فضاء حر

الجامعة والراهدة.. تراجع القيم !

يمنات
حدثان وقعا خلال الأسبوع الماضي، يحملان مؤشرات سلبية على مستقبل البلاد، ومستوى الفوضى التي يعيشها الكثير من أبنائها بداعي الاحتجاج السلمي والنضال الحضاري.
كانت جامعة صنعاء مسرحاً للأول.. وأن تصل احتجاجات طلابها، مستوىً يشعر فيها المحتج ضد سياساتهم، بقدر من الخوف أو التضييق على حرياتهم، فذلك يعني أن الاحتجاجات، تجاوزت مداها ومغزاها وهدفها..
قيمة التظاهر والاحتجاج السلمي هو إيصال رسالة حضارية تسلط الضوء على اعتراض مجموعة من الناس، على سياسات واجراءات ما، وتضغط على المسؤول المعني أن يدرك أن هناك اعتراضاً على أدائه وممارساته، ويعمل على تصحيح سياساته، وقد لا يكون رأي المعترضين هو السديد بالضرورة.
لكن أن يصل الاحتجاج حد محاصرة وترويع المحتج ضد سياساتهم، فذلك ضربٌ من الفوضى والعنف المعنوي على الأقل، ينبغي أن يكون محل رفض واستنكار.
والحدث الآخر في مدينة الراهدة بتعز.. شباب قاموا بقطع طريق تعز-عدن، احتجاجاً على قيام مسلحين يتبعون وكيل محافظة تعز الشيخ محمد منصور الشوافي بالاعتداء على زملائهم، وإصابة اثنين منهم، تبعاً لخلافات سابقة.
أدرك حساسية القضية موضوع الخلاف، وشعور الناس بالضعف، لكن قطع الطريق ليس ردة الفعل السوية على أي انتهاك.. أفعال كتلك لا ترسخ سوى مزيد من الفوضى والانفلات وحكم الغاب.. يقول البعض هذا هو القائم حالياً.. قد يكون ذلك صحيحاً، لكن الحل ليس بتكريس هذا القائم لنثبت نظرية الحكم للأقوى وشريعة الغاب..
أناقش هنا مستوى التراجع في القيم التي اتسمت بها المدينة.. نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، كانت الراهدة منطلقاً لانتفاضة شعبية سلمية نادرة في تاريخ البلاد، خرج فيها المئات من أبناء المدينة ومعظمهم من الشباب وطلاب المدارس، وانخرطوا في مسيرة راجلة إلى تعز منتصف يناير 1989، بعد استشهاد عبدالباسط سعيد ثابت، على يد جنود اختلف معهم، بعد قيامهم بمضايقة واردات بئر في قرية مجاورة للراهدة..
لم يختلف المزاج كثيراً، منذ ذلك الزمن، فالحاكم، ظل هو ذات السائس الذي يحكم البلاد.. قمعت التظاهرة البكر في الحوبان من قبل جنود الأمن، وسقط عدد من الجرحى، واعتقل آخرون، قبل أن يكلفوا أنفسهم عناء سماع أصوات المعترضين.
من يعرفون الراهدة، يدركون أن هذه المدينة، كانت متقدمة عن غيرها من مدن اليمن، بقيمها المدنية، ومستوى الاندماج الاجتماعي اللافت فيها، ساعدها في ذلك توسطها الشمال والجنوب، وكونها ممراً للتجارة المتدفقة بينهما.. وسلوكيات كتلك دخيلة على الراهدة، تماماً كما سطوة وعنجهية المشايخ..
الاحتجاج والتظاهر، رسالة سلمية حضارية، لكن الحصار وقطع الطرق، وإغلاق الشوارع، وغيرها من صنوف الاحتجاج التي يترتب عليها حجز حرية الأشخاص والتأثير على قناعاتهم بغير الحوار، فذلك يدل على انحراف في مسار الاحتجاج وفقدانه قيمته ومغزاه الحضاري.
للأسف، هذا الانحراف، هو من أسوأ التقاليد والأفعال التي اعتاد الناس ممارستها منذ ما بعد انتفاضة فبراير 2011، خصوصاً أنهم لم يألفوا ثقافتها قبل ذلك، وفي ظل غياب وعي مجتمعي بمغزى وأخلاقيات الاحتجاج، الذي إن تجاوز سقفه السلمي المسؤول، أصبح ضرباً من الفوضى والعبث بالقيم المدنية.
وحين يغدو سلوكٌ كذلك ملهماً لأفراد وضباط الجيش والأمن، ليصبح مزاجاً سائداً ومتاحاً لمن أراد منهم الاعتراض بحق أو بمزاج، تكون الهمجية والفوضى قد وصلت ذروتها، إذ تصبح البلاد معها على كف عفريت بوجود محتجين متمكنين من السلاح، وقادرين على فرض رأيهم بقوته.
أضحى استعراض البطولات والعنتريات، والقدرة على الحشد والتهييج وممارسة الفوضى متاحاً للجميع، وممكناً لمن امتلك نزعة متهورة نحو ممارستها، إذ لم تعد حكراً على النافذين كعهدها سابقاً.. صار بإمكان أي غاوٍ للزعامة -ببعض الامكانيات ومجموعة من المراهقين، وقطع السلاح- أن ينافس بجدارة على الفوضى والهمجية من بوابة الممارسات الشائنة..
التحدي الحقيقي والمسؤولية تتمثل بمحاولة ترسيخ قيم الالتزام والمسؤولية، وإشاعة ثقافة الدولة في المجتمع بكافة فئاته ومكوناته، والضغط لإحضار الدولة الغائبة، مهما بلغ مستوى القنوط من حضورها، إذ لا بديل غيره يضمن حياتنا ومستقبلنا، مهما بدت حلول الأمر الواقع متاحة وأقرب للتحقيق أمام الجميع..
وحين تغدو مثل تلك الممارسات سمة ملازمة لطلاب الجامعة، وشباب الراهدة، باعتبارهم من النماذج الأكثر التزاماً، فهذا مؤشر خطير يدل على أن البلاد لم تعد بخير.. والمسؤولية ليست ملقاة على عاتق هؤلاء وحدهم، بل هي مسؤولية الدولة لتعزيز كفاءتها وسرعة استعادة هيبتها قبل أن يتسع الخرق على الراقع..
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى