فضاء حر

شهداء انتفاضة 2005م

يمنات
لعل أهم الانتفاضات التي شكّلت مقدمة لثورة 2011م بعد الحركة النضالية للحراك الجنوبي منذ 1994م وتبلورها في 2007م تمثّلت في انتفاضة ديسمبر 1992م إثر قرار رفع الدعم الحكومي عن القمح التي انطلقت من تعز وامتدت لتشمل صنعاء والحديدة وذمار ومدناً أخرى، وفي رأيي أن تحالف القوى السياسية الكبيرة في الحكم آنذاك أحبطها خلال الفترة الانتقالية ما بعد الوحدة؛ إذ كانت القوى السياسية الرئيسة ممثّلة في مجلس الرئاسة الخماسي آنذاك «المؤتمر الشعبي العام، الحزب الاشتراكي اليمني، والإخوان المسلمين».
الانتفاضة الثانية انطلقت في يوليو 2005م بعد رفع أسعار المشتقات النفطية، واستمرت لعدة أيام في كل اليمن، وعاشت البلد حالة طوارئ لم تشهدها من قبل لأزيد من شهر، وحالات قمع مروِّعة، وكان واضحاً حينها أن نظام علي عبدالله صالح يترنَّح وقابل للسقوط لولا خذلان الأحزاب السياسية في المعارضة للشارع الشعبي المنتفض؛ إذ أن مواقفها المعلنة كانت مرتبكة وغير واضحة، فهي وإن أدانت حالة القمع التي مارستها السلطة حينذاك ضد المتظاهرين، إلا أنها في نفس الوقت أعلنت براءتها من حركته النضالية، وأدانت خروجه عن القانون الذي يمنع التظاهر.
وأظن الموقف المائع لأحزاب المعارضة كان نتيجة تحالف أحزاب المعارضة جميعاً تحت سقف “اللقاء المشترك” الذي كانت أحزابه تتبنّى نسباً مغايرة من موقفها من نظام حكم علي عبدالله صالح، فالحزب الاشتراكي اليمني مثلاً كان الأقرب للانضمام إلى حركة الشارع حينها بسبب ما عاناه من مضاعفات حرب 1994م، فيما التجمع اليمني للإصلاح كان في موقف أقل تشدّداً ضد النظام بسبب وجود القوى التقليدية والشخصيات الاجتماعية المسيطرة على قراره التي تحوّلت إلى معارضة النظام في الإطار الحزبي وأبقت على علاقتها القديمة الوطيدة به.
في انتفاضة 2005م أبانت بعض الصحف اليمنية أن رئيس النظام الحاكم حقّق مع عدد من المتظاهرين بشخصه؛ إذ أتوا إليه بعيّنات من كل المحافظات إلى صنعاء ليتأكد بنفسه حول دوافع خروج الناس إلى الشارع بكل ذلك الغضب، لقد بدا أن النظام أكمل حلقة تطويقه للسلطة من كافة النواحي ما عدا واحدة تمثّلت في الخشية من خروج الشارع لإسقاطه، ففي منتصف العقد الماضي كان النظام الفردي قد استطاع السيطرة تماماً على القوات المسلّحة والأمن، وأكمل عملية تعيين الأقرباء والموالين الشخصيين في كافة مفاصل المؤسسة العسكرية، كما استطاع تمييع مواقف الأحزاب المعارضة من خلال الإبقاء على المصالح الشخصية مع كثير من قياداتها، فيما نخر الأخرى من الداخل من خلال تفريخها ودعم عدد من الشخصيات داخلها التي عملت له بالسر لإضعاف أحزابها، لذا فإن علي عبدالله صالح كان يدرك أنه في مأمن وباستطاعته الحكم دون خوف إلا من خروج الشارع الشعبي ضده، فكان أن أصدر القانون سيئ الصيت «قانون رقم 29 لسنة 2003م بشأن تنظيم المظاهرات والمسيرات» الذي وقفت أحزاب المعارضة منه موقفاً سلبياً تماماً كما فعلت بعدها مع انتفاضة 2005م.
ولعل الشخصية السياسية الوحيدة التي وقفت حجر عثرة أمام صدور القانون كان الشهيد جارالله عمر الذي ضغط على أحزاب “اللقاء المشترك” في بدء نشوء التحالف للوقوف ضد القانون وعرقلة صدوره في مجلس النواب، خاصة أن الحليف الرئيسي لجارالله في اللقاء المشترك «التجمع اليمني للإصلاح» بإمكانه عرقلة إقرار القانون في البرلمان عبر كتلته النيابية الكبيرة. لقد مرّ قانون قمع المظاهرات والمسيرات وتجريمها بعد اغتيال جارالله عمر بشهرين ونصف فقط، ولم تبدِ الأحزاب المعارضة حينها أي رد فعل حول القانون، بل إنه مرّ في البرلمان بتصويت بعض أعضاء هذه الأحزاب في مجلس النواب، واستخدم هذا القانون كهراوة في قمع انتفاضة 2005م.
إن الفضل في كسر هذا القانون على الأرض يعود في الأساس إلى الحراك الجنوبي الذي حرّك الشارع ضارباً بالقانون القمعي عرض الحائط، ومن ثم أتت ثورة 2011م السلمية التي وحّدت النضال المعاصر في الشمال والجنوب تحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» قبل أن يتراجع الشارع الجنوبي ويعود إلى رفع مطالبه السابقة بفك الارتباط إثر بدء خفوت وهج الثورة في الشمال؛ كما وحَّدت 2011م الأحزاب المتردّدة التي انضمت لاحقاً إلى الشباب الثائر بعد تيقنها أن الشارع الذي خرج لإسقاط النظام لا يمكنه العودة قبل أن يحقّق أهدافه، ولو أن انضمام هذه الأحزاب أحدث تراجعاً في سقف المطالب داخل الثورة بسبب هيمنتها وسط الساحات؛ هذه الهيمنة التي بنيت على عدد من التقديرات المصلحية الداخلية والخارجية للأحزاب.
إن انتفاضة 2005م كانت يمكن أن تكون ثورة سريعة، حاسمة، وكاملة لو أن النُخب المثقفة ساندتها وشكّلت لها غطاءً قيادياً تنظيمياً وطنياً، ولو أنها لم تدك من الداخل بسبب تلقائيتها المفرطة التي مكّنت الأمن من اختراقها مبكّراً عبر الزج بعناصره للقيام بتخريب الممتلكات الخاصة والعامة وتصوير الانتفاضة على أنها تحرُّك تخريبي، ولو أن الأحزاب أدانت بقوة القمع الممارس ضد المتظاهرين دون أن تجرّم فعلهم في الرفض والخروج إلى الشارع.
لقد حصد القمع العديد من الشهداء في الانتفاضة الشعبية يوليو 2005م، الانتفاضة التي كانت ستحقّق ثورة شعبية على مستوى الوطن العربي سابقة للثورتين التونسية والمصرية، في وقت لم يكن نظام صنعاء الحاكم آنذاك لديه تصوّر لكيفية إجهاض التحرُّك الشعبي قبل أن يتعلّمه بعد ما شهدته تونس ومصر. آن الأوان اليوم أن نكرّم هذه الانتفاضة وشهداءها، ولا يجب أن تسقط الانتفاضة من تاريخ الحركة الوطنية المعاصرة هكذا ببساطة، فقط لأن أسماءً بارزة لم تكن مشاركة فيها.
عن: الجمهورية

زر الذهاب إلى الأعلى