فضاء حر

عبور المضيق .. في نقد أولي للتجربة (الحلقة الأولى)

يمنات

من زمن قديم
نمت على قبر أمي
شجيرات
تطلق أزهاراً،
لها لون محياها..
ولها عبق شعرها
و سحر عينيها
وصفاء روحها
ووضوح كلماتها..
على يديها، وعلى حافة قبرها
تعلمت
أن للكلمة ثمن، هو الموقف
وأن الموقف يعنى التضحية
وأن حاصل جمع:
الثمن في الأولى والمعنى في الثانية هو الحياة!
*****
مارس 2014
تمهيد
لم تكن فكرة الكتابة في هذا الموضوع قد اختمرت في ذهني قبل صدور قرار مجلس الأمن رقم (2140) لعام 2014، والذي يضع اليمن تحت طائلة البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة. لم تثر الفكرة عندي حماسة الكتابة في ذلك الوقت الذي كانت تحتدم فيه الأحداث في أكثر صورها تعبيراً عن مخاضات عسيرة لولادة متوقعة للجديد.. فقد اعتبرتها مهمة؛ ولكن مؤجلة إلى الوقت الذي تتم فيه الولادة، وتصفو فيه الروح، وتكون المشاعر قد هدأت وتخلصت من تأثير الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظات الدرامية التي ابتلعت جزءاً هاماً من الحوار في واحد من أكثر المشاهد ملهاة واستخفافاً بالمعاني الأصيلة لقيمته في حياة اليمنيين.
منذ ما قبل الحوار وأثناءه وأنا أتساءل عما إذا كان باستطاعة اليمن أن يخرج، هذه المرة، منتصراً، وحاملاً بيده مشعل المستقبل يضيء طريقه إلى حياة أفضل. تفرع هذا السؤال إلى عدة أسئلة. رأيت اليمن قد تحرك من حالة الجمود والتفكك، التي عاشها لعقود، نحو المضيق الذي يوصله بالمستقبل، محمولاً على راحلة ثورة التغيير والحوار. على هذه الراحلة، وفي رحلته نحو هذا المستقبل، دخل هذا المضيق، وعلى نجاحها يتوقف خروجه منها. لم يعد أمامه من خيار سوى النجاح أو الموت داخل هذا المضيق. هناك فقط خيار واحد، وهو العبور بنجاح كامل. ليس هناك نصف حل لهذا الخيار الحاسم.
وتفرع عن ذلك سؤال آخر، وهو: هل الوطن مجرد جغرافيا وأنظمة تسلط، ورعية، وحقوق منهوبة، وحريات مغتصبة واستبعاد اجتماعي…؟ أم أن الوطن قيمة أنبل من كل القيم الأخرى؛ قيمة جامعة لكل القيم التي تجسد الإنسان في كامل صورته كمستخلف على هذه الأرض، ومن هذا الاستخلاف يستمد انتماءه وحقوقه وحرياته كمواطن لا كرعوي، كسيد على الجغرافيا لا كمسود، كصانع لحياته لا كمهمش ينتظر الإحسان من مغتصبي حريته وحقوقه؟ البلدان التي بقيت مجرد جغرافيا وأنظمة تسلط ورعية، وفشلت في أن تتحول إلى وطن يُجسد المعنى الإنساني للحياة على هذه الجغرافيا، راوحت في مكانها، وغرقت في التخلف والصراعات والعنف، وتعرضت للانهيارات المستمرة.
تعسرت الولادة. فهل كان القرار الأممي بمثابة الحدث الذي حرك قطع الشطرنج من أماكنها، على أي نحو كان، لتسريع المخاض وإنهاء اللعبة؟
يجب أن نعرف أن “الأوطان” لا تصل إليها الشعوب بقرارات دولية؛ فهي عملية موضوعية نضالية تعتمد في الأساس على إدراك الشعوب لما تعنيه كلمة “الأوطان” في حياتها، وأن النضال من أجلها يستحق التضحيات.
لا أحد يستطيع أن يهبنا “وطن” ما لم تكن الحوافز لدينا للوصول إليه أقوى مما في معادلة الحياة من تحديات، وما لم نكن مستعدين للعمل الجاد من أجل الوصول إليه؛ ذلك الاستعداد الذي تحركه دوافع أن نعيش ونحيا بكرامة، بعيداً عن ضغوط الهجرة وجراح الترحيل. آباؤنا وهبونا بلداً -جغرافيا- نعيش عليه وننتمي إليه. أما تحويله إلى “وطن” فقد بقي مهمة نتوارثها، وحانت فرصة تحقيقها. هذه الفرصة لا يجب أن تهدر فوق ما أهدر من فرص. لا أحد يملك القدرة على منعنا من تحويل بلدنا إلى “وطن”، كبقية خلق الله الذين سبقونا إلى ذلك. وحتى حينما يتعارض مفهوم هذا الوطن مع ما كرسه الاستبداد من مصالح فاسدة، وأنماط اقتصادية طفيلية، وثقافة تبريرية منهكة لحوافز التغيير، وبنى اجتماعية مشوهة؛ وكلها تقاوم هذا التحول؛ فإن هذا الغث كله غالباً ما يفضي إلى خلق القوة المناهضة له في الجانب الآخر من المشهد. إنها القوة التي ستتحمل تحقيق هذه المهمة. من هي هذه القوة في الحالة اليمنية؟! هذا ما سنرد عليه في الجزء الثاني.
في التجربة التاريخية لا تنشأ الحوافز القوية للتغيير إلا في واقع انحط، ولم يعد هناك أمل في إصلاحه. وهذه الحوافز تطلقها مبادرات تأتي من الأوساط الشعبية المؤهلة للقيام بهذه العمليات التاريخية، التي كان يقوم بها الأنبياء في الزمن القديم، عندما كانت مجتمعاتهم تصل إلى تلك الدرجات العالية من الانحطاط.
خيار التحول إلى وطن:
الفرص المهدرة
اليمن بلد ضاقت خياراته، تعثر بحكامه طويلاً، حتى وصل في مسيرته إلى المضيق، الذي لم يعد عنده مفر من البحث عن مخرج منه سوى أن تتصدر قوى الشعب الحية هذه العملية.
ليس لديه خيار آخر غير التحول إلى وطن، أو الكارثة. لن تكون روشتات الخارج على هذا الطريق، في أحسن الأحوال، سوى عامل مساعد لكبح جماح المتنطعين من أبنائه ممن أرهقوه بخياراتهم النزقة، والتي طالما تعارضت مع خيارات بنائه وتطويره على أسس سليمة.
ببقائه مجرد بلد تتنازعه الأهواء وتعصف به الأنواء، خسر كل المحطات التاريخية التي كان من الممكن أن تكون نقطة انطلاق جادة لمسيرة بنائه. ولم تكن تلك الخسارات هينة بحساب ضياع الفرصة واستهلاك الزمن. ضياع الفرصة يعقبه دائما استهلاك عبثي للزمن. ولنحسب هذه المحطات كفرص وما أعقبها من زمن ضائع.
منذ 2007، وحتى 2011، استعاد الشعب المبادرة، وكان الشباب والنساء في الصدارة. فالحراك السلمي في الجنوب، والذي بدأ يتشكل منذ ما بعد حرب 1994 في صورة احتجاجات ومصادمات مع النظام، على إثر الإجراءات التصفوية والقمعية التي مارسها ضد سكان الجنوب، كان رائداً في إطلاق المبادرة الثورية السلمية التي احتشدت فيها الجماهير على ذلك النحو، الذي لم يكن فقط معبراً عن مجرد احتقان اجتماعي، ولكنه شكل حالة سياسية ثورية كان لها تأثيرها البالغ، بعد ذلك، في إخراج الحياة السياسية من جمودها، وتحريك العوامل الثورية لتشتعل البلاد كلها بعد ذلك بثورة التغيير السلمية. أضحى “الوطن” على مرمى حجر. وبدا أن الفرصة التي تقدمها الحياة لليمن، بواسطة هذه المبادرة الثورية، في حاجة إلى حمايتها من الانزلاق مجدداً إلى أيدي المتنطعين، أيّاً كان منشؤهم أو انتماؤهم. فكل ما يمكن أن يستدل به على الخوف من الانزلاق بها مجدداً إلى أيديهم، هو أنهم كانوا دائما لا يقفون في الاتجاه المعاكس لمثل هذه الهبات، وإنما يسيرون بمحاذاة الفرصة ليتمكنوا من احتوائها، ويعيدوا بناءها لصالح مشروعهم المقاوم للتغيير. ومع كل فرصة مهدرة كانت قائمة هؤلاء تتسع، وتقل معها إمكانية إنتاج فرص أخرى.
في الزمن الأخير، لم يعد المشهد يتسع إلا لهؤلاء. ضاقوا بمن حولهم، ثم ضاقوا ببعضهم، ولم تعد “التورتة” قابلة للقسمة على هذا العدد المتزايد منهم، ومعهم الطابور الطويل من المحاسيب ممن ظلوا ينتظرون دورهم على المائدة. وكانت بداية النهاية لمرحلة، وبداية البداية لمرحلة جديدة، ومعها فرصة لا يجب أن تتعثر.
بهذا المعنى، كان لا بد أن تتعايش بدايتان، وبصورة جدلية: بداية النهاية لمرحلة، وبداية البداية لمرحلة أخرى؛ أي أن هذه البداية تتحقق في رحم نهاية مرحلة سابقة، مع كل ما يرتبه ذلك من تصادمات مسموح بها. فالتعايش هنا يجب ألا يعكس جموداً، وإنما حراكاً ديناميكياً ينتج البديل الذي يتوقف نجاحه على قدرته في توسيع مساحة هذا الحراك على الصعيدين السياسي والاجتماعي، دون الإخلال بشروط التسوية التي قامت على الالتزام بالتغيير السلمي عبر الحوار والتعايش والمشاركة الوطنية. كما أن هذه التصادمات لن يجري تكريسها، بصورة تحكمية، في نفس السياقات التي حكمت التحالفات السياسية للمرحلة السابقة؛ فهي ستأخذ مداها في الجانب الاجتماعي والثقافي والوطني وبناء الدولة والاقتصاد، وغيرها من شؤون الحياة المختلفة؛ أي أنها ستنشئ مساحة لتقاطعات أوسع، بل وستتجاوز رقعة التحالفات السياسية وعناصرها التي استقرت زمناً عند حالة بعينها، وهذا ما أثبته الحوار.
قال الحوار كلمته في أهم لحظة تاريخية من اللحظات الفارقة في حياة الشعوب المتطلعة إلى المستقبل، وأكد على أننا جميعا نريد أن نعبر المضيق إلى الضفة الأخرى، حيث ينتظرنا “وطن” مؤجل.

والسؤال: كيف سنمر؟ ومتى؟ وعلى أي “راحلة”؟ وما هي أدواتنا المكملة للحوار للمرور إلى المرحلة القادمة؟
لا يجب أن تكون هذه “الراحلة”، بكل تأكيد، هي قرار مجلس الأمن رقم (2140) لعام 2014. يجب أن نعفيه من هذه المهمة، حتى يأخذ قيمته من واقع ما يقرره اليمنيون من مسؤولية على عاتقهم تجاه بناء مستقبلهم. هذا على افتراض أن نخبه قد استوعبت الدرس، وأدركت أن القرار يلوح بإدانة تاريخية للفشل الذي منوا به في إدارة بلدهم. القرار لا يعفي أحداً من المسؤولية، على الرغم من أن قراءته على النحو الذي يعتبر فيه محفزا لأن يأخذ اليمنيون مسؤولية بناء بلدهم بجدية، لا تزال ممكنة.
منذ أن صدر قرار مجلس الأمن رقم (2140) بشأن معرقلي العملية السياسية في اليمن، واليمنيون عاكفون على تفسير هذا القرار، الذي بدا وكأنه جاء مفاجأة وبدون مقدمات، أو كأنَّ هناك من لقمه رصاصة الرحمة لتطلق على ما تبقى لدى أبنائه من رغبة في إنقاذ بلدهم، أو لتصيد ما فضل من سيادة لبلد لم تكن مشكلته في يوم من الأيام مع “السيادة” وإنما مع “سادة” النفوذ الذين عصروه ورهنوه وعجنوه وأكلوا زرعه قبل أوانه، في أكثر صور الاستعارة تعبيراً عن العجلة في تدمير الأشياء.
القرار لم يقُل بوضوح من هم المعرقلون؛ ولكنه أخضع الجميع للرقابة. هذا الإجراء بحد ذاته يحمل دلالة ذات مغزى كبير بشأن تقييم المجتمع الدولي للمنظومة السياسية اليمنية بأكملها. لم يشفع “نجاح” الحوار للمنظومة السياسية لدى المجتمع الدولي؛ فهو لا يزال يراها غير مؤهلة لتنفيذ المخرجات التي توافقت عليها. وهو بهذا لا يتجنى عليها، وفي ثقافتها ما يشي ببقاء الفجوة والجفوة بين القول والفعل قائمة على غير ما يعلمنا ديننا الحنيف، لقوله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون، كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”.
كالعادة، سرعان ما يصطف اليمنيون إزاء حدث ما من داخل المواقع نفسها التي سبق أن رتبها الفرز السياسي كمنتج سابق لأسباب وأحداث أخرى، ولا يبذلون الجهد الكافي لدراسته على النحو الذي يمكن أن يوضع في إطاره الصحيح.
هذا القرار، الذي شكل حدثا استثنائيا، لم يكن معزولا عن تطورات الأحداث التي عاشها اليمن خلال السنوات الماضية. ومنذ أن بدأت مظاهر فشل الدولة تطوي تاريخاً من النضال السياسي والتضحيات ومحاولات التنمية والبناء، راحت تتلف كل آمال الشعب في الاستقرار والتقدم والعيش الكريم، وأخذت تلفت انتباه المجتمع الدولي وتثير انتباهه وتضعه أمام مسؤولية إنقاذ مبكرة، عبر عنها بوسائله التقليدية، حينما كان أنين المجتمع خافتاً، ولم يولد بعد التفاعلات الاجتماعية والحالة السياسية التي عبرت عنها الثورة الشعبية السلمية 20072011، فيما بعد. هذا التحول الذي حدث على الصعيد الشعبي كان لا بد أن يصاحبه تغيير مناسب في أشكال ووسائل التعبير الدولية تجاه ذلك الوضع المستجد بشكل عام.
الموقف الأممي تطور مع اشتداد الزخم الشعبي وظهور حالة ثورية من داخل ذلك الوسط الذي لم يكن أحد غيره قادراً على توليدها؛ وهو لم تكن له علاقة بالفرز السياسي الرأسي الذي شهدته البلاد قبل ظهور هذه الحالة الثورية، حتى يبدو وكأنه استجابة لحاجة سياسية يمثلها طرف بعينه كما يحدث مع بلدان أخرى.
كان اليمن سيشهد، في كل الأحوال، قراراً كهذا منذ أن بدأت مؤشرات فشل “الدولة” تأخذ مظاهرها على الأرض، في صور شتى من الضعف العام للنظام: حروب، عنف، صراعات مسلحة، إرهاب، اتساع رقعة الفقر، فساد متجذر في بنية سياسية هشة، تزايد البطالة بين الشباب، توقف برامج التنمية، بروز قضايا وطنية كبرى اتسعت معها الفجوات الاجتماعية…
ومنذ ذلك الوقت المبكر أخذ المجتمع الدولي ينظر إلى اليمن على أنه بلد أخذ يشكل خطراً على نفسه وعلى أمن الإقليم والمجتمع الدولي.
أياً كان الأمر، فإن هذا التقييم يُعد، عند كثير من المهتمين بشؤون اليمن، سبباً رئيسياً من بين الأسباب التي دفعت المجتمع الدولي لاتخاذ هذا القرار. وهنا يصبح للقرار وجه آخر يتعلق بالأمن العالمي، الذي لا يستطيع أحد أن يجادل فيه بالحيثيات نفسها، عندما يتعلق الأمر بمساعدة اليمن على مواجهة مصاعبه بصورة مجردة عن علاقة هذه المساعدة بالأمن الدولي.
ومن الطبيعي أن ينظر المجتمع الدولي إلى مساعدة اليمن، وإلى دعمه على هذا الصعيد، من زاوية صلتهما الوثيقة بهذا الموضوع. وهذا ما يجعل المسألة تبدو مترابطة العناصر ومتداخلة الأهداف: دولة ذات مؤسسات هشة، تتجه نحو الفشل وتهدد والأمن والاستقرار الدوليين. هذا السبب. أما النتيجة فستكون هي ما يتوجب على المؤسسة الدولية المكلفة بحماية المصالح الأممية عمله إزاء وضع كهذا. سيكون من البديهي أن تعمل على منع انهيار هذه الدولة، ومقاومة عوامل فشلها، لتتجنب ما يمكن أن يترتب على هذا الفشل من مخاطر على الصعيد الدولي، وهو ما عبر عنه القرار بوضوح. أما ما سيتم على الأرض فذلك ما يمكن أن نعتبره مثار جدل سنستعرض بعض جوانبه فيما بعد.
الذين أوصلوا بلدانهم إلى هذا الوضع، غالبا ما يرتفع صراخهم بالرفض، حرصاً على السيادة كما يزعمون. فهم لن يجدوا ما يدرؤون به الخطر القادم نحوهم سوى الحديث عن السيادة المنتهكة. والحقيقة أن السيادة لا تكون في مأمن في مثل هذه الأحوال، تماماً مثلما لم تكن أثناء حكمهم مصانة. علينا أن ننظر للمسألة من الزاوية التي كان عندها احتكار القرار السياسي من قبل هؤلاء الحكام الفاشلين سبباً رئيسياً في تخريب المقومات الرئيسية لهذه السيادة والتفريط، من ثم، بها باضطهاد شعوبهم، والاستعانة بالخارج في كل الأحوال لقمع إرادة هذه الشعوب. ولا يجهل أحد أن الثمن الذي يدفعه مثل هؤلاء الحكام، مقابل استمرارهم في الحكم، لم يكن غير هذه السيادة. لقد كانت السيادة ثمناً لاحتكار القرار السياسي، واغتصاب السلطة، واضطهاد الشعوب، وما يترتب على ذلك من تبعات تدور مع هذه الحلقة المفرغة، لينتهي الأمر إلى سحب القرار السياسي من أيديهم. فبأي وجه بعد هذا يتحدث هؤلاء السادة عن السيادة؟!
في هذا السياق يبرز سؤال ذو مغزى، وهو: هل من الممكن أن يصبح هذا القرار موضع استقطاب، أو احتواء سياسي مراوغ، يوسع الشرخ الاجتماعي والوطني، على النحو الذي يجعله أداة بيد طرف، أو أطراف بعينها، لمواجهة طرف، أو أطراف أخرى، في عملية إعادة إنتاج الصراع التي انتهت إلى ذلك التوافق الوطني عبر العملية السياسية؟ بمعنى: هل من الممكن أن تنشأ ظروف تجعل القرار محط صراع بين أطراف المعادلة السياسية بهدف تحويله إلى أداة بيد طرف أو تحالف أطراف لقمع الأطراف الأخرى؟
أسأل هذا السؤال وأنا ما زلت متمسكا بأن العملية السياسية كان هدفها في الأساس هو التغيير الذي استهدفته ثورة التغيير السلمية، وذلك بغض النظر عن الآفاق الاجتماعية والمضامين الفلسفية التي حملتها الأطراف الثورية كعناصر مرجحة لنضالها عند التحامها معا في المجرى العام للحركة الثورية.
كان هذا هو الهدف؛ لكن الحياة، ربما، لم تكن منصفة مرة أخرى، عندما يتعلق الأمر بالحامل السياسي الذي تولى إنجاز المهمة! والحامل السياسي ليس فرداً، أو مجموعة أفراد؛ ولكنه مجموعة القوى التي تولت أمر إنتاجه في لحظة تاريخية كانت حبلى بتناقضات مذهلة، ولم تكن سهلة، ولا ممكنة الاجتياز، إلا بتوافقات مضنية. كان هذا العنصر الموضوعي؛ أما الذاتي فكان قد تمثل في الوضع الخاص لهذه القوى، سواء في صيغة بُناها التنظيمية والسياسية والفكرية، وقدراتها النضالية، وكذا مخزونها من التجارب الكفاحية على هذا الطريق، أو في علاقتها بعضها ببعض، ومدى استعداد هذه العلاقة لتوفير شروط إنجاح هذا التوافق.
ومع ذلك، وحتى بعد أن تكبد الحوار خسارة معنوية في مجمل مساراته الناجحة، وذلك بالتدخل، الذي مرر، بأدوات سلطوية، لصالح بعض الأطراف السياسية، في أهم حلقة من حلقاته، والخاص بالقضية الجنوبية وشكل الدولة؛ فإنني أعتقد أنه لا يزال هناك عنصر موضوعي أفرزته هذه التغيرات، سيرفد هذه العملية بقدر كبير من الثبات، عندما يتعلق الأمر بتوظيف العوامل الداعمة لنجاحها، وسيهيئ في نهاية المطاف الشروط لتصحيح الخلل. وأقول “تصحيح الخلل” كضرورة لفتح الباب أمام هذه العوامل الإيجابية الداعمة لنجاح هذه العملية التاريخية؛ ما لم فإن الذي سيملأ مساحة الفعل هي العوامل السلبية التي تتربص بها من كل جانب.
البيئة السياسية الجديدة
يتمثل هذا العنصر الموضوعي في البيئة السياسية الجديدة، التي شهدت تفكيك مراكز القوى، وإنتاج آليات متنافرة لعملها (أي هذه القوى) جعلتها تتربص ببعضها إلى درجة فقدت معها تأثيرها القديم على الأحداث. وأخذ هذا العنصر الجديد يشكل رقابة شديدة الحساسية على أي ميول أو نزعات من شأنها أن تقود هذه العملية إلى مجرى مختلف، أو أن توظف هذا القرار خارج أهدافه؛ إلا إذا قرر المجتمع الدولي بنفسه السير في هذا المجرى، لأي سبب من الأسباب، أو قرر أن يغض الطرف عمن يدفع إلى السير فيه.
ولا بد من التأكيد هنا على أن القوى التي ستفكر بالسير في هذا المنحى، ولو حتى برضى المجتمع الدولي، أو أطراف فيه، ستكون من الناحية العملية قد قررت أن تفتح طريق العودة بالبلاد إلى مربع الصراع.
إعادة إنتاج الصراع اليوم ستكون عملية أكثر تعقيداً، وستأخذ، من وجهة نظري، مساراً مغايراً، وستمتد إلى داخل شروخ التجربة القصيرة في السلطة، التي حكمت حسابات الأطراف السياسية المختلفة، بما فيها تلك التي تحالفت لتغيير نظام “صالح”. ولذلك يجب أن يكون الرهان الأول على إنجاح عملية التغيير، وليس على إزاحة طرف، أو أطراف، من العملية السياسية، توطئة لاحتكار القرار السياسي والسلطة. ويكون الرهان الثاني على حل القضايا الكبرى العالقة، حلا ينتج شروط السير إلى الأمام، وليس على المراوغة والتحليق حولها.
إن أهم شيء في هذه العملية كلها هو ألا يؤدي القرار الأممي (2140) إلى إنتاج آليات عمل تقود إلى تركيز النفوذ بيد أي طرف، تحت أي عنوان من العناوين، وتحت أي سبب من الأسباب. المطلوب هو دعم وتشجيع القرار السياسي المستند إلى شراكة وطنية فاعلة ومسؤولة، والموصول بالإرادة الشعبية، من خلال تنمية قدرات المشاركة لدى القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والشباب والمرأة وكافة فعاليات المجتمع.
حالة التخبط التي ظهرت عليها القوى السياسية ومكونات المجتمع ونخبه المختلفة، تجاه المسار السياسي، بعد صدور هذا القرار الهام، من الضروري أن تتوقف، ومعها لا بد من مغادرة ما يمكن أن يطلق عليه “الموديل” اليمني المعروف في التعاطي مع الأحداث الجادة، من خلال الاحتواء المراوغ للحدث. هذا الاحتواء المراوغ لا يقوم بأكثر من إعادة بناء هذه الأحداث كحالة ذهنية مجردة عن حراك الواقع، لدى الأطراف المختلفة، والتي تقوم بعدئذ بتسويقها في الوعي الاجتماعي من منظورها السياسي والأيديولوجي وبدوافعها الخاصة.
والمعروف أن هذه الحالة الذهنية المجردة لا تغير من تأثير الحدث، فهو يأخذ مساره في الواقع المادي وينتج تأثيراته ومعادلاته، وغالبا ما يكون أكثر قدرة على المراوغة هو الآخر بتشكيل دفاعاته وأدواته، ولا يقيم لحالة الاحتواء وتجلياتها الذهنية تلك أي قيمة. هي حالة من تشكل الوعي الزائف، ثم لا يلبث المجتمع أن يشهد أكواما من المشكلات والمتغيرات التي تواصل حصاره في كماشة التخلف؛ وكل ما تفعله هذه القوى والنخب هو أنها تنسب هذه النتيجة دائما للآخر المجهول، متخطية خيبتها في التعاطي مع الأحداث كما أفرزتها معطيات الواقع.
حكم الاستبداد، في مساره التاريخي، وفي علاقته بالتشكل المشوه والمتصادم للمصالح الاجتماعية لمختلف القوى والطبقات والمكونات الاجتماعية، ليس حالة ذهنية. والثورة، بما أنتجته من معطيات وشروط للتغيير، وما رافقها من اختراقات، ليست حالة ذهنية. والعملية السياسية، بما أفضت إليه من عقد اجتماعي توافقي لبناء دولة اتحادية ديمقراطية حديثة ونظام سياسي واجتماعي مختلف عن سابقه، ليست حالة ذهنية؛ وإن كانت هذه الحالة الذهنية قد برز بعض تجلياتها في آخر مراحل مؤتمر الحوار، وذلك بالاستعانة بشيء من مخزون قيم النظام السياسي السابق من قبل البعض، وذلك عملا بالقاعدة الفقهية للمرجئة “لا تضر مع الإيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة”… وأخيراً قرار مجلس الأمن، بما توخاه من أهداف ومقاصد وما تنتصب أمام لجنة العقوبات من مهام، ليس حالة ذهنية.
الحالة الذهنية الوحيدة التي تمارسها هذه الأطراف، بعد كل هذا الذي جرى، ومن مواقعها المختلفة، هي الحلم بالعودة إلى السلطة؛ للانتقام عند البعض، ومحاولات حشد المزيد من العوامل لإقصاء الآخرين، واحتكار السلطة والتفرد بالقرار، عند البعض الآخر.
هل ستستطيع هذه الحالة الذهنية أن تغير مجرى هذا العملية التاريخية، بأن تحتوي في إطارها كل العمليات الموضوعية التي ترتبط بها أو تشتق منها؟
لا بد من ملاحظة أنه، كانعكاس لهذه الحالة الذهنية، جرى، منذ نهاية مؤتمر الحوار، الاستعانة بقيم وأدوات النظام القديم لفرض ترتيبات تكوين الدولة الجديدة واحتكارها، بالتعيينات التي رتبت وضعاً إقصائيا مختلا لكثير من القوى، وهو الآمر الذي فتح باباً لصراعات جديدة، كالتي نراها على أكثر من صعيد وعلى أكثر من وجه. فانطبق على هذا الوضع قول البردوني:
دخلتْ صنعاء بابا ثالثا
ليتها تدري إلى أين افتتح!
هل سيستطيع قرار مجلس الأمن أن يغلق هذا الباب الثالث إذا لم يعالج أسبابه الحقيقية؟
تكديس السلاح على مدى عقود من الزمن بيد هذه القوى يثير أكثر من سؤال حول قبولها بمعادلة توافقية لبناء دولة مدنية تتقرر فيها مكانتها بانتخابات عادلة ونزيهة؛ انتخابات يسبقها بناء مؤسسات دولة ضامنة تستلم هذا السلاح، وتعيد صياغة السلوك الاجتماعي للنفوذ القديم في إطار قانوني يحمي المجتمع، بمن فيه أصحاب هذا النفوذ، ويحمي الدولة ومؤسساتها، ويصون الحياة السياسية من أي اختراقات خارجية.
إن المشهد الذي شكل حالة توسط مربكة بين الثورة السلمية والانزلاق إلى الحرب الأهلية لن يغيب عن البال؛ فهذا المشهد هو نفسه الذي يتكرر، وبصورة أوضح على الأرض، كمشكلة أمام عملية التغيير التي يراد لها أن تتم بواسطة العملية السياسية. إن القوى التي تنام على ترسانة هذا السلاح، هي نفس القوى التي ظلت تثير الحروب العبثية على نطاق واسع، وتورط الدولة فيها بهدف إضعافها و”تفيُّد” سلاحها، في نهاية المطاف، ليتحول إلى مصدر قوة لها. فكم هي الحروب التي أُشعلت، وزُجَّ بالدولة في أتونها للحصول على السلاح والمال والقوة! واستطاعت هذه القوى أن تزرع وكلاءها في جسم النظام للقيام بالمهمة في الوقت المناسب لتغدو الدولة مجرد مخزن لتسليحها في الوقت الذي يقرره وكلاؤها.
قصة السلاح في اليمن فيها الكثير مما يمكن أن يعتبر صورة لتفريط النخبة الحاكمة بقوة ومكانة وهيبة الدولة لصالح هذه القوى، التي تشابكت معها عند مفاصل عديدة، حتى أن السلاح، الذي حصلت عليه من الدولة، كان بالمستوى نفسه الذي لدى الجيش، في أحيان كثيرة، وخاصة الأسلحة التي تشكل العنصر الأساسي في الحروب الداخلية. كانت السلطة الحاكمة ترى في مؤسسات الدولة القوية خطراً عليها، بل ظلت تراها أكثر خطورة من هذه القوى، التي غالباً ما استطاعت السلطة أن توظف صراعاتها وحروبها لتهرب من استحقاقات بناء الدولة، وإنجاز مهمات الإصلاح السياسي والبناء الاقتصادي والاجتماعي.
ذيول هذه القضية، وما رتبته من حقائق على الأرض، ستظل عائقاً أساسياً أمام نجاح هذا البلد في مغادرة الحلقة المفرغة للتخلف في صورته المركبة. ولا يبدو أن هناك من يضع هذه المسألة الهامة في إطارها الصحيح حتى الآن. هذه المسألة لم تعد تقبل أي مناورات أو مساومات من ذلك النوع الذي ينتهي بتسوية خاصة بين هذه القوى، وتكون التسوية على حساب الدولة. فالسلاح واحتكاره من قبل الدولة قضية جوهرية، لا يمكن أن تترك لتقديرات مغايرة لحقيقة أنه بوضعه المنفلت ظل يشكل مصدراً لكل المصاعب التي واجهت اليمن في كل محاولاته للتحول إلى وطن، بما في ذلك محولات تعطيل العملية السياسية والحوار مؤخراً. كان السلاح المنفلت هو القاسم المشترك لكل تلك الصعوبات ومحاولات التعطيل، وكانت حيازته، بتلك الصورة، تعكس خللا جوهرياً في مفهوم الدولة، حيث أخذت تتناسل من هذا المفهوم أنساق من السلوك الاجتماعي المعبر عن الفوضى، وعدم الانضباط، والتطاول على القانون، والجرأة على إفساد كل محاولة لبناء دولة النظام والقانون.
كثير من هذه الأمراض انتقلت إلى مجرى عملية التغيير التي تجسدت في الحوار الوطني الشامل؛ الاغتيالات والحروب وإثارة الفوضى والانسحابات وتعليق المشاركات في الحوار، والاستخفاف بالنظام الداخلي لمؤتمر الحوار، ومراوغات وضغوط القوى التي أجادت الانقسام في لحظات الضرورة -كما تفعل الرخويات ذات الخلية الواحدة- لتوزيع الأدوار بين من يرفضون لتحسين شروط من يوافقون، والحملات الإعلامية المضللة لإضعاف قيمة الحوار في الوعي الشعبي، وكذا التحريض واستعراض القوة والتحالفات التكتيكية، والضخ الإعلامي المضلل للحقائق، والإشاعات وحملات تشويه الآخر، واختلاق الأكاذيب للتكفير والتحريض على القتل… كلها تداعيات، مباشرة وغير مباشرة، لما استقر في أعماق هذه القوى من اعتقاد بأنها وحدها من يجب أن يقرر مسار هذا البلد وإلى أين يتجه.
هذه الظواهر وتداعياتها شكلت بيئة محبطة للروح التوافقية، جعلت العملية السياسية مضغوطة بكماشة تلك القوى التي تسعى إلى احتكار القرار، وتقدم نفسها على أنها الوحيدة القادرة على مواجهة هذه الفوضى الضاربة أطنابها في الأرض، وحاجتها إلى عين حمراء من طراز لا يتوفر إلا عندها. هي التي تثير هذه الفوضى، وتقدم نفسها في الوقت ذاته على أنها هي الحل. لم تكن تستهدف غير تفويت الفرصة على مؤتمر الحوار لتحقيق أهدافه التاريخية. ومن الطبيعي ألا يتوقف دورها هذا في المحطة التي انتهى عندها مؤتمر الحوار، وهذا ما شهدناه في أكثر من واقعة وأكثر من حدث؛ فقد باتت تتناوب خلق الذرائع فيما بينها لمواصلة إغراق البلاد في الفوضى والعنف والحروب، لاستعادة أوراق اللعبة إلى بين يديها، ويسلم الجميع بألا حل إلا بتوافق هذه القوى بالعودة إلى الطاولة لاقتسام الكعكة. فهل من الممكن أن يقبل الشعب، وقواه المدنية الحية، العودة بالبلد إلى أحضان هذا الضلال القديم؟
– كتاب جديد يُنشر، على حلقات، في صحيفة “الشارع”، بالتزامن مع موقع “الاشتراكي نت”.

زر الذهاب إلى الأعلى