أخبار وتقارير

سبيت.. اللحجي الذي نثر فل الحسيني على نهود صنعاء القديمة

المستقلة خاص لينمات
كعادة الشعراء على مدار العصور يستوقفهم بهرج الجمال ويستدعي انتباههم لمحاكاة سحره البراق كيف وأينما كان ولأننا نعلم هذا جيداً لا نستغرب أن نجد أستاذ فذ له في هندسة المعاني اليد الطولى ينساق مشدوها ليتتبع صدى ترجيعات الألحان كحال الشاعر الكبير عبدالله هادي سبيت الذي انطلقت به فراشات روحه حائمة حول منبت أزهار روض أغاني التراث الصنعاني القادمة من أقاصي الشمال إلى عدن بجعبة روادها الأوائل أمثال القعطبي والماس والجراش والمسلمي وباشراحيل وغيرهم حين كان الغناء محرماً أيامها في الشمال بموجب أوامر أئمة المملكة المتوكلية..
بهذا الشكل ولأن سبيت العملاق فنان حساس ومبدع بقدر ما هو شاعر رقيق وشفاف كان من الطبيعي أن تأخذه نشوة روحه المحلقة في سماوات الكلمة والنغم إلى حيث تلبس بديعات القوافي ثوب اللحن الفريد في محاولة بارعة منه لمحاكاة ما تناهى إلى مسمعه من تلك الروائع الحمينية البديعة..
وفيما يلي نتعلم حقيقة ما معنى أن تعشق شيء من أعماق قلبك وتذوب في غرامه بكل حواسك وجوارحك وتوصل من صدق الشعور مرحلة التجلي والتوحد وتلبس الشخصية تماماً كما لمسناه في تجربة وريث قمندان لحج وشاعر الحوطة عبدالله هادي سبيت الذي فتح بروائع يراعه قلوب عشاق ومتذوقي شعر الغناء الصنعاني.. وكما سبق أن تعرفنا على سبيت اللحجي سنتعرف هذه المرة على سبيت ولكن الصنعاني الرافل ببرود الحميني وسط بساتين صنعاء الفن والطرب والوسامة..
يحررها/ صفوان القباطي – [email protected]
على وزن قصيدة (قال ابن الاشراف) الحمينية الشهيرة يضع عبدالله هادي سبيت فاتحة الشكوى الأليمة مما يعانيه مخاطباً “ساجع الأيك” بعد أن كوى قلبه بنار اللوعة وهيج كامن أضلعه بأشجان الغرام.. مستعطفاً في مستهل الحديث:
يا ساجع الأيك بالسجعة كويت..
قلبي وهيَّجت كامن أضلعي
ما إن تعالى نياحك إذ بكيت..
حتى شكى الجفن يا أرض ابلعي
كأنما أنت يا شاكي نويت..
قتلي وأدنيتني من مصرعي
يا طير رحماك إني قد وَهَيْت..
بل هان عظمي وجفَّت أدمعي
قد كنت بالدمع أسخو إن بكيت..
واليوم من ذَوْب قلبٍ موجعِ
بعت المحبين عمري واشتريت..
حُبْي فهل أنت في البيعة معي
والا فدعني فإني قد وعيت..
عهدي ولو حان حين المصرعِ
أنا الذي للأحبة قد وفيت..
إليك عنِّي ودَعْ ما تدَّعِي
وبنبرة الحزن الدفين الذي لطالما أشجانا به يعود شاعرنا مستجمعاً كنه حيرته ليسأل طائر الأيك الساجع بأسرار ما يضطرب في خلجاته مستغرباً..
يا طير هل أنت بالَّلوعة اصطليت..
هل أنت تشعر شعوري أو تَعِي
هل لك حشاشة وهل مثلي ابتلَيت..
نفسك ببركان بين الأضلعِ
اليأس يا طير يثبت ما ادَّعيت..
والبينة من لزوم المُدَّعي
هويت لكن بحظي قد هويت..
بل ذقت ذلِّي بكأس مترعِ
ومن جديد يقيم العاشق المتيم قيامة الشكوى ويفجر بآحاته المكتومة براكين الشجو والحنين ومن مثل سبيت إذا اعتصرته التناهيد وبث خطابه الممهور بدم القلب..
وفي الواقع قليل من الشعراء يجعلونك تصل من التأثر وأنت تقرأ قصائدهم حد البكاء وبحكم إطلاعي أجد سبيت في صدارة هؤلاء لما حوته إبداعاته من صدق التجربة وغزارة العاطفة وفيما يلي أنصع دليل.. فهاك يا طير:
أخلصت يا طير في حبي وليت..
كل المحبين تسلك مشرعي
غرست وردي ومن شوكه جنيت..
