أدب وفن

حسناء القرية..حين يتحول فستان الزفاف إلى گفن

المستقلة خاص ليمنات

 صفوان القباطي – [email protected]

في زاوية الصمت المطبق تلقي فتاة القرية الحسناء بجسدها المثخن قهراً وألماً وجراحاً لتبكي بدم قلبها المشطور مآتم ضياع أحلامها الباسمة وزهرة شبابها الذابل.. بين زحمة شجون ومآسي سنيها تنتحب بصمت الهائم الولوع وبخجل الصبية تحاول جاهدة كتم ما تصاعد من تنهدات أساها خوفاً كي لا يسمعها أحد الجاحدين من الأهل الذين سبق وأن نذروا صباها لرعي أغنامهم وبعثروا (الهاجر) من عمرها هدراً بين آكام الروابي وصدور الضياح وعندما أعلنت السادسة عشرة انطلاق مهرجان ربيع نهديها زوجوها كرهاً وبالقوة على أول شائب جاء وحزامه مليان..

وفي الواقع كثيرة هي المآسي والحكايات الدامية من هذا النوع تتعدد السيناريوهات وتبقى الضحية واحدة فتاة إما باعها ولي أمرها بحفنة فلوس لشائب في آخر أيامه غصباً عنها أو أخرى حبسها بسجن أطماعه وأحلامه في الثراء من مهرها حتى أضحت عانسة تندب مرارة واقعها على مشارف الخريف..

الشعراء والفنانون لم يقفوا بمعزل عن أحزان ومآسي فتيات الريف فقد سطروا في وصف معاناتهن عشرات الروائع الخالدة نكتفي في هذه العجالة بالوقوف أمام ثلاثة نماذج نعتقد بأنها الأبلغ والأقرب في تشخيص المأساة..

أحزان بنات الريف بين هواجس المقطري والصبري والسعيدي

في مستهل الحديث ثمة سؤال يطرح نفسه.. على غرار قصص الإعجاب والغرام الطاهرة كم فتاة يمنية تزوجت من الشاب الذي أحبته وتمنت أن تفتديه بعمرها.. وكم فتاة تقترب حكايتها ولو بجانب منها بواحد من هذه النماذج الثلاثة؟

شكل البداية الحزينة تختاره صبية حسناء تحرق عمر الزهور مجبرة على جمر الحسرة والندم بعد أن باعها والدها بيع الماعز لشيبة في عمر جدها.. دعونا نصغي لها في هذا الاسترسال الموجع كما صوره لنا على لسانها الشاعر الراحل محمد المقطري في رائعته (أمر الكؤوس)..

وقالت البنت انا يا اماه ظلمني أبي..

واهدر  شبابي لشيبة بالذهب فازبي

واني بقلبي عصافير الهوى تختبي..

تشتاق لروضة صبا جنة صبية وصبي

نعم ها هي تودع دارها مغصوبة وعلى لسانها سؤال واحد لم تجد من تطرحه عليه سوى أقرب الناس إلى قلبها.. والدتها المسكينة فاقدة الحيلة..

لمو أبي باعني يا اماه لدنيا العذاب..

وسيب ازهار عمري تظما وتشرب سراب

واني صبية على درب المحبة شباب..

وازهار نيسان بس يا اماه تهدى لشاب

ولا سامح الله الفلوس التي كانت السبب.. هكذا تؤكد لنا الصبية المغلوبة على أمرها حقيقة ما جرى وصار وبالفعل هذا هو الواقع للأسف فالفلوس ولا شيء سواها هي من جعلت كم من صبية فريسة سهلة لمن يسيل لعابه رغبة للعبث بمفاتن العذارى وهو في آخر العمر..

إلى الجحيم البيس اللي تبيع النفوس..

تكفِّن الشايب الفاني بأحلى عروس

وفي وجوه الفوارس ترسم ظلال العبوس..

تسقي البنات النواعس يا اماه أمر الكؤوس

ألا سحقاً للفلوس.. وسحقاً (للطفر) الذي اغتال الحب وغدر بالأحلام وأحرم الصبية المحبة من شم رائحة حبيبها.. والمؤسف القاتل أن نرى الماديات قد طغت على كل شيء وطمست وجه الجمال لكل المعاني والقيم النبيلة فحتى الحب أصبح (صيني) كما يقولون، و(كفاية).. نعم كفاية هكذا نجدها في مفتتح وقفتنا الثانية أمام تجربة الشاعر عبدالحكيم الصبري.. (كفاية) بحرارة بركان أسى تنطلق حممه متدافعة من صدر فتاة سرق منها تقادم السنوات زهرة ربيع العمر.. إنه بركان مكبوت أججته سنوات طويلة من الصبر والحرمان والتمادي في رحلة الشقاء والعذاب فصرخت بعد أن ضاقت ذرعاً بالانتظار وأعياها الصبر على جشع والدها ومغالاته في مهرها والخطاب هنا موجه لوالدتها الساكتة على كل ما يجري لها وعلى طريقة (واماه قولي لابي ما اني ولا راعية.. تزوجين البنات واني عزب باقية) تنطلق مرددة:

واماه وقولي لابي.. العمر يمضي سراب..

