فضاء حر

عبور المضيق .. في نقد أولي للتجربة (3)

يمنات

المجتمع الدولي ليس شرا
إن المجتمع الدولي ليس شراً، كما قلت سابقاً؛ ولكنه ليس خيراً كله في كثير من الأحيان. ويتوقف الأمر في الأساس على وضع الدولة، سواء التي تطلب هي نفسها دعم المجتمع الدولي، أو تلك التي يرى المجتمع الدولي أنها بحاجة إلى مساعدته. فهناك الدولة التي يحكمها نظام فاشل ويتجه بها نحو الفشل، ويرى الجميع أنها أصبحت تعرض شعبها والأمن والسلم الدوليين للخطر، وهناك الدولة التي تعصف بها أحداث ضخمة ويستعصي على نخبها وقادتها التفاهم لإخراجها إلى بر الأمان وتحتاج إلى مساعدة المجتمع الدولي، وهناك ما يسمى الدول التي تعد ملاذاً للإرهاب وموطناً للتطرف والعنف وهناك… وهناك… إلخ.
وفي تقديري أن بلاد اليمن جمعت شيئاً من هذا، وشيئا من ذاك، وهي تحتاج إلى مساعدة المجتمع الدولي لمواجهة المتربصين بمستقبلها، ممن يوفرون البيئة لتكريس مثل هذه العوامل؛ ولكن ليس إلى الدرجة التي يمكن أن تفقد فيها قرارها السياسي. صحيح أن الخبراء الأربعة لن يأتوا لممارسة مهام عادية وقد كلفتهم لجنة العقوبات بمساعدتها في تحقيق ما أسمته “Its mandate”، والتي تحمل مدلولا أكبر يتجاوز ما يعرف بالمهام [tasks]، حيث ترجمها البعض إلى [ولايتها]، بل هي الترجمة الرسمية التي صدرت مترافقة مع النص الإنجليزي، وربما كان علينا أن نستشف من هذا شيئاً أكبر من المهمة في الظروف العادية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالقرار السياسي اليمني الذي يشتبك، بهذا القدر أو ذاك، مع القرار الأممي في فضاءات لن تتسع للاثنين بكل تأكيد.
وبطبيعة الحال، تتوقف المساحة التي يمكن الإبقاء عليها بين القرارين على قدرة الفعاليات السياسية اليمنية، وحيوية قوى ونخب المجتمع بشكل عام، وفي المقدمة الرئيس هادي وحكومة الوفاق، على التعاطي مع هذا القرار بالروح التي تضفي عليه وظيفة الداعم والمساند لجهدها الذي يجب أن يتكثف نحو تنفيذ مخرجات الحوار على الأرض، وإصلاح ما خرب منها، وخاصة المتعلق بحل القضية الجنوبية حلا عادلا وبما يحقق الانسجام الكامل بين وثيقة الحل وتقسيم الأقاليم؛ والحفاظ على الشراكة الوطنية بمعايير لا تسمح لأي طرف باحتكار السلطة، أو السعي إلى ذلك، من خلال تحقيق أي تراكمات كمية من أي نوع تؤدي بدورها إلى الانقضاض على السلطة، وبالتالي على أي أمل في التغيير.
تعود مسألة الانقضاض على السلطة إلى مفاهيم سريالية، بلا أشكال محددة، للشراكة الوطنية التي طالما شيد اليمنيون قصوراً للتعايش في ظلها؛ غير أنها لم تكن غير قصور من رمل يجري تدميرها وتسويتها بالأرض برفسة قدم حينما يحين موعد التنافس على السلطة. قال المجتمع الدولي أكثر من مرة إن بلداً مثل اليمن يحتاج إلى جهد أبنائه جميعاً للخروج من مأزق التخلف؛ لكنه يصفق كثيراً لمن يحصد مقاعد البرلمان بالانتخابات، ولا يركز كثيراً على سلامة ونزاهة هذه الانتخابات. فالتزوير في هذه البلدان عملية مقبولة، ويمكن أن يغض الطرف عنها، لأن الجميع لا يزال يتعلم!! لا بأس أن يكون ثمن التعلم هنا، من وجهة نظرهم، إقصاء الجزء الأكبر من فعاليات وقوى المجتمع التي بإمكانها أن تكون جزءاً فاعلاً من القوة المطلوب تعبئتها للنهوض بالبلد ليتجاوز التخلف، وأحياناً إقصاء المجتمع كله من خلال اغتصاب إرادته. وهنا تبدأ هذه المفارقة عملها في اتجاه يتعارض مع ما يقوله هذا المجتمع الدولي عن شراكة المجتمع بكل قواه وشرائحه وفئاته في النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
أدرك كثير من النخب السياسية، بحسها المرهف تجاه السلطة، أن المجتمع الدولي أضحى مغرماً بالوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، أياً كان شكلها وأياً كانت سمعتها، ولا يعنيه كثيراً، بعد ذلك، ما الذي تحققه هذه السلطة الحاكمة من تقدم على الصعيد السياسي والاقتصادي والعلمي. لا يعمل، عندما يتعين عليه أن يقول كلمته عند الفشل، سوى أنه يعزوه إلى أن هذه السلطة هي خيار الشعب، بينما هو يدرك أنه خيار مطعون في سلامته بالتزوير، ومشكوك في صحته، بسبب أن طبيعة وحجم المشكلات في هذه البلدان تحتاج إلى شراكة حقيقة. لم يسأل المجتمع الدولي، وهو يؤكد على هذه الشراكة، عن الصيغة التي يمكن أن تتحقق بها دون إخلال بالديمقراطية المعبرة عن احترام التعددية السياسية.