وقلت يا عين بالغيث اسرعي
حتى تساوى ودادي واستويت..
على مقام الوداد الأرفعِ
الحب يا طير جنة لو دريت..
الغيث فيها خصيب المرتعِ
ما إن تنائيت إلا وارتميت..
وقلت يا نفس للحب افزعي
ويواصل أسير الأحزان سرد شكواه بذات النفس الطويل مستعذباً الهيام..
بخمرة الحب يا طير انتشيت..
كأسي فؤادي وراحي أدمعي
عذبي عذابي وحرماني اصطفيت..
دمعي فراشي وسهدي مضجعي
من ذل نفسي وتحطيمي بنيت..
لمن أحبه منيع المفزعِ
ومن دمائي ودمعي قد سقيت..
ورد المحبة فيا واشي اقنعِ
يا طير كم أنت من دمعي ارتويت..
وها ثماري فنقِّر وارتعي
وكما تأوه قبله أسير الجوى صاحب قصيدة (بعز الليل انا أمسيت سهران) يكرر ابن هادي الشاعر والعازف والملحن تجربة الشوق والحنين ويسرح بخياله الخصب في مسرح مفاتن الأوصاف..
نظرت الورد ذاك ذي هوه بالاوجان..
وذاك الزهر ذي بينه فتنِّي
وسبَّحت الذي لا زال رحمان..
عظيم اللطف ذي من ذا حفظني
نعم نظره إلى من كان فتَّان..
تضيِّع عقل من قد عاش فنِّي
أنا حِبْ الجمال من حيث ما كان..
وفي أهل الجمال احسنت ظني
وانا مثلك بشر يا خل إنسان..
ولي مثلك فؤاد للحب يغنِّي
أشوفك في الورود ذي فوق الاغصان..
وأسمع نغمتك تدوي بأذني
وعلى نسق قصيدة الشاعر أحمد بن حسين المفتي (يقرب الله لي بالعافية والسلامة) يشك سبيت درر الكلمات عقداً على عاتق من أبلى جفنيه بسهد الليالي متوجهاً إليه بمضمون الخطاب..
يا من رماني بأشجاني وسهد الليالي..
واصبح بعيد المنال
يا من دعاني بأجفانه فآمن خيالي..
لما دعاه الجمال
إلى مقامك سَمَا حبي وزاد ابتهالي..
إرحم شهيد الوصال
وفي فيافي الهوى العذري شدَّت رحالي..
وفيك طاب الحِلال
أهواك حتى الممات.. يأسي بحبك أمل
يا حلو عالي الصفات.. حبي عديم المثل
هاك الأمل في الشفاة.. يملأ كؤوس القُبَل
هات اسقني يا حبيبي إن لي ذوق عالي..
كم صال قلبي وجال
حبيب إمَّا مضت لحظة ولي قلب سالي..
باتت حياتي زوال
ويتجلى سمو موهبة شاعرنا الرائع في منطلق المقطع الثاني من القصيدة حيث يقول بصوت عال:
أنا الذي حبي الغالي لقلبي علامة..
تنذر بقرب القيام
يا ما الهوى يا حبيب الروح مَكَّن سهامه..
بقلبي المستهام
يا ما رمى القلب باللوعة وأحيا حطامه..
يا ما أنار الظلام
النجم قد بات بالإشعاع يرثى لحالي..
دَمْعُه على الليل سال
وكما لاحظنا.. يتقن سبيت كثيراً توظيف (يا ما) في سياق قصائده التي يا ما لامست شغاف المهج وتوغلت في أعماق الأعماق وليس ببعيد عن مرمى رائعة القاضي عبدالرحمن الآنسي (لله ما يحويه هذا المقام) هذه الحمينية السبيتية التي يستهلها بإرسال الخطاب المباشر لمقام من رماه بالتجافي ومال..
يا من رماني بالتجافي ومال..
إلى الحواسد والعواذل
ضربت لك في الحب أعلى مثال..
هيهات مالي من مماثل
وكم تحملت الرزايا الثقال..
ما ناء لي بالحمل كاهل
أما كفى يا منيتي والسؤال..
أن الجوى في الجوف شاعل
وأن شمسي آذنت بالزوال..
وأن حبي في أوائل
وأنني أرضى ولو بالخيال..
فاسعف ولو بالطيف بادر
وبأسلوبه الرصين يعود سبيت لتذكير الخل ببعض النصائح على سبيل استدرار العطف والحنان منطلقاً في تذكيره من قاعدة أن المرء في الدنيا لا يخلد ذكره إلا بما صنعه من الجميل والمعروف..
المرء في الدنيا بصنع الجميل..
فاختر خصيبات المزارع
بادر بسيلك أو ببعض الوشيل..
