فضاء حر

دروس من وحي الثورة ..

 

ربما لو انتصرت الثورة الشبابية في اليمنلكان الحال ليس كما هو عليه الآن ولتبدلت خارطة العمل السياسي الوطني , انهيار المنظومة السياسية في اليمن بشكل مطلق وكامل كان سيولد جيلا ناشئا ودماءًسياسية جديدة في العمل السياسي , وكانت ستعتبر الخطوه الأولىوالمثلى في الطريق الصحيح لبناء الدولة المدنية الحديثة , شئ ما اصاب الثورة الشبابية في منتصف الطريق واعاق مسيرة تقدمها عن اكمال المشوار الوليد والحلم الثوري واوقف عجلتها عن التحرك ودكّ حصون النظام واقتلاعه من جذورة كليا, منعطف خطير و مطب شائك نال الثورة ما نالها منه من ارتداد وانعكاس وانكماش على الذات فتقوقعت في بوتقة الإنهزام والتردد ووقفت عاجزة عن اكمال مسيرتها الخصبة والعامرة.


عوامل فشل الثورة الشبابية وتبدد الربيع العربي في اليمن قد تكون هي ذاتها عوامل بقاء النظام واستمراره , وان كان بألبسة جديدة ومظهر جنائزي جديد, نتذكر انه ومنذ بداية الثورة الشبابية وفي عبق ايامها الأولى , وقفنا كثيرا عند المثل الصيني القائل (الثورة يخطط لها العباقرة ينفذها الشجعان ويحكمها الجبناء), كان نوعا من الكابوس المرعب يقظ مضاجع الأحلام الوردية التوّاقة للتغيير , وكانت احلام العودة ترسم في الأفق مستقبلاً واعدا , وتجعل الطريق مفروشا بالورود والآمال .. كانت السماء صافية زرقاء حينما تتشكل سحائبها برفق وهدؤ وتتمايل امام عينيك تنبؤك بمستقبل وطن متقدم زاهر, وترى ناطحات السحاب الشاهقة تعانق الأفق بينما هدير المصانع لا يتوقف عن الحركة والعطاء.


ربما أتت الثورة الشبابية كبارقة امل تخطف السعادة وتهديها لصانعيها بكل سرور , وتبسمت الدنيا اخيرا في وجه الوطن العابس المنسي في قواميس المعاناه والإمتهان , ولسان حال الكثيرين يردد أن غدا ستحيا في ربوع الوطن وتساهم في نهضتة وبناءه  وتقدمة وعلياءه, ساهم التواصل الإجتماعي والشبكة العنكبوتية في نقل الصورة واضحة المعالم كاملة , وصنعت جسرا و نسيجا ثوريا متكاملا بين الداخل والخارج , لخلق ثورة جديدة متقدة في الأنفس , بدأت مختلف الافكار والرؤى ووجهات النظر تتقارب , وساحات الحوار الفسيحه كانت تخلق أجواء من الصفاء والود والإنسجام , وهناك بدأت الروح اليمنية الأصيلة تتآلف في بوتقة واحدة كتب عليها بأحرف من ماء الذهب (هم خير اهل الأرض.. ارق قلوبا وألين افئدة ) , و بدأت مظاهر العداء والتناحر والتشرذم والتمزق وليدة سياسات النظام السابق مع ايام الثورة واشهرها الأولى تذوب وتتلاشى , وبدا اليمنيون جميعا كأنهم اخوة وقلوب متآخية متآلفة .


هكذا شاءت الأقدار .. ان يستمر (الحلم الثوري الجميل) يشحذ الأنفس بمختلف الآمال والهمم , وتتقد هناك عزيمة وهمة عالية وضاءة لا تنتهي , كانت الثورة بمثابة (صحوة ضمير وطنية كبرى) , و كم كانت الفرحة عامرة وكبيرة بانضمام وانضمام الكثيرون الى ساحتنا المقدسة التي بدأت صغيرة وبدأت تكبر وتكبر بشكل محوري وافقي متصاعد وتتوسع , وتنمو ويزداد زخمها وثقلها في استقطاب مختلف مكونات واطياف المجتمع , بدأت الآمال تكبر .. الصوت الذي كان صامتا اخرسا قابعا في جحر الخوف والإنهزام  ومسجونا في اسر الرهبة والوجوم , ومخنوقا في نفق الظلام الشديد الذي لف الكون , بدأ يتحرر تدريجيا من تسلط الذات وعذاب الكبت وينطلق الى آفاق الحرية و فضاء الحقيقة .