إن أحد أسباب التخلف الشامل، الذي غرقت فيه هذه البلدان، هو أن النفوذ القديم للقوى التقليدية ما قبل الدولة هو الذي شكل صيغة ومنهج الحكم بأدوات مجتزأة من “الديمقراطية”، بعد أن أخضعها لمعاييره، وأعاد بناءها داخل بنية أيديولوجية تتعارض معها جملة وتفصيلاً، وكانت، بذلك، وسيلته للسيطرة على السلطة، التي أبقت الدولة مجرد هياكل فارغة بدون مؤسسات فاعلة لتسهل على القوى المؤتلفة في نسيجه السيطرة على البلاد ومقدراتها وثرواتها.
كانت هذه المسألة (الشراكة الحقيقية للنهوض باليمن وتحويله إلى وطن ومغادرة التخلف الشامل) هي إحدى القواعد التي قامت عليها فكرة الحوار الوطني، منذ البداية، ومنذ أن قدمت إلى اللقاء المشترك ورقة بفكرة مشروع الحوار، الذي يشمل كافة الأطراف السياسية، بما فيها الحراك السلمي الجنوبي والحوثيون، وكل القوى الأخرى، إلى جانب اللقاء المشترك والمؤتمر الشعبي العام، وذلك في بداية عام 2008. وقد أقر اللقاء المشترك هذا المشروع، بعد أن أخذ نقاشاً طويلاً. وبعد إقراره كُلفت بصياغة رسالة إلى قيادة المؤتمر الشعبي ملخصها أن اللقاء المشترك، وقد تدارس بجدية ومسؤولية المتغيرات في الحياة السياسية وما تتطلبه معالجة المشكلات الوطنية الكبرى، وغيرها من المشكلات السياسية والاقتصادية، من تضافر جهود كل القوى السياسية الفاعلة في المجتمع، بمن فيهم الحراك السلمي الجنوبي والحوثيون وغيرهم، فإنه (أي اللقاء المشترك) منذ اليوم لا يرى أن هناك أي معنى لأي حوار سياسي بدون مشاركة هذه الأطراف، وأن أحزاب اللقاء المشترك لن تشارك في أي حوار ما لم يشمل هؤلاء جميعاً. نوقشت هذه الرسالة مع قيادة المؤتمر الشعبي، بحضور الرئيس السابق، ورُفضت الفكرة من قبلهم، بل إن بعضهم غادر اللقاء باستهتار.
لقد كان هذا الموقف أهم محطة سياسية قلبت موازين النظام السابق، وهو ما أوجد أرضية مناسبة لمزيد من التفاعلات الاجتماعية، وذلك بعد أن أوصد الباب أمام ألاعيب النظام بتوظيف الحوارات الثنائية لأغراض سياسية أضرت كثيراً بالحياة السياسية. ومنذ ذلك الوقت توقف الحوار مع النظام بإصرار من اللقاء المشترك على ضرورة وأهمية مشاركة الأطراف الأخرى. ولم يكن الحوار الشامل بحد ذاته هبة من أحد، كما أنه لم يكن مجرد نزوة سياسية عابرة من الممكن التعاطي معها بخفة واستهتار. لقد كان محصلة نضال شاق وطويل، ونقاشات مضنية، وتقديرات تباينت بين الموافقة والتردد، حتى تهيأت له الظروف ما بعد ثورة التغيير. ويمكن القول إن الحوار بالنسبة لنا كان مسألة مبدئية في صلته بموضوع الشراكة لتقرير مستقبل هذا البلد.
