فضاء حر

هل هي حقا ثورة؟

يمنات
في فيلم “العمى” عن رواية البرتغالي ساراماجو، يظهر العميان في سجن الحجر الصحي عاجزين عن تسيير حياتهم الجديدة على نحو لائق، كان لابد أن يتقدم أحدهم (وقد فعل طبيب العيون المصاب بالداء الجديد) باقتراح على النزلاء بأن يرشحوا شخصا يكون ممثلا عن كل عنبر ، لكي تتسهل عملية الحصول على الطعام.
لكن اقتراح من هذا النوع كان كفيلا بتفجر مشاكل لا حصر لها، بدا الأمر وكأنه سيتحول إلى نزاع شرس حول الزعامة، تناسى نزلاء العنبر رقم 3 وضعهم، فقد كان هناك شخص بينهم بادر لإظهار عدم تقديره للموقف، ولهذا أصبح زعيما يكرهه نزلاء العنابر الأخرى.
ذكرني هذا المشهد بشباب ثورة فبراير وهم يتنازعون على الزعامة في ساحات الثورة، كان هناك العديد ممن يستطيعون اظهار عدم تقديرهم لحجم الحدث الذي صنعوه للتو، فعصفت بهم الخلافات، بينما قطاع واسع فضل الانكفاء والعمل بصمت.
لم يكن لهذا الأمر أن يتم بمعزل عن شغل الأجهزة الأمنية، وكان بالطبع شغلا ذكيا لطالما لامس مكمن الخلل الذي قد يصيب أي ثورة لا تحظى بقيادة منظمة، وهو الوضع الذي ساد في كل ثورات الربيع العربي تقريبا. لم يكن من الممكن تنظيم الحدث وتسيره بخطوات ثابتة نحو الهدف المنشود، غير أن الجانب المشرق في هذه المسألة، هو أن الثورة العظيمة التي ينخرط فيها غالبية فئات الشعب، عصية على الاحتواء، مليئة بالعيوب، ولا تنفع معها الألاعيب الصغيرة.
كانت ثورة فبراير بمثابة مدرسة كبيرة تعلم الناس الاختلاف، وكيفية تجاوزها أو تأجيلها على الأقل، تعلمهم دروس جديدة في استيعاب المتناقضات والتحلي بطول البال، كان لتلك الظواهر فائدتها، وكان يجب على الثورة أن تواصل السير، لولا أن هناك عوامل احباط أخرى ظلت تترصد طريقها. لهذا كان من الصعب عليها أن تصل وهي محملة بتلك الأعباء التي تقبلتها، كان من الصعب أن تصل في الموعد المحدد، لعلها فضلت بذر نفسها على مهل، أكثر من استعجالها للحصاد.
مقارنة بذلك سيتبادر إلى ذهننا تساؤل من نوع: هل حقا ما قامت به جماعة الحوثي مؤخرا بذلك الشكل المنفرد يمكن أن يطلق عليه أسم ثورة؟ ربما يستطيع الناس الذين جربوا الاعتصام السلمي والمظاهرات السلمية لأول مرة اعتبارها كذلك، لعل قنابل الغاز المسيلة للدموع رغم قلتها قادرة على بعث مثل هذا الوهم. لكن السلاح وتكشف المقاصد بعد ذلك، جديران بأن يرسما مشهدا لا لبس فيه، مشهد ينم عن حجم الإستغفال الذي مورس بحق تلك الجموع، وعن حجم الوقاحة منقطعة النظير.
هناك طرق كثيرة تدل على الاستبداد ونوازع الاستبداد، أكثرها وضوحا، هي استغفال الناس واستثمار نواقصهم. وهذا ما حدث فعلا، فالمشاركون في ثورة الحوثي المسلحة لم يكن مسموح لهم تبني راي مغاير، لم يكن من حقهم أن يخالفوا ولو في بعض القضايا البسيطة راي الجهاز المنضبط للجماعة، كانوا مشاركين فعلا، وتحملوا الكثير من الأعباء وأيضا المآسي التي أورثوها لأسرهم، لكنهم في الحقيقة لم يكونوا أكثر من قطع شطرنج يتم اللعب بها على رقعة وضعت في مكان مظلم، حيث يوجد لاعب وحيد يحق له تحريك القطع، بمعزل عن أي ارادة أخرى. بمعزل عن أي نقاش سطحي، فكيف بالاعتراض، رغم كل التهور والمصائر المجهولة التي رافقتهم.
لكن حتى العميان بوسعهم الاعتراض؟
لننسى العميان وسجنهم، فثورة الحوثي شيء مختلف، من البداية كان الباب يفوت جمل، لهذا خرج أحمد سيف حاشد ورفاقه، ولم تتحسر الثورة، على كل ما يحمله حاشد هذا المناضل الجسور من قيم أخلاقية وثورية بإمكانها أن تعدل كفة أي ميزان.
ربما كان من الأفضل أن يواصل الحوثي مسيرته القرأنية منفردا، وعلى أية حال بوسعه أن يسمي ذلك ثورة، كما بوسعه أكثر ألا يدرك بأن المشاريع التي لا ترى الشعب إلا بكونه مساحة جهل وفقر يمكن استثمارها في حقل السياسة، المشاريع التي تستغل قطاع واسع من الناس وتدفعهم لتمجيد الأوهام والسير خلفها بعيون مغمضة أو معصوبة، المشاريع التي تنبعث من أزمنة غابرة، هي بالضرورة مشاريع زائلة وستتلاشى في أقرب منعطف.
عندها يمكنكم أن تطلقوا عليها ثورة أو أي شيء يبعث على الفكاهة.
عن: الثوري

زر الذهاب إلى الأعلى