أرشيف

السلفية بين الثنائية الحدية وقيود الموروث.. قراءة في آليات العقلية المغلقة

ترى كيف يفكر السلفيون؟ وما هي آليات التفكير لديهم؟ والى أين تسير السلفية؟ للإجابة على هذه الأسئلة دعونا ننظر في التالي:

يقوم التفكير السلفي على أساس نظرية الثنائية الحدية، لما تمتاز به من بساطة وبدائية حيث يقسم الوجود بكل مظاهره وتعقيداته إلى قسمين اثنين، احدهما صحيح وصائب والآخر خاطئ وباطل، فالخير يقابله الشر، والصواب يقابله الخطأ، والعدل يقابله الظلم، ومن هذا التقسيم الثنائي الحدي النافي لغنى وتعقيد وتعددية الواقع، انطلقت كل التقسيمات الدينية المعروفة، من دنيا وآخره، وجنة ونار، وايمان وكفر، حيث ان نظرية الثنائية الحدية تقوم على الركائز التالية.

  • 1- يقينية مطلقة.
  • 2- رفض مبدأ التعددية.
  • 3- رفض مبدأ السببية.
  • 4- رفض مبدأ النسبية.
  • 5- رفض وجود الآخر والمختلف.

ومحصلة هذا النمط من التفكير هو رفض الإبداع ورفض التجديد، فالإبداع والتجديد يقوم على معايير السببية، والنسبية، والاعتراف بوجود المختلف، وهذه كلها تتعارض تعارضاً مطلقاً مع المبدأ الأول للتفكير السلفي وهو اليقينية المطلقة، وانطلاقاً من هذا التعارض وجد التيار السلفي نفسه في حالة صدام حاد مع متطلبات العصر المتغيرة والمتطورة، فمتطلبات العصر تضع دوماً أمام وقائع جديدة، تتطلب منه التفكير واجتراح الحلول خارج إطار نظرية الثنائية الحدية بيقينيتها المطلقة، وعندما يحاول التزحزح عن مواقعه لمواجهة الوقائع والمعطيات المستجدة والمتغيرة، يجد نفسه مقيداً بقيود الموروث، المتمثل في ترسانة النصوص، المفسرة تاريخياً طبقاً لنظرية الثنائية الحدية بمبدئها اليقيني المطلق، فالسلفي واقع في أدائه وفي حركته بين مطرقة الواقع  المتغير والمتطور، وسندان الثنائية الحدية بقيمها اليقينية المطلقة المستمدة من موروث ذي طابع قدسي عصي على التطور والتغيير، وإذا انطلقنا من النظرية الى الواقع كي نفهم أداء التيار السلفي في المنطقة عموماً، وفي اليمن تحديداً، نجد انه لا يخرج في أدائه عن هذين الحدين المتعارضين، ففي حرب عام 1994م والظروف التي سبقتها ولازمتها ساند رموز التيار السلفي سلطة عائلية فاسدة، تحت دعوى طاعة ونصرة ولي الأمر، وقاموا في هذا الإطار بإصدار الفتاوى، وزيارة المعسكرات للتحريض على القتل، في حرب لا هدف لها إلا تمكن نظام عائلي فاسد من إقصاء تهميش الجميع بمن فيهم السلفيون أنفسهم، دون ان يسألوا أنفسهم عن ما هي النتيجة والمحصلة النهائية لطاعة ونصرة من يسمونه ولياً للأمر، بل أنهم تناسوا هنا النصوص التي تحرم سفك الدماء، وتحرم نهب أموال وممتلكات الناس، لان تذكر هذه النصوص يستدعي خلق تعارض داخل المنظومة النصية نفسها، وهذا التعارض يستعدي ضرورة التفكير لاجتراح الحلول، والتفكير لا مكان له في عقلية السلفي، القائمة والمبنية على الثنتائية الحدية، واليقينية المطلقة.

أليست الفلسفة والمنطق قوام التفكير الموضوعي السليم من المحرمات عند السلفيين، فهم يسمون الفلاسفة والمناطقة بالزنادقة، لا لشيء إلا لقدرتهم التأويلية والتفكيكية العالية، التي تعري طبيعة الهرم النصي السلفي وتفضح ثغراته وعوراته، فالسلفيون بحكم تكوينهم الذهني يمقتون المعقول، ويقدسون المنقول، وينطبق هذا التحليل على أداء السلفية أبان مرحلة الحرب الباردة، حيث وجدت نفسها مجرد ترس مشير في آلة الحرب الأمريكية والغربية وتحالفاتها الإقليمية، ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، فالحرب في نظر السلفي هي جهاد، والجهاد في نظره هو فريضة، طاعة من يرى فيهم ولاة الأمور الذين دعوا الى الجهاد في الرياض، وصنعاء، وغيرهما واجبة، وصحيح ان هناك تعارضاً عقائدياً بين الشيوعية والسلفية، لكن وبصرف النظر عن التعارض العقائدي فالمنطق الذي ينبغي ان يبني عليه قرار الحرب هو في مصلحة من ستكون نتيجة الحرب، وألا تصبح المسألة عبثية، والواضح أنهم لم يسألوا أنفسهم مطلقاً، حرب من هذه؟ ولمن ستكون حصيلة ونتيجة ذلك الجهاد، لان السؤال هنا يستدعي التفكير، والتفكير لا مكان له في عقلية السلفي، القائمة على نظرية الثنائية الحدية ذات اليقينية المطلقة، فالسلفي بطبعة طبع سهل القياد، يخشى الجديد وينتابه ذعر شديد من التغيير، وذو منزع آني، مرحلين نفعي في التفكير، فالتفكير الاستراتيجي يحتاج إلى عقلية، وهذه العقلية لا وجود لها في عالم السلفية.

كما ينطبق هذا التحليل على أداء السلفية في تعاملها مع الثورة الحالية التي تشهدها اليمن، فطاعة ولي الأمر واجبة، ولكن ولي الأمر هنا قد وصل الى طريق مسدود، وأصبح مرفوضاً من قبل الجميع، ولكن الإطاحة به قد تؤدي وتقود إلى التغيير، والتغيير قد يصطحب معه بالضرورة ما يمس بثوابت السلفية ذات اليقينيات المطلقة، وعليه فان الحل بالنسبة لهم يمكن في الإحلال وليس في التغيير، بمعنى إحلال طاغية بطاغية آخر يسمونه ولياً للأمر، الإشكالية هنا ان ولي الأمر بالنسبة للسلفي يتجسد في فرد وليس في نظام او مؤسسة، والسلفية لا تستطيع ان تجدد فكرها بالإقدام على تغيير مفهوم ولي الأمر، لان النظام او المؤسسة وعاء جامع للجميع، وهذا الوعاء الجمعي سيفضي بالضرورة إلى دولة مدنية ذات مرجعية شعبية، وقيد الموروث اليقيني المطلق لا يسمح للسلفي بإحداث هذه النقلة التي تحل النظام محل الشخص والمؤسسة محل الفرد، ففي نظام الجمع والكل سيجد السلفي نفسه وقد أصبح واحداً من كل، وبالتالي سيضطر الى الاعتراف بوجود الآخر، والدخول معه في مفاوضات ومساومات تؤدي إلى اجتراح  تشريع، او خلق حلول توافقية تعبر عن مصالح الجميع، وهذه المصالح مع الترسانة النصية للموروث السلفي ذات اليقينة المطلقة في نظر أتباعها، ولذا فان عقلية السلفي هي عقلية احلالية، ولا تقوى بحكم تركيبها ان تكون عقلية تغييرية او إبداعية، فهي تسعى الى إحلال فرد بأخر مع بقاء الوضع على ما هو عليه، بل ان طلاب التغيير الناجز هنا يصبحون في نظر السلفي محل مغايرة وتكفير مبطن، كون السلفي هنا يخلط بين النص وبين فهمه وتفسيره هو للنص، ويخلط بين الدين وبين ذاته، اذ يتماهى هنا الكل في شخصه، فيصبح هو المرجعية وبالتالي هو الدين وهو النص ذاته، ومن ينتقده او يخالفه في الرأي إنما ينتقد الدين والنص ذاته، وهو بذلك يرى في هذا المعارض انه يستحق النفي من الوجود، وهنا تتجسد العقلية المغلقة بكل معانيها، كما يبرهن على صحة هذا التحليل قائمة المحرمات لدى السلفي وترتيب أولوياتها، فالرقص والغناء وسماع الموسيقى تعتبر على رأس قائمة المحرمات، بينما تعتبر الحروب بكل ما يصاحبها من سفك للدماء وتشريد للناس في ذلك تلك القائمة، ان لم تكن محرمة لديهم أصلا، وتعتبر الحدود كقطع يد السارق او الجلد او الرجم ذات أولوية مطلقة بينما الحاكم الذي يسرق ويجوع شعباً بأكمله يعتبر في نظرهم ولياً للأمر تجب طاعته والامتثال لأوامره، ان عقلية السلفي البسيطة والمغلقة والمحدودة لا ترى في كل هذا الخلط والتناقض ما يستدعي التفكير، لان هذه العقلية لا تقوم ولا تنه على التفكير من حيث الأساس، فالتفكير يعني استدعاء السببية، والسببية تتعارض تعارضاً مطلقاً عندهم مع الركيزة الأساسية للعقلية السلفية وهي اليقيني القطعية المطلقة.

ان السلفية بسبب عدم قدرتها على مجارات الواقع والتعامل معه قد تجاوزها الواقع وانحسرت في معظم أقطار المنطقة، وان بقي لها صولة في دول مثل السعودية، واليمن، وأفغانستان، والصومال، فهذه الصولة مؤقتة دون أدنى شك، فمصيرها الى زوال، وعالم اليوم يشهد مصارعها في أكثر من قطر وأكثر من مكان، ولا أتوقع ان يطول بها المقام كثيراً، رغم أنها ستظل مصدر خطر وعامل إعاقة لبعض الوقت، كما لا أتوقع ان يستيقظ أقطابها ورموزها من غفلتهم، ويعملوا على تجديدها فباب الاجتهاد عندهم مغلق، واحدى ثوابتهم هي انه لا اجتهاد مع النص، في حين ان النص يحتاج دوماً الى تفسير وإعادة تفسير وتأويل، حتى يتواءم مع الواقع المتغير، وبالتالي فان الاجتهاد يكون مع النص ومع غياب النص، فالسلفية غير قابلة للتجديد من حيث الأساس، وتجديدها يعني الخروج عن ثوابتها ومقدساتها ومن ثم وضع نهاية لها.

د. ناصر محمد ناصر

[email protected]

نقلا عن صحيفة الوسط

زر الذهاب إلى الأعلى