ولم يكن عبطاً أن توقفنا طويلاً، أثناء الحوار، أمام كيفية تنفيذ مخرجاته، وتساءلنا عمن هي القوى التي ستحمله إلى التنفيذ. وفي الجدل الذي دار حول هذا الموضوع الخطير، من وجهة نظري، حمل علينا البعض بأننا نريد تمديد الفترة الانتقالية لغرض التمسك بالسلطة، وهو ما لم يكن حاضراً داخل الفكرة، لأن الحضور الطاغي كان فعلاً للمسألة الأكثر أهمية من كل شيء، وهي تلك المتعلقة بمصير مخرجات الحوار. كما أن السلطة في مثل هذه الظروف لا تعني للقوى السياسية الحريصة على مستقبل البلد ومستقبلها أكثر من التضحية.
تحت الظروف الاقتصادية والمعيشية والأمنية الصعبة، كان الضغط المجتمعي، الذي تقوده نخبة ساخطة على الحوار لإنهاء الفترة الانتقالية، قوياً لدرجة تراجعت فيها بعض القوى السياسية عن فكرة الضمانات؛ طبعا ليس بسبب هذا الضغط، ولكنه توافق مع هوى في نفسها، وأخذت تتحدث عن انتخابات مبكرة. لكن السؤال المتعلق بمن سيحمل مخرجات الحوار ظل عالقاً من غير إجابة، وظل السؤال الخاص بعلاقة السلطة بالدولة مبهماً في ظروف التحول التي ورثت وضعاً شاذاً غابت فيه الدولة وحضرت السلطة.
غير أننا، بعد ذلك، توصلنا، عبر نقاشات عامة، إلى صيغة مبدئية تلخص القاعدة التي ستحكم التعاطي مع عناصر العملية السياسية، وفي مقدمتها مخرجات الحوار، بما في ذلك الخطوات البنائية التراكمية لهذه الشراكة مستقبلاً: “شركاء في وضع أسس بناء الدولة وشركاء في التنفيذ”.
بعد أن أخذ المسار ينتظم في إطار هذه المعادلة، هناك من بدأ يضيق ذرعاً بما أطلق عليه “المحددات التحكمية لمسار العملية الديمقراطية”، ويعود إلى مربع انتهاء الفترة الانتقالية وإجراء الانتخابات في وقتها أو بعد ذلك بقليل، ولم يكن ذلك غير “عبارة” حق يراد بها باطل.
لماذا لم تكن هذه “المحددات التحكمية” حاضرة في البال عندما كنا نناضل ضد النظام السابق، بسبب احتكار السلطة والقرار السياسي بيد مجموعة من الموالين والمحاسيب تحولوا، مع المدى، إلى “أوليجارشية” احتكرت السلطة والثروة؟ ما الذي يمنع ذلك من أن يتكرر تحت مسميات أخرى، إذا لم ينتج التغيير صيغة مناسبة للشراكة في بناء الدولة الضامنة والقادرة على حماية البلاد من الانزلاق مجدداً نحو سلطة أوليجارشية لعينة أخرى؟ هل يجوز، الآن وبعد كل هذا الجهد والنضال الشاق والتضحيات، أن يترك هذا الموضوع للتجربة والخطأ، أو للمجهول، أو لقوى معينة كي تقرره في لحظة من لحظات استعراض القوة وبعد ذلك “شرعكم يا اسياد”؟
والمجتمع الدولي، وهو يقدم نفسه كشريك، لا بد أن يستوعب هذه الحقيقة، ولا يغلق عينيه أمام تداعيات محاولات التفرد التي أضرت بالحياة السياسية. أي أنه لكي لا يكون للعرقلة عنده مفهوم مجرد عن طبيعة المشكلات الأساسية التي تتخلق في أحشائها معضلات ذات طابع بنيوي، كانت على الدوام أهم عوائق بناء وتقدم هذا البلد، فإن على المجتمع الدولي أن يظهر اهتمامه بمخرجات الحوار بوضعها في إطارها الذي يتمكن فيه اليمنيون من معالجة هذه القضية، الشراكة الوطنية، التي كانت ولا تزال أهم تحديات الماضي والمستقبل.