بل بدأت المواهب الشبابية ترسم لوحة وطن , فانبثق وخرج من رحى الثورة الشبابية الفنانون والشعراء والكتاب والمصورون والمبدعون ,فالثورة ولاّدة وفرّازة .. بدأت الثورة تخلق فرص البذل والعطاء , وبدأت تنسجم مع احلام وآمال الشباب المتراكمة لسنين مضت , المخفية وراء كواليس التهميش والإقصاء , القابعة وراء جدران الصمت المدفونة في قبور القهر والحرمان  , الذي طال الكثيرين , كانت الساحة الثورية وخيامها .. بالنسبة لنا وطن نحياه وتنتفسه ونشعر به, نجتمع فيه بمختلف الأفكار والرؤى وشتى المذاهب والأطياف , تجمعنا مائدة الثورة المقدسة ونلتف حول شعلتها المضيئة التي لم تنطفئ , هنا نصلي .. وهنا نعبد الله وهناك نسجد على تربة الوطن الغالي , ونبتهل بالدعاء والتضرع لرفعته وعلو شأنه , اجتمعت في الساحة مختلف المكونات الحزبية والفكرية والثقافية والسياسية, واقتبس الثوب الثوري الزاهي البديع مختلف الألوان المتنوعة لمختلف التشكيلات السياسية والحركية التي يزخر بها الطيف الوطني.


ايقن المراقبون والمحللون وبدون شك ان النصر قريب , وحتمية سقوط النظام صارت قاب قوسين أو أدنى ..وان طال أمده , كنا نرى الشهدآء يتساقطون امامنا بصدور عارية في مواجهة آلة القمع الوحشية , وهي تقدم من خيرة زهور شباب اليمن قربانا لغد افضل ومستقبل واعد , وهناك كانت صرخات الجرحى تعلو وهم يتلوون على قارعة الطرقات من شدة الألم , وفي الطرف الآخر صرخات طفل يبكي طالته سهام الغدر خطفت اباه امام عينيه , وآخر ملقى على الأرض مضرج بالدماء اصابته قذائف الهاون ورصاصات طائشة فيخر شهيدا , وهناك الآلاف والآلاف من الشباب يبذلون ارواحهم رخيصة لأجل نجاح الثورة بتضحية وفداء منقطع النظير , ويصنعون مسيرات الحياه والكرامة و العزة و الشموخ والإباء حفاة الأقدام , ينسجون قصة وطن , ويربطون جميع المحافظات مشيا على الأقدام لأيام وليال طوال والأمل لم يتبدد من امام اعينهم , فكيف إذن سينام الشهداء  في قبورهم وتقر اعينهم و ترتاح ولم تتحقق تلك الآمال ووعودالتغيير التي بذلوا انفسهم لأجلها ؟!


هناك وفي نقطة فارقة من تأريخ الثورة وفي عامها الأول وبانضمام شخصيات فاسدة محسوبة على النظام السابق خاصة بعد جمعة الكرامة وما تبعها من استقالات متتالية وانشقاقات سياسية عديدة اضافت الى الثورة الشبابية ثقلا اضافيا وكانت بمثابة عالة وقيد وحمل ثقيل اثقل كاهل الثورة واوقف تحركها واخرس نبضها  وعكّر صفائها ونقائها وشوّه أهدافها , ولم تكن الفرحة غامرة وان كانت حذرة بانضمام الفرقة اولى مدرع وبعض الشخصيات الحزبية وأحزاب اللقاء المشترك خاصة , فكان دور الحماية المنوط الى الفرقة اشبه ما يكون بحبس الأنفاس وحصر الثورة في خندق التآمر ووضع نقاط تفتيش وحماية مهمتها الأولى اسكات صوت الشباب وتعطيل مسيرة الثورة , والوقوف حجرا عثرة امام التقدم والإنتفاضة اليمنية الكبرى .


بل وكانت مواقف قوات الفرقة مشبوهة دائما ومتورطة في عدة اعمال عنف واعتداءات وقتل ضد الشباب وشخصيات ثورية وقيادية , كان لها الباع الطويل في تفجير بؤرة الثورة الشبابية , وكانت تمثل النواه الحقيقية الطامحة لنهضة الوطن , انضمام علي محسن الأحمر خلق اجواء من عدم الطمأنينة والأرتياح , فيما اتضح مؤخرا ان انضمامه كان مجرد غطاء و حماية لحزب الإصلاح وأحزاب اللقاء المشترك والدفع بها في الاتجاه السياسي وتحقيق الغايات المرجوة من تحويل الثورة الى ازمة سياسية طاحنة مفتعلة , وتدويل الملف اليمني للخارج امعانا في التدخل وسحب البساط من تحت اقدام الشاب الحر ضمن مشروع التآمر والإنكار.


إذن انضمام اللقاء المشترك والفرقة الأولى مدرع الى الثورة اعاق تقدمها نحو تحقيق النصر وقطف ثمار الثورة الشعبية , والأصح ان سرقة الثورة من قبل تلك الأحزاب مع تدخل قوى خارجية كان سببا رئيسيا في فشلها واطالة أمدها , فالثورة ليست حكرا على أحد وليست ملكية خاصة هي ساحة مقدسة بابها مفتوح للجميع بلا استثناء , ان اثبت الأمانه والتوبه الثورية الصادقة  ولكن التلاعب والتآمر هدم المعبد على رؤوس اصحابه ولوث الساحة واخرجها عن مسارها الصحيح, قد يكون الحال تغير تماما لو ان الإنضمام مع الركب أوفي نهاية الصفوف- ضمن النسيج الثوري- بدلا من المقدمة وخطف الثورة وتحويلها الى ازمة لكسب غايات ومكاسب سياسية ضيقة , طالما كانت تحلم بها الأحزاب المتسلقة على صهوة الثورة الوليدة.


هنا وبالتحديد بدأ النفور الشعبي والهروب من الثورة , وبدأ زخمها المتنامي في التراجع وبدأ نوع من الفتور والخمول  يجد طريقة الى الجسد الثوري المنهك المتهالك , وبدأت مشاعر من الإحباط  والتذمر العام وعدم الرضا تظهر في محيا الشباب الثائر, وبدأت دفة القيادة تخرج من ايديهم وتأخذها الأحزاب وأياديها في الساحات وتقودها في بحر متلاطم من الصراعات وتسخرها لتنفيذ اجندتها الخاصة , رغم الجدل الكبير عن دور الفرقة والجيش المنضم  للثورة في حماية الثورة , إلا ان الضرر كان اكثر من النفع , وكانت التحركات تنعكس دوما سلبا على مسيرة الإنتفاضة الشعبية , وكان الغطاء والحماية المزعوم يتحول الى اسر قاهر وسجن كبير يعيق الثورة الشبابية ويصيبها بالشلل التام .


 وبعدها بدأت فصول المسرحية الهزلية للخلافات الشخصية المسلحة بين الأقطاب الأحمرية الحاكمة , من المبادرة الخليجية وأحداث الحصبة وحادثة النهدين ابطالها الأطراف السياسية والقبلية المتصارعة ,قدم آلاف الشباب والثورة قربانا لخلافاتهم وتصالحهم , وكانت قوى الجيش و القبيلة الموالية للثورة تثور وتنتفض باستبسال وتحمس شديد دفاعا عن الشيخ والقصر بينما نراها مكتوفة الأيدي ذليلة خانعة امام قتل الشباب في الساحات والميادين , وتوالت وتتالت الرحلات المكوكية الى السعودية والخليج للتفاوض على توزيع الغنائم السياسية والحقائب الوزارية , وتوفير الخروج الآمن والحصانة المطلقة لنظام القتل والإجرام , وإعادة تشكيل وبلورة النظام الجديد بما يتماشى مع الرغبات الدولية , هنا نستطيع القول .. ان الثورة الشبابية احتضرت رسميا واعلنت شهادة الوفاه وتم اصدارها مع توقيع الرئيس السابق نفسه على قرار تنازله عن سدة الحكم , وبدأت الفترة الإنتقالية لتضيف المزيد من الغموض والإبهام على مسيرة الوطن , ولكن روح الثورة مازالت باقية في الأنفس وان انتهت , لأن  تاريخ الشعوب الحرة لا يموت وينتهي تحت اقدام السياسة , وان طال الأمد سيكتب لها حتما النصر الأكيد .. ويوما ما ستقطف ثمارها وتعلن ميلاد حلم شهدائها وأحرارها.

زر الذهاب إلى الأعلى