والحسن زهرة ربيع.. تمضي ويبقى التراب

تشكي الظما بالشموس.. والبرد بعد الغياب

واماه واني بالطمع.. أبي ملاني عذاب..

واهدر مليحة لها.. بالحسن مليون باب

لا عاد تقولي انني.. مازلت وا اماه شباب

وتعود (العانسة) بذاكرتها إلى أجمل أيام العمر.. إلى ذروة عنفوان الشباب عندما كانت تنافس بجمالها المشاقر والزهور..

قد كان يا اماه زمان.. كالنجم خذي يلوح..

والورد فاتش طري.. عرفه بسري يبوح

أغرس ضفافي هوى.. واقطر ندى بالسفوح

ومن قلب الذكريات تعتصرها الحسرة على ما فات عندما ترى زهور أوجانها اليانعة وقد ذوت وتبدل مكانها بقع الكلف السوداء التي أمست تخط على صفحة الخدين سطور مأساة لم ينقش حروفها يراع ولم يحط بتفاصيلها كاتب..

زمان يوم الجنا.. مني أسر كل روح..

واليوم زهري ذبل.. والقلب ملؤه جروح

يا اماه ارحميني لمو.. ساكت وعمري يروح

وبرفقة الشاعر الراحل صالح السعيدي نرهف السمع لحكاية راعية الأغنام الصغيرة هذه والتي قطعت أوصاله بترديد موال الشجن المترع بالتناهيد وأمطرته بالدموع وهي تسرد تفاصيل مأساتها الدامية وما تكبدته من وجع الأهل وحقارة الشريك قائلة (أضاع الله من ضيعوني) فوقف ليخاطبها مستفسراً عن حالها وعن سر نبرة الشجن الجارف في صوتها:

يا راعية في الجبل صوتيك الهب شجوني..

 أثار كل الشجن

من حين قلتي أضاع الله من ضيَّعوني..

 في مرحبا والركن

أمانة الله قولي لي ودونك ودوني..

عن ضيق حالك وعن

وبصوت متقطع فيه من الحنين ما يذيب الجماد تجيبه الراعية ودموعها تسابق كلماتها:

فقالت اهلي على حب المطامع نسوني..

 أشكي غبوني لمن

أختاروا الشؤم والخيبة وبه زوجوني..

قبضوا بي ابخس ثمن

رفضت لكن على حب الكريه ارغموني..

 كم ضاق صدري وأن

وبالحالي والثياب الفاخرة لبّسوني..

 يا ليت كانت كفن

وكلّما قلت يا اهلي والرفاق افهموني..

كلين عليَّ رطن

حتى اخوتي ذي لثدي الوالدة شاركوني..

حنانها واللبن

نسيوا حقوقي ومن كل الحقوق احرموني..

فرض الإخاء والسنن

وبآلام العاشقين على امتداد أسى الدهر كله تواصل الراعية سرد مأساتها المبكية بنبرة متهدجة تدمي لها صخور الجبل وتتنهد من فرط ألمها صدور الضياح والأنكاب من حولها مرددة صدى شكاها الجريح وهي تستطرد بالقول:

من دارهم لا ديار المبغضين ابعدوني..

 أقول هذا علن

أهلي جفوني ومن كأس الغصص جرعوني..

متاعبي والحزن

يا ليتهم من علو الحيد هذا رموني..

 ومن يموت افتهن

حبُّوا هواهم ومن لذة هواي احرموني..

 فعلوا فعال الخون

ولكن الصبر حتى الله يرحم غبوني..

 هو منتهى كل ظن

وكما تلاحظون القصيدة لا تحتاج إلى شرح أو توضيح ولن نحملها من الأسى فوق ما حوت ولنستمع في الختام إلى رد شاعرنا السعيدي على الراعية بعد سماعه تفاصيل وقائع ما جرى لها:

فقلت يا راعية والله خابت ظنوني..

من حادثات الزمن

كُفِّي فكر ناس مثلك بالدموع احرقوني..

ما احد سليم المحن

هيا معي تعرفي كل الشواهق حصوني..

مرابعي والسكن

عند الذي يعرفوا قدري ولا يجهلوني..

من جدهم ذو يزن

قومي إذا كان يوم النائبات اكرموني..

وعزمهم ما وهن

شاحميك واقتل جميع الناس لو عارضوني..

 لو هم بكل اليمن

يا درة الحسن يا اغلى من نياني عيوني..

ديارنا لك وطن

شفرش لك القلب واخبِّيك داخل جفوني..

 يا مهجتي والبدن

زر الذهاب إلى الأعلى