على الحدود السعودية ـ اليمنية. وما إن اختتم المؤتمر، حتى جاء رفض صنعاء وقف إطلاق النار جهاراً بحجة أن الحوثيين يستغلون كل إعلان لوقف إطلاق النار من أجل تعزيز مواقعهم والتزوّد بالسلاح.

الهدف الثاني الذي حققته صنعاء من مؤتمر لندن هو تعيين موعد سريع لمؤتمر الدول المانحة في نهاية شباط الجاري. يجدر التذكير هنا أن مؤتمر لندن الأسبوع الماضي ليس أول مؤتمر دولي ينعقد عن اليمن. سبقه مؤتمر للمانحين عام 2006 خصص 4,7 مليار دولار للتنمية والإصلاح من أجل المساهمة في "تجفيف منابع الإرهاب". واشترط في المقابل على الحكومة اليمنية مكافحة الفساد وتنفيذ عدد من "الإصلاحات" غير محدّد تحت عنوان "الحكم الرشيد" شديد الضبابية. في غضون أربع سنوات، لم تقدّم الدول المانحة أكثر من مليار من الدولارات، دفعته في معظمه العربية السعودية ودول الخليج، ولم تدفع منه الإدارة الأميركية أكثر من 9 ملايين دولار. والحجة الضمنية هي عدم تقيّد الحكومة اليمنية بتعهداتها في مكافحة الفساد وتنفيذ الإصلاحات.

الآن تطالب الحكومة اليمنية بلا أقل من خمسين مليار دولار من المساعدات من أجل التنمية وأرفقت طلبها بالتهديد بعبارة أخرى فعّالة من القاموس الدولي هي خطر تحوّل اليمن إلى «دولة فاشلة». جاء رد الإدارة الأميركية فاتراً في أقل تقدير: رفعت المساعدة السنوية إلى 63 مليون دولار. وعرضت بريطانيا بدورها دفع 100 مليون دولار خلال السنوات الثلاث القادمة. للقياس فقط: مجموع ما سوف تنفقه الحكومتان الأميركية والبريطانية في سنة واحدة على اليمن يوازي أقل مما تنفقانه في العراق في نصف يوم!

لا بد من القول إن هذا الاستقواء بالخارج لطمس حروب وأزمات وفضائح الداخل وحجب منوّعات التمييز والاستبداد فيه أفاد أيما إفادة من قدرة مدهشة لحكم فردي في الشغل على التناقضات والانقسامات الداخلية والإفادة من غياب المعارضات الجادة.

السلطة ذاتها التي طلبت التدخل العسكري الأميركي إلى جانب قواتها في عملياتها ضد «القاعدة»، هي التي نظّمت مؤتمرات لعلماء الدين وشيوخ القبائل من أنصارها لإعلان المعارضة لأي شكل من أشكال التدخل الأجنبي في شؤون اليمن ومن أجل رفض انتشار القوات الأميركية على الأراضي اليمنية. علماً أن وحدات من «القوات الخاصة» الأميركية موجودة بحسب قرار من الرئيس أوباما. وليس من أبسط مفارقات الوضع اليمني أن يتصدّر تلك الاجتماعات الشيخ عبد المجيد الزنداني، القيادي في حزب "التجمع اليمني للإصلاح"، والذي تعتبره الولايات المتحدة الراعي الأول لـ«القاعدة» في اليمن منذ العام 2004!

من جهة أخرى، يملك مشايخ أبرز تجمعين قبليين في البلاد، حاشد، القوية والمهيمنة، وبكيل الكبيرة والمهمشة، موهبة خاصة في أن يتوزعوا بين معارضين وموالين للسلطة.

انتقدت أحزاب اللقاء المشترك من ناصريين وإسلاميين وقبائليين واشتراكيين سابقين مؤتمر لندن ورأت فيه استنجاداً بالوضع الخارجي على الوضع الداخلي وتنبأت بأنه لن يؤمّن الاستقرار ولا مكافحة الفساد. أما ما عدا ذلك، فإنها تتصرّف على طريقة "معارضة صاحبة الجلالة"، تسعى في أحسن الأحوال للقبول بها وسيطاً بين السلطة من جهة وبين الحركة الحوثية والحراك الجنوبي من جهة أخرى.

تكتمل الصورة مع حركة حوثية لا تملك أكثر من تكرار حديثها الثقافوي المناطقي فيما تتكدس الجثث، وينمو جيش اللاجئين. ومع حراك جنوبي يعفي شعار "فك الارتباط" الذي ترفعه صنعاء من أي مسؤولية تجاه المحافظات الجنوبية اللهم إلا تقديم وضعها على أنه وضع أمني يهدّد سيادة البلد ووحدته.

لسائل أن يسأل: في هذا العالم الظالم، ما الضرر في أن ينتزع حاكم أفقر بلد عربي المساعدات لبلده الفقير من المجتمع الدولي ومن عالم الأغنياء بأي حجة كانت: بقرع طبول «الحرب على الإرهاب» أو بالتهديد بتحوّل اليمن إلى "دولة فاشلة"؟

ولعل الجواب هو في هذه الحلقة المفرغة الآخذة في تطويق الوضع اليمني: سوف يبتلع الهدر والفساد النسبة الأكبر من المساعدات العربية والدولية بعد أن تبتلعها المصاريف العسكرية والأمنية الباهظة، حتى لا نتحدث عن إعادة الإعمار إذا ما توقف القتال أو عندما يتوقف. وسوف يشكّل الهدر والفساد من جهتهما الحجة الأبرز لكي تقدم الدول المانحة على تقليص مساعداتها. فلا يتوقعن أحد أن تنفق أموال كثيرة على توفير مياه الشفة لشعب عطشان أو لسد رمق نصف أطفال اليمن الذين يعانون من سوء التغذية أو أن تسهم أموال وفيرة في خفض نسب الفقر الذي يعيش تحت خطه ستون في المائة من أهل اليمن. ناهيكم عن معالجة بطالة الشباب التي تجعلهم نهباً لكل تيار إرهاب أو تطرّف.

وسوف يكتشف نظام صنعاء أن "الشراكة" التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الأميركية في مؤتمر لندن لن تكون شراكة مالية أو تنموية، وإنما هي للتذكير بأن لا توكيل للسلطة اليمنية بأن تدير حربها على الإرهاب بمفردها دون وصاية وإشراف وتدخل مباشرين من الولايات المتحدة.

نقلاً عن صحيفة السفير اللبنانية

زر الذهاب إلى الأعلى