أرشيف

  آخر أيام السودان عبد الحليم قنديل  

/12/2010 قد يكون يوم الانتخابات السودانية الراهنة هو آخر أيام السودان الذي نعرفه. فقد قاطع من قاطع، ويشارك من يشارك، ولكن على صورة سودانين لا سودان واحد، وباتفاق ضمني وظاهر على فصل جنوب السودان، وقد كان لافتا أن حركة فصل جنوب السودان (الحركة الشعبية) تصرفت بما تمليه أولوية الانفصال، لجأت فى البداية إلى نوع من خداع البصر، وجمعت أطرافا شمالية معارضة لحكومة البشير وحزبه المؤتمر الوطني، وكونت منها ما أسمى 'إجماع جوبا'، وحاولت المعارضة الشمالية وضع القصة فى سياق شبه وحدوي، وغيرت اسم 'إجماع جوبا' إلى 'الإجماع الوطني'، ونقلت مكان الاجتماعات من جوبا ـ عاصمة الجنوب ـ إلى الخرطوم عاصمة السودان ككل، وبدا أن الأطراف كلها قد تتفق على الرغبة فى تأجيل الانتخابات، وإلى هنا بدت القصة مفهومة، ومبررة باعتراضات سياسية ورغبة في توفير شروط نزاهة انتخابية أفضل، لكن أصل القصة تكشف في أيام الحسم الأخيرة، فقد قررت الحركة الشعبية سحب مرشحها على رئاسة السودان ككل، سحبت مرشحها 'الشمالي' ياسر عرمان من السباق، ودون أن تعلن مقاطعتها للانتخابات كلها، وبدا الأمر كأنه رغبة فى إحراج موقف البشير وحده، لكن الحركة عادت فكشفت نزوعها الانفصالي الأصيل، وقررت تقسيم السودان إلى سودانين انتخابيين، سودان شمالي تقاطع انتخاباته كلها، وعلى مستويات الرئاسة والولاة والبرلمان، و'سودان جنوبي' تقصر مشاركتها على انتخاباته الرئاسية والولائية والبرلمانية، وكأنها تقول ببساطة : لا يهمنا ما يجري خارج حدودنا الجنوبية، والمهم أن تنتهي الرئاسة في الجنوب لسلفاكير زعيم الحركة الشعبية، وحتى لو انتهت الرئاسة في الشمال إلى المشير البشير كما هو مرجح ومعلوم سلفا. الانفصال ـ إذن ـ هو الثمرة المرة لما جرى كله، وقد جرى ترسيم حدوده النهائية في الكرنفال الانتخابي، وبرعاية أمريكية ضاغطة للتعجيل بإجراء الانتخابات، فأولويات واشنطن ليست في ديمقراطية السودان، بل في تمزيقه، والبدء بإتمام فصل الجنوب، والتمهيد لفصل أجزاء أخرى من الشمال السوداني، ويكاد الأمر يكون منتهيا، فالحركة الشعبية تبدو ـ بالنتائج المنتظرة للانتخابات ـ سيدة الجنوب، ومحتكرة للتمثيل الجنوبي، بينما تبدو الغالبية في الشمال مضمونة مؤقتا لحزب البشير، وإن لم يخل المسرح من منافسين بوجود محسوس على خشبة الشمال، فثمة أحزاب تاريخية طائفية كحزب الأمة والحزب الاتحادي، وثمة منافس منشق عن البشير وحزبه هو فريق الترابي، وثمة أزمات معلقة في دارفور مع حركة العدل والمساواة القريبة تاريخيا من حزب الترابي، والمحصلة : انسجام جنوبي يمهد لانفصال الدولة رسميا، وقلق في الشمال يؤذن بضغوط متزايدة على البشير وحزبه، فأحزاب المعارضة الشمالية سوف تشكك في شرعية انتخاب البشير، وهذه بيئة مواتية لضغوط دولية وأمريكية بالذات، تريد أن تضع البشير في قفص الاتهام، وتهدده بسيف محكمة الجنايات الدولية، وتسعى لنسف حالة الهدوء النسبي فى دارفور، وإشعال صراع بالسلاح يضاعف قلق السياسة فى الخرطوم، وجعل حكومة البشير فى حالة 'خض ورج' تجبرها على المشاركة المطلوبة فى تدشين انفصال الجنوب رسميا مع أوائل العام 2011. وليست القصة في ترتيبات الانتخابات، ولا في احتمالات حدوث تزوير فيها، فقد لا يكون البشير وحزبه في احتياج إلى تزوير واسع النطاق، فقد تعدلت الموازين في الشمال لصالح حزبه في العشرين سنة الأخيرة، فثمة معدلات نمو طفري بعد اكتشاف البترول بالذات، وارتـفاع في مستوى معيشة فئات متزايدة من السكان، وخلخلة في صورة السودان الفـقير البائس، ومشاريع تنمية غير مسبوقة في تاريخ السودان، وتلك كلها تطورات انتهت إلى إضعاف نفوذ الأحزاب التاريخية القديمة، هذا بالطبع فوق إجراءات قمع وتفكيك لهذه الأحزاب، وإقامة زعمائها ـ باستثناء الترابي ـ في المنافي خارج السودان لأغلب الوقت، والمحصلة: أن حزب البشير صار هو الأكثر نفوذا بامتياز في شمال السودان، وأن فـوزه في الانتخابات ليس تزويرا لحقائق، حتى وإن جرى تزوير في الإجراءات هنا أو هناك، فثمة حالة تعبئة واسعة لتأييد البشير، تعبئة سياسية وشعبية، وتعبئة قبلية أيضا، فالبشير من قبائل 'الجعالين' أكبر قبائل السودان. ومع التسليم بتفوق البشير الانتخابي، فإن قصة الرجل تنطوي على مفارقة مدهشة، فهو الرجل الذي حقق حكمه للسودان طفرات تنمية ظاهرة، وهو الرجل الذي جعل الانفصال ممكنا فى الوقت ذاته، فهو أطول حكام السودان عمرا في منصبه، وجمع في سنوات حكمه الطويل بين معنى الحكم العسكري ومعنى الحريات المحدودة، فقد تقلب السودان منذ استقلاله ـ أوائل 1956 ـ على جمر مشتعل، تقلب بين سنوات حكم حزبي، وسنوات أطول بكثير لانقلابات عسكرية، ولم تكن المحصلة نفعا خالصا للسودان، لا في ظل الحكم الديمقراطي، ولا في ظل حكم العسكر، فالسودان يعاني من معضلة تكوينية كبرى، وهي ضعف جهاز الدولة بشدة مقارنة بالجغرافيا الشاسعة والتنوع السكانى المفرط، وكان داء الجنوب المعزول إداريا ـ منذ عهد الاحتلال البريطاني ـ وجعا يقض مضاجع السودان، وفي سنوات قوة حكم النميري، جرى عقد 'اتفاق أديس أبابا' مع حركة التمرد الجنوبي، كان الاتفاق ينطوى على نوع من الحكم الذاتي، وبعد نهاية النميري، فشل حكم الأحزاب في التوصل إلى حل، ثم اشتعلت الحرب ضارية في سنوات حكم البشير، كان الشيخ الترابي لايزال متحالفا مع البشير، وجرت تعبئة دينية مجنونة، وجرى تصوير الأمر كما لو كان حربا ضد الصليبيين فى الجنوب، ودخل مجلس الكنائس العالمي وأمريكا وإسرائيل على خط الحرب، ولم يستطع حكم البشير الفـوز بالحـرب فى النهاية، ثم تحول الفشل الحربي إلى هزيمة سياسية شاملة بإقرار مبدأ انفصال الجنوب، وجرى عقد 'اتفاق نيفاشا' الممهد للانفصال، والذي تجرى الانتخابات الراهنة كجزء من التزاماته، ويعقبـها استفتاء تقرير المصير بعد شهور، وربما تنــتهي وقتها ـ عند أطراف بعينها ـ فكرة الحاجة إلى دور البشير، ربما ينتهي دوره المشابه لدور ذكر النحل، كل دوره ـ فى مملكة النحل ـ أن يلقح الملكة ويموت، أن يلقح ملكة الانفصال وينتهى دوره، وأتذكر أننى دعيت مع عدد من المثقفين العرب للقاء الرئيس البشير فى الخرطوم، وأذيع اللقاء على حلقتين في برنامــج 'حوار مفتوح' بقناة 'الجزيرة'، ووجهت اتهاما على الهواء للبشير بأنه المسؤول عن انفصال الجنوب، وأن انشقاقات حكمه ساهمت في إشعال الصراع بدارفور، ثم سألته وقتها ـ ايار (مايو) 2009 ـ عما إذا كان مناسبا أن يترك الحكم، ولا يرشح نفسه في انتخابات 2010، وكان رد البشير نموذجيا على طريقة الحكام العرب، فقد قال أنه يرغب في ترك الرئاسة، لكن الأمر معلق برغبة حزبه، وقد حدث ما كان موضع الخشية، ترشح البشير مجددا، وسوف يكسب منصب الرئاسة، ومقابل أن يخسر السودان جنوبه للأبد. الأخطر، أن انفصال الجنوب لن يكون الخسارة الأخيرة، بل السابقة القابلة للتكرار، إلى الشرق في كردفان، أو بالذات إلى الغرب في دارفور، فقد لا تثبت خرائط السودان على حالها، بينما يثبت البشير في قصر الرئاسة، وحتى إشعار آخر. ' كاتب مصري [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى