أرشيف

اليمنيون يبحثون عن “طريق رابع”

مثلت التطورات الأخيرة التي يشهدها اليمن عاملاً من عوامل القلق ليس لليمنيين فحسب، بل وللعرب أيضاً، فالتطورات التي تعتمل في هذا البلد منذ أحداث تونس ومصر، شكلت واحدة من مفردات الخوف من انزلاق البلاد إلى الفوضى، التي لن يسلم من مخاطرها أحد .
المواجهات السياسية والأمنية الكبيرة والمتعددة بين السلطة والمعارضة خلال الأسابيع القليلة الماضية أكدت المخاوف التي تساور قطاعات كبيرة من الناس حول الطريق الذي يسير فيه اليمن ومآل هذا الطريق ونتائجه وتوابعه، بخاصة أن طرفي الصراع اختارا المواجهة الأمنية عوضاً عن المسار السياسي سبيلاً لحل الأزمة التي تتفاعل منذ ما قبل ظهور أحداث تونس ومصر، وإن لم تكن بهذه الحدة التي نراها اليوم .
في الأسبوع الأخير بدأ العد التنازلي للمواجهات، فالمعارضة، المسنودة بحركة الشارع المطالب بإسقاط النظام ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح، صارت ترفض أي نوع من الحلول طالما أن هذه الحلول لا تناقش بنداً واحداً هو رحيل الرئيس في فترة زمنية يحددها الرئيس نفسه، أما السلطة فإنها تؤكد شرعيتها القانونية والدستورية وترى في هذا المطلب انقلاباً على الدستور والقانون وعلى الديمقراطية، وترى أن الحل يكمن في الالتزام بالمواعيد الدستورية .
في مقابل ذلك غاب دور المؤسسات السياسية والتشريعية، المعنية بمعالجة واحتواء الأزمة، وتحولت الخلافات في بعض الأحيان إلى خلافات شخصية أكثر من كونها خلافات سياسية عميقة، أو هكذا صار طرفا الأزمة القائمة، حيث برز فيها قطبان رئيسان: الأول الرئيس علي عبدالله صالح بما يمتلكه من نفوذ سياسي وقبلي وعسكري وأمني، والثاني أبناء الشيخ عبدالله الأحمر، بخاصة اثنان منهم هما الشيخان حميد وحسين، واللذان يتكئان على المال والقبائل والتحالفات السياسية التي نشأت مؤخراً مع أحزاب المعارضة، الممثلة بأحزاب اللقاء المشترك واللجنة التحضيرية للحوار الوطني .
وفي عز الأزمة العاصفة التي تلف اليمن، شمالاً وجنوباً على السواء، تحول مجلس النواب إلى مجرد أداة غير فاعلة بعدما تفكك جسمه بسلسلة من الانسحابات من كتلة حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم، الذي يتمتع بغالبية في المجلس تقدر بنحو 80%، إذ إن عدد الأعضاء الذين قرروا الخروج من كتلة الحزب الحاكم بلغ نحو 20 نائباً، شكلوا في ما بعد كتلة خاصة بهم صارت تعرف ب”كتلة الأحرار لإنقاذ اليمن”، أضيف ذلك إلى الانسحاب الكامل من مجلس النواب لكتل المعارضة والمستقلين منذ عدة أشهر، أي عندما اتخذ مجلس النواب قراراته المثيرة للجدل والمتصلة بإقرار سلسلة من القوانين أبرزها قانون الانتخابات وحزمة التعديلات الدستورية التي كانت، في حالة إقرارها، ستمنح الرئيس علي عبدالله صالح مدة أطول في الحكم .
ومن اللافت أن مجلس النواب ظل صامتاً طوال الأزمة التي ظلت تتفاعل لأسابيع من دون قدرة على التدخل، بل إنه استمر في عقد معظم جلساته بدون نصاب قانوني، الأمر الذي جعل المواطنين يغسلون أيديهم من دور حقيقي للمجلس في حال دخلت البلد في دوامة من المجهول، بل إن كثيراً من المراقبين اعتبروا مجلس النواب جزءاً كبيراً من الأزمة التي يعيشها اليمن اليوم، بخاصة أنه انحاز للحزب أكثر من انحيازه للوطن، وهو ما أجبر العديد من أعضائه على تجميد عضويتهم فيه أو الانسحاب من كتلة حزب الأغلبية، وذلك احتجاجاً على الدور السلبي للمجلس في القضايا الكبرى التي يعيشها البلد .

تسوية الملعب
يرى الكثير من المراقبين السياسيين أن الرئيس علي عبدالله صالح بدأ يستشعر خطوة الوضع في البلد في اللحظة التي أعلن فيه الرئيس التونسي زين العابدين خروجه من تونس والتوجه إلى المملكة العربية السعودية، ثم ما حدث في مصر، وهي أكبر دولة عربية، كان لها التأثير الكبير والقوي في كل المنطقة العربية، فقد شكل هذان الموقفان تغيراً كبيراً في تفكير بعض القادة العرب وليس الرئيس صالح وحده، والتقط الرئيس صالح اللحظة غير المعتادة في الفكر العربي الحاكم، فأعلن عن مبادرة سياسية أطلق خلالها ما صار يعرف ب”اللاءات الثلاث”، وهي: “لا تمديد، لا توريث، لا تصفير للعداد”، وكان بذلك يرد على اقتراحات قدمت من قبل بعض نواب حزبه الذين كانوا إلى ما قبل أسبوعين فقط يتحدون معارضيهم من خلال إقرارهم ما أطلق عليه الأمين العام المساعد لحزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم ورئيس كتلته البرلمانية سلطان البركاني مصطلح “قلع عداد الرئاسة”، أي أن تحذف المادة 112 من الدستور التي تحدد فترة ولاية رئيس الدولة بفترتين رئاسيتين وتركها مفتوحة . وقد كان يظن أعضاء الحزب الحاكم أنهم بهذه التعديلات يفتحون الطريق لعودة الرئيس علي عبدالله صالح للترشح باسم حزب المؤتمر الشعبي لولايتين جديدتين مدتهما عشر سنوات، بعد أن خفضت مدة كل فترة إلى خمس سنوات عوضاً عن سبع في الدستور القائم .
وبدا أن تسوية الملعب السياسي في البلاد لم يكن لمصلحة المعارضة على الإطلاق، فالمعارضة لا تتمتع بغالبية في مجلس النواب منذ فترة طويلة، وغير قادرة على التأثير في القرارات التي يتخذها المجلس، ناهيك عن عدم قدرتها على التنافس مع حزب المؤتمر الشعبي العام الذي يمتلك ما يعرف اليمن ب”القوة الثلاثية المزدوجة”، أي الجيش والأمن، المال والإعلام، وهي قضية لطالما ظلت المعارضة تطرحها لإحداث تكافؤ في الفرص، إلا أن الحزب ما زال حتى الآن ممسكاً بالمراكز الثلاثة بسبب ارتباط الرئيس صالح بحزب المؤتمر والجيش والسلطة معاً .
تسوية الملعب السياسي أخذت بعداً مختلفاً خلال الأسابيع القليلة الماضية، فاللاعب الوحيد الذي كان بيده كل مفاصل الأمور، بدا وكأنه تنازل عن حصته الكاملة في إدارة اللعبة الديمقراطية، وقرر أن يمنح الآخرين فرصة للعب أدوار مختلفة، إلا أن اللاعبين المعارضين يرفضون السير في لعبة لا يزال الحكم وصاحب القرار الأخير فيها هو الحزب الحاكم نفسه . مؤخراً ردد الرئيس علي عبدالله صالح كثيراً دعوته للمعارضين للمشاركة في حكومة وحدة وطنية، حكومة تكون قادرة على إيجاد مخرج حقيقي للأزمة التي يعاني منها اليمن منذ فترة طويلة، لكن المعارضة ترى أن هذه الدعوة ليست جادة، بخاصة أن هذه الدعوة جاءت على إثر تزايد الضغوط على الحاكم من أجل تقديم تنازلات حقيقية تكون قادرة على إحداث اختراق جدي في البنية السياسية للحكم، التي لا تزال تخضع لنفس العوامل والشروط التي كانت عليها منذ سنوات طويلة، أي أن الأمر لا يحتاج إلى “ترقيع سياسي ودستوري” بقدر ما يحتاج إلى إعادة بناء بنية سياسية كاملة وشاملة تكون خالية من أية ارتباطات بالحقبة القديمة التي جاء منها وظل فيها الرئيس صالح طوال سنوات حكمه التي تمتد لأكثر من ثلاثة عقود .
ماذا تعني تسوية الملعب برؤية المعارضة؟، ترى المعارضة أن عقداً اجتماعياً وسياسياً لابد أن يطرأ على البنية السياسية القائمة في البلاد، التي تميل دائماً لمصلحة الطرف المهيمن على صناعة القرار، فالمعارضة ترى أن هذه البنية خدمت الرئيس صالح وأطالت في عمره، وأن الوقت قد حان لصياغة دستور جديد يكون قادراً على تمدين حياة اليمنيين، دستور يكون قادراً على إعادة الاعتبار للقوانين التي تنتهك باستمرار من قبل السلطة نفسها وأن يشرك كافة القوى السياسية الحية في البلاد لتكون جزءاً من الحل لا جزءاً من المشكلة .
لكن من الذي يجب أن يصوغ الدستور الجديد؟، وهل يمكن أن تتفق كافة الأطراف السياسية على تفاصيل الدستور وأحكامه؟، والأهم من ذلك هو الاحتكام إليه إذا ما صعدت قوى سياسية إلى الحكم غير القوى الحالية؟، من لديه القدرة على إعطاء “صك براءة” لهذا الدستور من ألا يكون كابحاً للعملية السياسية المقبلة؟ .
يقيناً إن دستوراً جديداً لا يمكن صياغته بمفردات قوى سياسية بعينها، بل لا بد أن تشترك كافة القوى السياسية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني في صياغته، لكن السؤال الذي يطرح هو، كيف سيكتب الدستور الجدي في ظل انعدام الثقة بين أطراف العملية السياسية التي لا تزال تتمنع حتى الآن من الجلوس إلى طاولة حوار للاتفاق على تفاصيل هذا الدستور، الذي جاء في سياق مبادرتين، الأولى تلك التي قدمها الرئيس علي عبدالله صالح أمام المؤتمر الوطني الذي عقد في صنعاء مطلع الأسبوع الجاري، والثانية في إطار المبادرة التي قدمها القيادي البارز في حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم الشيخ محمد أبو لحوم؟ .
يرى كثيرون أن الطرفين المتصارعين معنيان بإيجاد أرضية لاتفاق يؤدي في نهاية المطاف إلى الخروج من النفق المظلم الذي يسير فيه اليمن اليوم، وهذه الأرضية تتمثل في العودة إلى طاولة الحوار، الذي بالتأكيد لن يكون بشروط السلطة، بل وبثقل المعارضة التي اكتسبت مزيداً من الثقة بعد سلسلة الأزمات التي انتابت النظام خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي لا شك أنها عمقت لديه الشعور بضرورة إشراك الآخرين في العملية السياسية وعدم الانفراد بالسلطة الذي كان مقبلاً عليه قبل أسبوعين فقط من أحداث تونس عندما أقر حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم قطع الحوار مع المعارضة والذهاب منفرداً إلى الانتخابات التشريعية التي كان من المقرر أن تنعقد في السابع والعشرين من شهر إبريل/نيسان المقبل، وجرى إلغاؤها بموجب المبادرة الرئاسية التي قدمها الرئيس صالح في الثاني من شهر فبراير/شباط الماضي .

خلافات للنسيان
يحتاج اليمن اليوم إلى نسيان خلافات أبنائه، بخاصة فرقاء العمل السياسي، والالتفات بشكل جدي لمعالجة وإزالة الاحتقان القائم اليوم بسبب ما يمور به الشارع من أزمة، فالشارع اليوم لم يعد ملك أحد، وإن كانت أطراف في السلطة ترى أن الذي يحرك الشارع قوة سياسية كبيرة مؤثرة هي حركة الإخوان المسلمين، الذي يمثل حزب التجمع اليمني للإصلاح أبرز ممثليها، إلا أن هذه القراءة لا يتفق معها الكثير من المراقبين، ويرون أن الشارع الذي يوجد فيه ساحات التغيير اليوم في معظم مناطق البلاد لم يعد بيد أحد، حتى إن المعارضة لم تعد قادرة على اتخاذ قرار بالمشاركة في الحوار مع السلطة من دون الرجوع إلى الشارع خوفاً من خسارته، وهو الشارع الذي حدد مطالبه بمطلبين رئيسين: الأول إسقاط النظام، والثاني رحيل الرئيس علي عبدالله صالح، وهما مطلبان تم استلهامهما من الأحداث التي اجتاحت كلاً من مصر وتونس، حتى إن طريقة الشعارات التي تتردد في ساحات التغيير في مختلف مناطق اليمن تكاد تكون نسخة من تجربة مصر .
ومع التسليم بشرعية مطالب الشباب في ساحات التغيير في كل محافظات البلاد، فإن أفق الحل غير معروف حتى الآن من قبل أي طرف، والسؤال هو كيف ستدار البلد في ظل انقسام رأسي وأفقي، خاصة أن البلد لا توجد فيه مؤسسات دستورية حقيقية تكون قادرة على الإمساك بالأمور إذا ما سارت الأوضاع إلى الأسوأ، ثم هل هناك قوى سياسية موحدة في الشارع تستطيع أن توحد موقفاً بعد التغيير؟
من أكبر أخطاء النظام والرئيس علي عبدالله صالح، أنه طوال السنوات ال33 من حكمه لم يستطع إيجاد مؤسسة حقيقية يركن إليها ويثق بها الجميع للإمساك بالوضع، فمؤسسة الجيش التي حسمت التغيير في مصر وتونس ليست قادرة على أداء مثل هذا الدور في اليمن، بحكم تركيبة الجيش وتوزع ولائه وحصر قواته الرئيسة بأيدي أقارب الرئيس صالح، والبرلمان مؤسسة ضعيفة غير قادرة على تسلم الحكم لأنه منقسم على نفسه وكثير التفكك، بخاصة بعد سلسلة الاستقالات التي طالت صفوف الحزب الحاكم، وأما القبائل فإن دورها موزع ما بين السلطة والمعارضة، بل يمكن القول إنها موزعة بين الرئيس علي عبدالله صالح وحلفائه وأنجال الشيخ الأحمر وحلفائهم .
لذلك فإن الخوف في اليمن من تغيير غير منظم خوف مبرر، لذا يدعو الكثير إلى انتقال سلمي وسلس للسلطة، بخاصة أن الرئيس علي عبدالله صالح أعلن استعداده لذلك، إلا أن السؤال متى يمكن أن يكون هذا الانتقال وكيف؟، يريد الرئيس صالح بموجب مبادرتيه السابقتين أن يجري نقل السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، على أن يكون ذلك مع نهاية ولايته الرئاسية التي تنتهي في شهر سبتمبر/أيلول ،2013 فيما ترى المعارضة أن هذا الوقت طويل جداً وأن الشارع يريد الرحيل اليوم وليس غداً، بمعنى أن المعارضة تطلب من الرئيس أن يحدد برنامجاً زمنياً لرحيله مع نهاية العام الجاري . وهو المطلب الذي تضمنته النقاط الخمس للمعارضة التي سلمتها للجنة الوسطاء من علماء الدين وعلى رأسهم الشيخ عبدالمجيد الزنداني، وهو ما رفضه الرئيس بعد أن كان وافق عليه في فترة سابقة .
وبين هذين الرأيين تبقى المسألة معلقة بين تسليم رسمي في أواخر ،2013 وهو مقترح الرئيس صالح وتسليم اضطراري، بمعنى تنحية الرئيس عبر انتخابات رئاسية مبكرة، أقصى مدة له نهاية العام الجاري، وهو مضمون مبادرة قدمها قبل أسبوعين وزير السياحة نبيل الفقيه الذي طالب بإجراء إصلاحات دستورية وانتخابية حقيقية وسريعة تسمح بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في آن .
على الرغم من ذلك فإن التقاطعات السياسية بين السلطة والمعارضة، وبينهما الشارع، تبدو عائقاً أمام التوصل إلى رؤية سياسية موحدة لحل الأزمة اليمنية، حل لا يريده الحاكم أن يكون على الطريقة التونسية أو الطريقة المصرية ولا حل على الطريقة الليبية كما يريده الشارع، بل حل يتناسى فيه الجميع خلافاتهم ليأتي على الطريقة اليمنية، حل تحضر فيه الحكمة اليمانية التي لاتزال غائبة أو “مغيبة” حتى الآن، بحيث يخرج اليمن إلى طريق يواصل فيه حياته بشكل طبيعي وأن يستوعب حقيقة التنوع في دولة الوحدة باتباع مشروع الأقاليم، أي الفيدرالية، في إطار اليمن الموحد، وهو المشروع الذي كان يعتبر الحديث عنه إلى وقت قريب من المحرمات، لكنه كان جزءاً من حل قدمه الرئيس علي صالح على طبق من ذهب لكافة القوى السياسية، فهو يدرك أكثر من غيره أن طريقاً تونسياً أو مصرياً أو ليبياً يمكن أن يمزق اليمن، وهو لا يريد أن يرتبط اسمه ب”موحد اليمن وممزقه في وقت واحد” . 

صحيفة الخليج – صادق ناشر

زر الذهاب إلى الأعلى