ليبدأ، من الآن، يضع نصب عينيه تلك العمليات التي تتحكم في موضوع الشراكة السياسية الوطنية وكيفية إدارتها؛ وهل الطريقة الحالية، التي تدار وتنفذ بها هذه العمليات، تخلق الأرضية المناسبة لتحقيق هذه الشراكة، أم أنها تتم في الأساس بنفس الشروط والمعايير التي ظلت تولد على الدوام الفجوات الاجتماعية والسياسية الضخمة التي تسربت منها الأحلام ببناء يمن جديد لتغدو هباء تذروه الرياح؟
إصلاح الخلل الذي أضر بالحوار
لا شيء يضر بحركة التغيير أكثر من التردد؛ تعرف الخطأ وتتردد في إصلاحه.
يتوجب القول، دون أدنى تردد، إن إصلاح الخلل الذي أضر بجوهر فكرة الحوار يأتي في مقدمة استعادة روح التوافق التي حكمت العملية السياسية والحوار الوطني.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل هذه العملية التصحيحية، وذلك بالعودة إلى وثيقة الضمانات التي أقرتها لجنة التوفيق، بما اشتملت عليه من رؤى ومعالجات لقضية بناء الدولة الضامنة كحامل لمخرجات الحوار، وكذا الوثيقة التي استخلصها المبعوث الأممي من نقاشات لجنة الستة عشر الخاصة بالقضية الجنوبية، والتي اشتملت على بابين: الباب الأول، وشمل تحول اليمن إلى دولة اتحادية، وتحدث بوضوح عن طرفين متكافئين في معادلة الدولة الاتحادية، هما الشمال والجنوب، وذلك بالاستناد إلى الحقائق السياسية والتاريخية، التي انتظمت في إطارها عملية توحيد اليمن بين دولتين يوم 22 مايو 1990. فالاتحاد لا يتم إلا بين كيانات سياسية في الأصل. وانطلاقاً من ذلك، تحدثت الوثيقة عن علاقات مكونات الدولة بالسلطة والثروة، في هذا الإطار المحدد سلفاً، وهو أهم جزء في هذا الحوار، الذي ظل دوماً مصدر الحروب والصراعات والانقسامات. وبسبب التدخلات، التي كانت قد شكلت ضغطاً على الحوار، تركت الوثيقة في بابها الثاني موضوع التقسيم الإداري للأقاليم بخيارين [إقليمين: الشمال إقليم، والجنوب إقليم، أو ستة أقاليم: اثنان في الجنوب، وأربعة في الشمال] لمزيد من الدراسة، والتي لم يكن بالإمكان أن تتجاهل مضامين المبادئ الأساسية التي حواها هذا الباب من الوثيقة فيما لو تركت للدراسة الجادة في ضوء استخلاصات فريق العمل.
لم يقف الاجتماع، الذي دعا إليه الرئيس فريق الستة عشر وأمناء الأحزاب، يوم الأحد 22 ديسمبر 2013، أمام الوثيقة، وإنما انتقل النقاش مباشرة إلى خيار الستة الأقاليم، وكأن المسألة كانت مبيتة لتمرير خيار لم تقدم بشأنه أي رؤية واضحة، بل لم يكن مطروحا على طاولة الحوار إلى ما قبل يومين من تاريخ تقديم الوثيقة. كان هنالك إصرار من قبل بعض الأطراف على تمرير خيارهم بطريقة لم تترك فرصة لأي حوار جاد، وأخذت تعود إلى نمط السلوك القديم في التعاطي مع الحوارات. وعلى تلك الطاولة الضيقة، جرى ذبح الحوار بالسكين القديمة التي ذبحت بها وثيقة العهد والاتفاق. رأيت الحوار، كمشروع مناهض للتسلط، يذبح من الوريد إلى الوريد، ومعه ترفع علامات النصر من قبل البعض، في استعراض مبهم لانتصار ليس له سوى معنى واحد، وهو أن البعض لم يستوعب الدرس بعد.
كانت لحظة فارقة بين السير إلى الأمام، أو العودة إلى الخلف، تلك اللحظة التي عصف فيها التعصب والتسلط واللامبالاة والحسابات القصيرة، التي تملكت تلك القوى، بجهود الحوار، وتحويله إلى مجرد عمل شكلي لا يختلف كثيراً عما كان يمارسه “أوليجارشية” النظام القديم. كل ما يمكن قوله هنا هو أن هذه “الأوليجارشية” الآفلة استطاعت أن تسحب معها “مشاريع” أوليجارشية جديدة لتدعم خياراتها التي دائماً ما حالت دون الوصول بالحوار إلى غاياته. قد لا يكون المهم هنا خطأ القرار أو صحته، فذلك متروك للتطبيق؛ ولكن الطريقة التي فُرض بها القرار، والاستجابة الرخوة من قبل من كان يعول عليهم تجديد خلق الحاضن السياسي الشعبي لهموم هذا البلد في صيغته التي خلقتها الثورة بتضحياتها الكبيرة.
غاب، في تلك اللحظة، عن هؤلاء أن الكثير منهم كانوا في صدارة المعارضين للتعسف الذي مارسه النظام السابق على الحياة السياسية، ثم عادوا هم أنفسهم لينخرطوا في ممارسة هذا التعسف وبأسوأ صوره. إن عودتهم بتلك الصورة قد وضعتهم في المكان الخطأ من العملية السياسية، أي في المكان نفسه الذي كان قد حوصر فيه النظام القديم، والذي يصبح معه الحديث عن التغيير، بعد ذلك من هذا الموقع، مجرد خديعة للنفس قبل أن تكون مغالطة للآخرين.
في لحظة، أحرَقَ التسلط، الذي استحضر نفسه عنوة من كل محطات الصراع، كل الجسور التي كان يجري بناؤها مع المستقبل بواسطة الحوار. لقد تصدى الحوار لمهمة عظيمة تتمثل في تهذيب قوى النفوذ والعصبيات، ومعها السلطة، بكل مكوناتها وأشكالها وأدواتها، بقيم وأسس بناء الدولة العادلة، التي كان مؤتمر الحوار قد أقر الكثير منها، بشكل جعلنا جميعاً نشعر أن الفراغ الروحي، والخواء المعنوي، اللذين خلقهما الاستبداد والفساد في المجتمع، قد مُلئ بروح الحوار وصموده الأسطوري أمام مراوغات التخلف.
كان المجتمع اليمني بذلك يستعيد روحه، التي غيبها وأنهكها نظام “الأوليجارشية”، الذي أخذ يقزم الشعب، ويضخم الحاكم. شعر، أم لم يشعر، أولئك الذين وقفوا في هذا المكان الخاطئ من العملية السياسية، بهذه الخطيئة، التي ضربت جوهر ومضمون الحوار، حينما قرروا تحويل مؤتمره إلى مجرد مصفق للقرارات الإدارية؛ إلا أنهم، في واقع الأمر، قد هدموا أهم شروط نجاحه، وفتحوا، من جديد، أبوابا للعودة إلى سلوك وقيم وأدوات الماضي، وهو ما يشهده البلد اليوم من عودة إلى مربع الصراعات واستعراض القوة والتخفي في أسمال التخلف والمراوغات والتحايل على شروط التغيير.
أخشى أن يشرب هؤلاء من نفس الإناء الذي استخدموه لإطفاء تلك الجذوة، التي أضاءت في لحظة تاريخية تلك الأعماق المظلمة لتطرد منها أشباح الخوف من التغيير.
القضية الجنوبية حسمت بقرار إداري
لقد كان أبرز تجليات هذا الخلل هو نقل القضية الجنوبية من طاولة الحوار إلى مائدة السلطة لتحسم بقرار إداري، وخاصة فيما يتعلق بشكل الدولة، الذي استخدم لتغييب مضمون هذه القضية، داخل مشروع الأقاليم الستة، وتقسيم الجنوب إلى إقليمين، على وجه الخصوص. وهناك ما يمكن الاستناد إليه في إصلاح هذا الخلل من داخل وثائق الحوار نفسها، وذلك بتطبيق القاعدة التي شملتها وثيقة الحلول الخاصة بالقضية الجنوبية في بابها الأول، كما أشرنا، والتي تقضي بتمكين الناس من اختيار مكانتهم السياسية، وهي القاعدة التي أُهملت، وانقلب عليها البعض، عندما أصروا على تحديد الأقاليم، بصورة تحكمية لا تستند إلى جوهر ومضامين هذه الوثيقة. وبدون العودة إلى وثيقة الحلول وتصحيح شكل الدولة الاتحادية، في ضوء هذه الوثيقة، فإن هذا الخلل سيظل حجة على أصحاب القرار الأممي ومنفذيه معا، وسيفتح بابا إلى مزيد من الخلافات التي ستضع القرار نفسه على المحك.
القرار يتحدث عن انتقال اليمن من دولة وحدوية إلى دولة اتحادية؛ ويفهم التعبير “وحدوية” على أنه الشكل الاندماجي لدولة الوحدة، والذي فشل، ليس بسبب إدارته فحسب، ولكن لأنه كان ضد طبائع الأمور، وحقائق الحياة، وخاصة عندما يتعلق الأمر بذلك النوع من الوحدة، التي تتم بين دولتين اختصمتا وتحاربتا، ولم يجمع بينهما، في أي يوم من الأيام، نظام سياسي واجتماعي مشترك الهوية كان من الممكن أن يشكل ملامح سمات مشتركة في الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبدلاً من مراعاة هذه الأبنية، عند تقرير شكل الدولة الوحدوية، جرى تعسفها، باعتقاد أن من الممكن تحييدها بواسطة الإرادوية المغمسة بحلم مشطور بين الفكرة الخبيثة للظفر بمساحة أوسع من الأرض، وإلحاقها بما هو تحت اليد، لمزيد من تعزيز النفوذ والهيمنة، وآخر كان يحلق بسذاجة داخل مشروع دولة تحقق النهوض لكل اليمن بدون أي مؤشرات دالة على إمكانية تحقيقها بالتوافق.
بتوظيف أدوات وموازين الواقع السياسي والاجتماعي، جرى تعسف الجزء الثاني من الحلم، واعتبر أنه الجانب الطوباوي من الحلم، الذي لا صلة له بواقع تحركه أصابع النفوذ، الذي لم يرَ في “الوحدة” غير تمدد على مساحة أوسع من الأرض؛ وجرى، من ثم، تكريس مضامين الوحدة بما يحقق الجانب الأول من الحلم المشطور.
لقد استقر الوضع عند هذه الحقيقة، باتفاق وحماية الأطراف نفسها، التي أصرت أن تنقل على عاتقها القضية الجنوبية من معادلة الحوار إلى مائدة السلطة لتقرر مصيرها بحسابات وغايات لا علاقة لها بحق الشعوب في تقرير مكانتهم السياسية، مثلما ورد في الوثيقة.
ومن الواضح أن مجلس الأمن اهتدى إلى هذه الحقيقة عندما تحدث عن التحول من هذا الوضع الفاشل إلى دولة اتحادية، وهذه الدولة الاتحادية هي بيت القصيد في المسألة التي نحن بصددها، وما إذا كان التقسيم المعلن للأقاليم الستة معبراً عنها، أو أنه تكرار للتجارب الخاطئة، التي أورثت اليمن مسلسل هدر الفرص في كافة المحطات التاريخية بسبب حسابات تكتيكية قصيرة.
إن الدولة الاتحادية، بالمعنى الذي يفهم من قرار المجلس الأمن، هي الدولة التي يجري بناؤها بالعودة إلى جذر المسألة لتصحيح مسار العملية التي تمت بين دولتين، بما يمكن أن يطلق عليه تصحيحا تاريخيا، ويرتب هذا الوضع طريقا مستقيماً إلى المكان الذي يجب عنده التصحيح.
جوهر الخلاف مع هذه القوى يتمثل في أنها انطلقت من نتائج حرب 1994، باعتبار أن هذه الحرب قد رتبت وضعاً ثابتاً لما استقر في وعيها من فكرة عن الوحدة، وأنها لهذا لا تقوم بأكثر من تصحيح ما كان يجب عمله من قبلها بعد الحرب. أما نحن، فنرى أن هذه الحرب قد دمرت الأسس السلمية للوحدة، وأن نتائجها لا تصلح في الأساس لأي تصحيح، مهما كان؛ فالتصحيح يجب أن يقوم على الفكرة الأساسية، وهي الوحدة السلمية المتكافئة بين الشمال والجنوب، والتي تمت في مايو 1990، وأن كل ما أساء إليها، من أحداث وسلوك وممارسات، يجب ألا يعتد به على الإطلاق في تقرير الوضع الذي ستستقر عنده دولتها القادمة.
كل ما عملوه هو أنهم تحايلوا على ما وافقوا عليه في الباب الأول من الوثيقة، والتي تحدثت عن قيام الدولة الاتحادية بين جيو – سياسيتين تاريخيتين: شمال وجنوب. وحتى في مشروع أقاليمهم الستة، قالوا: إقليمين في الجنوب، وأربعة أقاليم في الشمال، وقال المشروع الآخر: إقليم في الجنوب، وإقليم في الشمال؛ فكيف يكون الأول وحدوياً، والثاني انفصالياً؟!
– كتاب جديد يُنشر، على حلقات، في صحيفة “الشارع”، بالتزامن مع موقع “الاشتراكي نت”.

زر الذهاب إلى الأعلى