العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. عقد قراني وتناقضاتي

يمنات

أحمد سيف حاشد

بعد أن كاد اليأس يدركني، تفاجأت أن أم الفتاة قد حسمت قرارها لصالحي، و رتبت أمور العقد على نحو لا يؤثر فيه غياب ابنها الذي كان يفترض أن يتولى أمر العقد .. بدت الأم و هي تدير الأمور من خلف جدار كأنها شجرة الدر .. أسندت لأخيها إدارة جلسة العقد، و كان خلف الزمام، زمام تمسك به سلطة الأم القوية .. فيما أسندت لابنها الأكبر غير الشقيق اتمام العقد .. بدى لي أن الأم قد حققت إجماعا من الرضى و القبول لدى كل أفراد الأسرة، باستثناء ابنها النافر و الغضوب .. هكذا خمنتُ الأمور، أو بدت لي على ذلك النحو.

بدأ خال الفتاة يدير جلسة العقد، و حدد ما يتعين دفعه بثلاثة عشر ألف شلن .. كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمن نصع النصع .. إنه نفس المبلغ الذي أملكه بعد أن راكمته في حساب توفير بريدي خلال فترة ليست بالقصيرة .. استغربت على تحديد هذا المبلغ، و كيف تطابق مع رقم المبلغ الذي أملكه و لم أبح به لأحدا غيري..!! هل هي الصدفة، فيما الصدفة نادرة و تصير أحيانا مثل المعجزة..؟! لماذا هذا الرقم بالتحديد و ليس غيره..؟! هل لديهم شياطين أخبروهم بما أذخره على وجه الدقة و التحديد..؟! هل قرأوا أفكاري..؟! ما قصة هذا الرقم..؟! رقم 13 هذا يحيرني فضلا أنه يثير قلقي و توجسي، و زائد على هذا هو رقم معروف بشؤمه لدى عدد من الشعوب و المجتمعات..

كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمطرقة هوت على رأسي .. حاولت أن أبدو متماسكا دون فائدة .. بديت لبرهة أشبه بمصعوق، ثم صرتُ شارد الوعي في تيه بعيد .. ظهر على وجهي كل شيء أردت مداراته عن العيون .. حتى الطفل الذي لازال حديث عهد في النطق و التهجّي صار بإمكانه أن يقرأ اللحظة في وجهي بسهولة شرب الماء..

حاولت بصوت خفيض مثقلا بالحياء أن أطلب إعادة النظر في المبلغ، فبدى لي الأمر غير قابل للنقاش .. لا توجد مساحة أو هامش لمن يدير الجلسة .. “رفعت الأقلام و جفت الصحف”.. قُضي الأمر و أنتهى .. حتى القانون العسكري “نفذ ثم ناقش” لا يتم العمل به هنا .. كلما فعله الخال الطيب هو شرح التفاصيل التي لا تغير من واقع الأمر غير اضافة ما كان محسوبا أيضا أن تكون عليّ تكاليف حفلة “الصبحية” و عليهم تكاليف حفلة الدخلة أو ليلة العرس..

كنت أريد أن أضيف جملة في مجلس العقد و هي: “لستُ بخيلا و لكن الحيل مهدود” و هو قول بدا لي لاحقا إنه مجازف و ربما تكون كُلفته فادحة .. ربما ينقلب الأمر على رأسي .. ألتقط اللحظة الحرجة ابن عمي عبده فريد و كان محقا .. وافق سريعا، و لملم الأمر بحنكة، و لم يترك فسحة للشيطان، و الحقيقة لا أريد أتهم الشيطان الذي أفتريه .. إن مضيتُ فيما فكرتُ فيه لكان كل شيء أنتهي إلى زوال، و آل إلى حزن وخيم .. لو حدث مثل هذا كنت سأنزل على نفسي عقاب جم، و ندم يرافقني إلى آخر العمر، و لن أسمح لنفسي في الحديث حتى في يوم العيد.

