العرض في الرئيسةتحليلات

هل أصبح قيام دولة “عدن الكبرى” وشيكا؟ وحتى متى ستصمد الهدنة ويتوقف إطلاق النار؟ وما هو شكل خريطة “اليمن الجديد”؟  

يمنات

عبد الباري عطوان

أثناء أحداث 13 يناير عام 1986 في عدن التي شَهِدت صِداماتٍ دمويّةٍ بين جناحيّ الحِزب الاشتراكي الحاكِم، وانتهت بمَجزرة راح ضحيّتها عدد من أعضاء المكتب السياسي، ولُجوء الرئيس علي ناصر محمد إلى صنعاء، أوفَدتني مجلّة “المجلّة” التي كُنت أعمل فيها إلى العاصِمة اليمنيّة الجنوبيّة مَرّتين، الأولى لتَغطية ما يَجري على الأرض في مَرحلةٍ ما بَعد المَجزرة، والثانية لحُضور مُحاكمات المُتورّطين، وهذهِ قِصّة قد نَروي فُصولها في ما هو قادِمٌ من أيّام.

الرِّفاق في العهد الجديد الذي تقاسَم السلطة فيه السيد علي سالم البيض، الأمين العام، والرجل القوي في الحِزب، والرئيس أبو بكر العطاس، الذي كان الواجِهة المدنيّة، وآخرون احتلّوا مقاعِدهم في المَكتب السياسي ومَفاصِل الدولة، وَضعوا لي برنامجًا لزِيارة العديد من المعالم في البِلاد، وأبرزها سِجن العاصمة، حيث يتواجد المُتّهمون ومِنهم وزراء، ارتدوا مَلابِس السجن البيضاء.

أرادوني أن أزور مكتبة السجن كعلامةٍ على الرفاهية، والمُعاملة الإنسانيّة الطيّبة للسُّجناء، حسب ما أكّد لي مُرافقي، فوَجدتها مُزدحِمةً فعلاً بالكُتب، ولكنّها من نَوع وأيديولوجيّة واحِدة، وهي كتب ماركس والأيديولوجيّة الماركسيّة، وشُروحاتِها، وتَفسيراتِها، وكيفيّة تَطبيقها على الوَجه الاكمل، ونادِرًا ما تَجد كِتابًا مُختلفًا، حتى لو كان عن الطَّبخ.

سألت أحد المُعتَقلين لماذا أنت هُنا؟ قال بلهجته اليمنيّة المُحبّبة “والله لا أعرف، أنا ضابِط مدفعيّة بحريّة، قالوا لي إقصف منزل ربيع علي (الرئيس الأسبق) فَقصفته ودمّرته من القذيفة الأولى، فمَنحوني وِسامًا، ورُتبةٍ جديدة، وقالوا لي هذهِ المرّة إقصف منزل عبد الفتاح إسماعيل فقَصفته وحَرقته، فاعْتقلوني وحَكموا عليَّ بالإعدام.. يا سيدي أنا وظيفتي القَصف وتنفيذ الأوامِر.. فلماذا وِسام في القَصف الأول، وإعدام في الثاني، العِلم عند الله؟”.

 ***

تذكّرت هذهِ المُفارقة التي تتجسّد في قِصّة ضابِط المدفعيّة (لا أعرف ما إذا كان قد جرى تنفيذ حُكم الإعدام فيه أم جرى تخفيفه)، وأنا أُتابع الأحداث الأخيرة التي وَقعت في عدن، وتَمثّلت في سَيطرة قوّات “الحِزام الأمني” التّابِعة للمجلس الانتقالي الانفصالي بقِيادة السيد عيدروس الزبيدي على مُعظَم مدينة عدن وجِوارها في أقل من يَومين، وهُروب بعض وزراء الحُكومة بالزّوارق إلى جيبوتي تمامًا، مِثلما فَعل بعض وزراء وقادة جيش الرئيس علي ناصر محمد في الفترةِ المَذكورة آنِفًا.

الاشتباكات الدمويّة بين قوّات المجلس الانتقالي وقوّات الحُكومة الشرعيّة التي أدّت إلى مَقتل 38 شخصًا وإصابة 220 آخرين توقّفت بعد تدخّل الجِهات الدّاعِمة لها، السعوديّة في حال قوّات الشرعيّة، والإمارات العربيّة المتحدة في حالِ قوّات الحِزام الأمني، ولكنّها، وحسب مُعظم العارِفين ببواطِن الأُمور تَظل “هُدنةً” هشّة، لأن الانفصال باتَ حتميًّا ووشيكًا، والأسباب والذَّرائِع يَصعُب حَصرها.

لا نفهم لماذا يتدهور الأمن، ومَعه الظُّروف المعيشيّة في مدينة عدن، وباقي مُدن الجنوب الأُخرى، طالما أنّها نظريًّا وعمليًّا “تحرّرت”، وباتَت تَخضع لسَيطرة تحالُف يُعتبر الأغنى عربيًّا وعالميًّا، ويَملُك أحدث الأسلحة وعشرات الآلاف من القوّات من حواليّ عشر دول عربيّة، وهذا غير عناصر مُرتزقة “البلاك ووتر” القادِمين من مُختلف أنحاء العالم.

أن يشتكي اليمنيون الذين يتواجدون في مناطق يُسيطر عليها “تيّار أنصار الله” الحوثي من غلاء المَعيشة، والجُوع، وعدم صرف الرواتب لأكثر من عام، فهذا مَفهوم ومَنطقي في ظِل الحِصار الذي تتعرّض له هذهِ المناطِق، ولكن أن يَشتكي سُكّان مناطق “مُحرّرة” تُشكّل 85 بالمِئة من أرض اليمن، مِثلما يقول لنا إعلام التحالف ليل نهار، ومُنذ عامين على الأقل، فهذا ما لا يُصدقّه عقل، ولا يَستقيم مع أيِّ مَنطق.

الرئيس “الشرعي” عبد ربه منصور هادي نقل المصرف المركزي ومَقر حُكومته من صنعاء إلى عدن باعتبارِها الأكثر أمنًا واستقرارًا، ولكن كيف يُمكن أن يُفسِّر لنا اقتحام مُعظم القواعِد العسكريّة، ومُحاصرة السيد أحمد عبيد بن دغر، رئيس الوزراء، وبعض أعضاء حُكومته في قَصر المعاشيق في مدينة كريتر المُجاورة؟ فإذا كانت الحُكومة وجَيشها لا تَستطيع حِماية رئيسها، فكيف ستُوفّر الحِماية للشَّعب اليمني؟ وتَحظى بِدَعمِه واحترامِه بالتَّالي؟

إنّها حَربٌ بالإنابة بين ضِلعي تحالف عاصفة الحزم، الرئيسيين، السعوديّة ودولة الإمارات، انفجرت بسبب خِلافات طَفا بعضها على السَّطح في الأسابيع الأخيرة نتيجةً لعوامِل عديدة أبرزها تحالف الأولى، أي السعوديّة مع حِزب الإصلاح، وتَبنّي الثانية لجَناح الرئيس علي عبد الله صالح في حِزب المُؤتمر، ورَغبتها في دَعمْ المجلس الانتقالي الذي أسّسته ودَعمته وصولاً إلى إعادة قِيام دولة الجَنوب “المَدنيّة”، غير الإسلاميّة الطَّابَع.

الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، هو أول رئيس لليمن المُوحّد وآخره، والسيد علي سالم البيض هو آخر زعيم لدولة اليمن الجنوبي “المُوحّد” بالشَّكل الذي قامَت عليه بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني عام 1967، هذهِ هي الحقيقة الأبرز التي يُمكن استخلاصها بين رُكام هذهِ الحَرب.

 ***

 من اللّافِت أن رئيس اليمن المُوحّد، و”الشَّرعي” (هادي) جنوبي، وكذلك رئيس الوزراء (بن دغر) ومُعظَم أعضاء الحُكومة من الجنوبيين أيضًا، ولكنّهم جميعًا لا يَحكمون عَمليًّا يَمنًا مُوحّدًا على أرض الواقِع، وإنمّا خَريطة نظريّة، وبـ “الروموت كونترول”، أي عن بُعد.

مُعظَم أهل الجنوب اليَمني لا يُريدون حُكم يَمن مُوحَّد، وإنّما جنوب مُنفصل، ووفق اعتباراتٍ قبليّة ومَناطقيّة، ومِثلما أسّست بريطانيا دُولاً فوق آبار نِفط في الخليج، فإن هذهِ الأزمة ستتمخّض عن دُولٍ وأعلام على طريقة المُدن الرومانيّة المُتناحِرة، وقد تَلعب عدن دَور “بيزنطة” في أفضل الأحوال.

صديق يمني من أهل الجنوب، ومُؤيّد للانفصال، قال لي بمرارة أن الوَضع صَعبٌ ومُخيف، ولا شَيء يَربط عدن بلحج والضالع وحضرموت والمهرة، وإن وجدت هذهِ الرَّوابط فهي ضعيفة، وهشّة، وسيكون للقِوى الخارجيّة المُجاورة الدَّور الأبرز في وَضع شَكل الإعلام، ورَسم خريطة الحُدود والتَّحالفات، فهذه “السَّلطنات” سَتكون محميّات تحتاج إلى حِماية وتَمويل خارجي، فدُول الجِوار، والسعوديّة خاصّةً، لا تُريد يمنًا قويًّا مُوحّدًا، وإنما تُريد يمنًا مُجزّءًا ضَعيفًا جائِعًا.

فإذا كان المُواطن اليمني الشمالي يَحتاج اليوم تَصريح وكفيل لدُخول عدن، مِثلما تقول بعض التّقارير الصحافيّة، فإن ابن عدن قد يحتاج إلى تَصريحٍ مُماثِل لدُخول دولة حضرموت، أو دولة المهرة، أو العَكس، ناهيك عن دُخول صنعاء أو صعدة أو عمران.

اليمن يَتمدّد حاليًّا على طاوِلة التَّفتيت، فلا “عاصفة الحزم”، التي تَدخل بعد شَهر عامَها الرابع، أعادت الأمل والشرعيّة، ولا الشرعيّة استطاعت تَوحيد اليمن أو مُعظَمه خَلفها.

أحداث يناير عام 1986 كانت علامةً فارِقة في تاريخ عدن ودولة الجَنوب، وأسّست للوِحدة اليمنيّة، اتّفق البَعض معها أو اختلف.. واشتباكات الأمس الدمويّة بين قوَّات الشرعيّة وغَريمَتها الحِزام الأمني أسّست للانفصال، وقِيام دولةِ عدن الكُبرى، والمَسألة مَسألة وَقت وتَوقيت.. والأيَّام بَيننا.

المصدر: رأي اليوم

زر الذهاب إلى الأعلى