قلبي الربا وانت المُزارع
قلب المتيم يكتفي بالقليل..
في الحب صوفي المطامع
فاليأس منك رابع المستحيل..
فاصنع بقلبي ما انت صانع
أُأْمر ونفِّذ عسكري أو فصيل..
إني مطيع للأمر سامع
جورك ولا عدل البغيض الدخيل..
فاسلم ودُمْ ناهي وآمر
وإلى مقام الحبيب يسمو بشاعرنا الرقيق عتابه المطرز بالرجاء الخالص والاستعاذات المقرونة بعلامات الاستفهام وهو أمر وارد بالنسبة لمن هو في موقع الضحية شارد تمزق أحلامه مرهفات الحيرة..
إلى مقامك قد سَمَا بي عتاب..
بل صغت نفسي في عتابي
يا صادق الإخلاص عالي الجَناب..
حاشاك أن ترضى بما بي
حاشاك أن يُطْوَى بمثلي الكتاب..
وأنت لي شهدي وصابي
أنا الذي جاوز هواي النصاب..
فهل لجورك من نصابِ
بُعْدك يداهمني بشرَّ المصاب..
والقرب ينسيني مصابي
الحب لا يحسب للائم حساب..
مثل العَلَم شاهر وظاهر
ومختصر القول يورده هنا في خاتمة هذه المبيتة الضليعة في محاكاة روائع الشعر الحميني مستدركاً..
يا من ملكت القلب إن الطريق..
شائك وفيه الموت كامن
فسيحها في قبضتك والمضيق..
والكل خايف وانت آمن
الحُر عندك يستوي والرقيق..
جبَّار كالقيصر ولكن
إيَّاك تخلق من رماده حريق..
بل فاملكه ظاهر وباطن
من لان لك جنبه فكن به رفيق..
لا توقفه موقف مُدَاهن
أقسمت إنك بالمحبة خليق..
وأن ساعي البين خاسر
ومرة أخرى يستعذب ابن هادي معارضة قصائد القاضي الآنسي ويختار في محطته الثانية قصيدة (طرَّب سجوعه) متلمساً مكامن الشجن في لحن الأغنية البديع الذي ربما أغرقه في بحر الخيال الجريح وصادف سماعه للحن وقوفه في مفترق أفكار بعد أن صلبه هجر المحبوب على أعتاب الأمل البائس وبين اليأس والرجاء يقتنع سبيت حتى بالطيف في أحلام اليقظة..
هاجر وخلَّف أسيره..
أعمى البصر والبصيرة..
يا ليت يجبر كسيره.. زورة ولو حلم يقظان
الطيف يرضي فؤاده.. خيال حتى مراده..
مسكين خانه وداده.. حظه من الحب حرمان
حبيب رحماك أني.. حطَّمت كأسي ودَنِّي..
قطَّرت من روح فني.. راحي ولا زلت ثملان
وبعطش العاشقين ينادي سبيت معشوقه الباسم من حلاوة الروح طالباً منه أن يغيثه بشربة هنية من خمرة مبسمه العذب السلسل متعنياً باقتطاف زهور النشوة من أوجان الحبيب..
هات اسقني يا حبيبي خمرة المبسم..
واطفي بعذب اللَما يا خل أشجاني
قلبي الذي في الهوى قد جاوز المَعْلَم..
ميِّت وساعة وصالك عمر له ثاني
هذي جفونك بها هاروت يتحطَّم..
السحر فيها سرى في روح جثماني
بالجفن يا ذا خرج من جنَّته آدم..
وآثر الخلد بين النهد والثاني
عادت وعاد الصفا والأنس والمغنم..
ساعة بها تنطوي رايات أزماني
بالله اسقني يا حبيبي هاتها واسلم..
يا سامري الهوى دعني ودع شاني
وفي الختام كعادته يعيد فيلسوف الدموع الضاحكة النظر في مداولات الشكوى التي تقطر ألماً ودماً ليخلص إلى حقيقة مرة مفادها أنه وحده من يتألم ويشتكي ويستمع شكواه لذا يتوجه بلب الكلام قاصداً قلبه المولع..
أضرَّ بك يا قلب كُثْر النحيب..
مسكين يا قلبي المولَّع
تبكي ولا لك مستمع أو مجيب..
هيهات من يقرأ ويسمع
مَنيَّتك في مُنيتك يا لبيب..
والجهل في واديه يرتع
إن الضمير الحي فوق الحبيب..
وفي جبين الموت يسطع
فاكسب ضميرك وانفِ ما تستطيب..
وقفة تساوي العمر أجمع
حبيب ليس الحب كاليانصيب..
خالف هوى نفسك وشاوِر

زر الذهاب إلى الأعلى