تم الأمر على هذا الإنقاذ المتدخل كقدر حسن، و تم العقد على المعتاد .. سمعتُ زغردة الفرح تنتشر من أمكنة البيت، و كانت أول زغردة فرح في حياتي أفسدها هم ثقيل و حيرة خانقة، و غصة سؤال تقول: من أين..؟!! ما العمل لإكمال مشوار الزفاف..؟!! أحتاج إلى سحر و ساحر، أو قدر يقول للشيء كون فيكون..؟! أحتاج إلى رحلة مضنية أخرى لأتمكن من جمع مبلغ يقارب المبلغ المدفوع أو دونه بقليل لأتم الزفاف، و الانتقال إلى بيت الزوجية..

بديت في لحظة أكثر من مربكة أعتب فيها على نفسي و أقرّعها:

– أنا طالب فاشل جدا في الحساب .. ضعيف جدا في الاقتصاد .. حديث عهد و تجربة في شؤون الحياة .. عديم الخبرة في شؤون المقبلين على الزواج .. استصعب مراكمة النقود على نحو يفوق التصوّر .. لا أدري كيف ستكون النتيجة..!! هل سأصل إلى يوم الزفاف أم إن الخيبة القاتلة ستحل محلها، و محل من أحب..؟!!

صرتُ أرزح تحت واقع ثقيل، و مُرغما على التعاطي معه .. أحسست أني و القانون نعيش مأساة واحدة .. يومها كانت الوحدة تطرق الأبواب، فيما كثير من الحقوق باتت أكثر من أي وقت مضى مهددة بالانتقاص و النيل..

طلبتُ عند العقد مهلة ثلاثة أشهر، غير أن هذه المهلة وجدتها في الواقع لا تكفي بأن أكون جاهزا لأصل إلى ليلة الزفاف، و إن ضربتُ على تبذير اليدين قيدا من حديد..

تذكرتُ أن لي أم حنونة في القرية تحبني إلى درجة لا تصدّق .. لن تبخل من أجلي بروحها إن طلبته منها .. أمي التي فدتني بعمرها في كل مرة .. أمي التي صبرت لأجلي و تحملت ما لا تطيقه أثقال الجبال .. فكانت وجهتي الأولى إليها..

أمي التي لطالما ألحّت هي عليّ بإتمام نصف ديني، فجاء الوقت لأطلب غرمها في الدين .. نصف ديني الذي ظننته أيسر من اليسر كان ثقيلا يفوق الاحتمال .. ليس آية من القرآن أو خاتم من الحديد، فالواقع كان أكثر ثقلا وجهما و شراسة في وجه خيالي الحالم، و الشطح في البعيد..

أمي التي ظلت تهتم لأمري و نصف ديني سنوات طوال آن لها أن تساهم، ناولتني ما كانت تملكه و تحتاط به للزمن .. ثلاثون جرام من الذهب “شعيرية” .. مهرها و مكسبها الذي خزنته لفرحة كهذه أو لأيام الشدة التي قد تداهمنا دون إنذار .. فرحت أمي لفرحتي حتى كادت تطير .. الحلم الذي ظلت تنشده أكثر من عشر سنوات صار ممكن يقترب..

أمي أيضا بثت في أبي روح التعاطف و المساعدة فساندني أيضا بسخاء .. أقبل إلى بيت أهل الفتاة التي عقدت عليها .. بدى كريما و لطيفا، بل و قالوا عنه أيضا أنه أجمل مني .. بعد هذا و ذاك بدى تحقيق حلمي يطرق باب الممكن و القريب .. و على إثر هذا أهديت حبيبتي أغنية الفنان نهاد طربية (بدنا نتجوز عالعيد) و كنت أقصد الزفاف..

شهدتُ في المدة بين العقد و الزفاف صراع محتدم و عنيف في داخلي بين الشاب المتحرر و المتفهم للحياة، و الكهل المتخلف الذي اكتشفت أنه كان نائما داخلي .. صراع بين ثقافتين، تلك التي تشربتُ منها التحرر و التثقف، و تلك التي تثقل كاهلي و هي موروثة من عهد غابر و بعيد .. أحسستُ أن هذه الأخيرة كادت تفجر رأسي الذي سيتطاير بسببه كشظايا قنبلة..

بدت الغيرة الشديدة غير المبررة تجتاحني كطوفان نوح لأتفه سبب عابر دون قصد .. تفاصيل ماضيها أريد أن أعرفه بحذافيره ابتداء من اليوم الذي بدأت تعرف نفسها فيه .. حتى يومياتها غير المكتوبة أريد أن أعرف ما بين السطور..!! أريد التفتيش كشرطة الفكر في ذاكرتها الحية و ذاكرتها المعطوبة .. أريد معرفة كل شاردة و واردة و تفصيل كان في الماضي أو الحاضر .. أريد أن أعرف حتى التوافة .. بديت أمام نفسي أكثر من رجل مريض.

صرت غيورا على نحو مجنون .. أريد أن أستحوذ عليها باستغراق مستبد .. أريد أن أتملكها من ألفها إلى ياءها .. بديتُ أمام نفسي أنانيا و متوحشا و شريرا .. أذكر أنها لبست قميصا يكشف بعض من ظهرها لتخصني فيه، فانتابتني نوبة جنون وصلت أعنّتها .. لم أكن أعلم أنني بهذه الدرجة من السوء..

تهديد أطلقته يوما بارتكاب جريمة قاتلة ضد أحدهم .. حبي بات يلج كل يوم أكبر من سابقه نحو الجنون المنفلت .. اكتشفت أن داخلي رجل بدائي يسكنني بعنفوان مجنون لم أكن أعلم به من قبل..

في المرحلة الثانوية .. مراهقتي الأولى .. كنت شخص آخر يتوق لانفتاح عابر للقارات .. انفتاح إلى حد كان صادما لأحد أصدقائي الأعزاء .. ربما الحرمان كان بعض صانعيه .. كانت لدي أفكار تتوق إلى ما يتجاوز حدود الأرض و السماء .. انفتاح كاد يكون بلا حدود، و بعد أن تخرجتُ من الجامعة و عقدتُ اكتشفت غول شرير مرعب نائم داخلي دون أن أدري..!! شعرت أم الفتاة للحظة أنها زوجت ابنتها لشيطان لا لبشر..!!

كان يسكنني أيضا في نفس المكان طفل .. غاية في البراءة .. صادق إلى أبعد الحدود .. خالي من عُقد الحياة .. متحرر من كل موروث .. طفل لم يتلوث بعد بعقد الكبار .. ينفجر بالبكاء لموقف بسيط..

كان يسكنني أيضا شخص يفرح و يطير لأبسط دواعي الفرح .. تسيح عيونه بالدموع لأبسط مشهد مؤثر .. يبكي بحرقة دامية و هو يقرأ قصة أو رواية أو حتى و هو يشاهد فلم كرتون .. أحيانا يحتاج لأن يجهش بالبكاء؛ فينعزل و ينفجر بالبكاء في وحدته ليفرغ ما فيه جوفه من حزن ثقيل يهد الحيل..

كنت أتناقض مع نفسي .. كانت نفسي مشحونة بتناقضاتها الكثيرة .. كنت أشعر أنني في ساحة معركة بل أشعر أن في داخلي صارت ألف معركة .. غير أنني كنت أطمئن و آنس إلى ضميري .. هو الحكم الذي أسلم له رايتي .. أنقاد بعده بأمان و ثقة .. هو إمامي و الحادي و الدليل ..  دليلي الذي أعتمد عليه في حل تلك التناقضات التي تعترضني و تهدد عقلي و تفكيري و سلامة الحواس .. كان و لازال ضميري ضامنا و حاضرا في حياتي حتى و إن تأخر بعض الوقت، أو وقع في غفلة أو لحظة حمق لا تدوم..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى