العرض في الرئيسةفضاء حر

هروب وعودة !

يمنات

أحمد سيف حاشد

هربتُ إلى دار “الشناغب” دار جدي ـ والد أمي ـ الذي يبعد عن منزل أبي بحدود خمسة كيلو مترات، ويقع في منطقة محاذية لحدود دولة الجنوب.. هو دار حربي في أعلى أحدى الجبال متوسطة الارتفاع، ولم تكن توجد منازل في ذلك الجبل غيره، أو قريبة منه، ولكن توجد منازل في بعض الجهات المقابلة له..

في الجوار الملاصق للمنزل خزان ماء أرضي، وفي الدار كُوَّاتٌ، وشقوق طولية ضيقة، يمكن استخدامها في المراقبة، واطلاق النار من البندقية إلى الخارج، حيث تسمح بمرور ماسورة البندقية إلى الخارج بقطاع وزاوية معنية.. ويبدو إن هذا الدار قد شهد شيئا مما خصص له في زمن خلاء.

جدّي سالم مانع والد أمّي كان يملك أيضا دار أخر، وقد قطن هذا الدار في عهد طفولتي، وسكنت أمي فيه لفترة ربما قبل مجيئي.. جدي هذا كان رجلا فاضلا ومسالما.. طيب القلب، ونقي السريرة، يقضي كثيراً من وقته في قراءة القرآن والتحدث في تفاسيره.. كان تقيا، ورعا، محبا، لا يحمل ضغينة، ولا يضمر شرا، ولم يعر بالا أو اكتراثا للسياسة، ومع ذلك دفع حياته لاحقا ثمنا لأفعال الساسة.

أقبل أبي بعد سويعات من هروبي.. رأيته من دار “الشناغب” دون أن يراني، رأيته يمتطي حماره الأبيض، كان حمار أبي يشبه الحصان، ووالدي يعتني ويهتم به كثيرا .. رأيت بندقية أبي مسطوحا أمامه، يبدو مستعدا لاستخدامها في أول وهلة يراني فيها، شعرت في مَقدمه شرا ونارا.. أنخلع قلب أمي الهاربة في بيت جدي..

خرجتُ مذعورا من الدار إلى الجبل نحو حدود دولة الجنوب، “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.. هنالك دولة ونظام لعله يتولَّى حمايتي، ولجم حماقة أبي.. ربما شيئا من هذا حدّثتُ به نفسي وانا أهم بالتوجه إلى الحدود عبر مسلك وعر..

خالتي مريم أخت أمي أبلغت والدي أنني خرجت من الدار وهربت؛ كانت خالتي قوية الشخصية.. صارمة وحازمة.. تجيد الاستبسال، والمواجهة، والتحريض أيضا، وقراءة كتاب الرمل وفك طلاسمه، والتعاطي معه بما ترجوه..

أدرك أبي وجهتي، واستطاع الإسراع بحماره إلى الجانب الجنوبي الغربي من الوادي، ليقطع وجهتي، ويحول دون وصولي إلى الحدود.. أشهر بندقيته ووجهها نحو الجبل، فيما أنا كنت قد أختبئت خلف نتوء صخري في كنف الجبل حالما شاهدته يحاول قطع طريقي.. وبعد طول تفاوض مع خالتي مريم، ورجال خيريين من عابري السبيل، التزم أبي بأن لا يؤذيني، مقابل أن أعود إلى بيته.

طمئنني الجميع أن الأحوال ستكون على ما يرام، ولن يحدث لي أي مكروه؛ والدي تعهد أمام من شهد الموقف ألا يلحق بي أذى أو انتقام، نزلت من الجبل بعد ما يشبه عملية تفاوض قادته خالتي من جهتي، وعاد أبي وهو يبلع غيظه، مستشعرا بعدم الرضا؛ لأنه لم يشبع إنفعاله، ولم يشفِ غليله الفوار..

عدتُ بموكب يحيطني.. كانت بعض النسوة وأختي من أمي هناء إلى جواري يرافقن عودتي وخمسمائة متر تفصلنا عن مسير أبي وحماره.. كان أبي ينتظرنا في كل منعطف حتى نقترب منه.. بدأت المسافة مع السير تضيق وتضيق.. وعندما بلغنا منطقة تسمى بـ: “سوق الخميس”، لم يحتمل أبي أن أسجل عليه ما بدا له انتصاراً، استفزه منظري الذي بديت فيه المنتصر، وساورته الريبة بأنني أُشمت به، وأنال من سلطته وسلطانه..

لم يحتمل أبي ما جاس في صدره، فثار غضبه.. تمتم بالسباب المنفعل، وصوّب بندقيته بانفعال نحوي، حمتني النسوة بأجسادهن؛ وتعالى الصراخ والذعر.. تدخل المارة، وكل من كان على مقربة منّا؛ وانتهت الجلبة حينما قطع أبي على مضض عهدا آخر للناس بألا يُلحق بي سوء أو ضرر، وبر هذه المرة بوعده، ولكن على كره ومضض..

لم يطق ابي أن يشاهد ما تصوره انتصاري المستمر عليه، وحتى لا ينكث عهدا قطعه مرتين أمام مشهد من الناس؛ أعادني إلى منزلنا القديم الذي كان يسكنه أخي علي، وليس إلى منزلنا الجديد الذي يقيم فيه..

عاد أبي بعد أيام ليتصالح مع أمي وأهلها، ثم عدت إلى بيت أبي من جديد في حضرة أمي التي ندمت أشـد الندم على ما حدث، وعلى تركها لي أياماً كنت خلالها أحوج ما أكون إليها بجانبي..

ومر العيد بسلام بعد أن كاد يتحول إلى ميتم أو مجهول.. وكنت أنا السبب الأهم في استمرار زواج أبي وأمي، رغم المشكلات والخطوب المتعددة التي مرت وأفلتا منها بأعجوبة تشبه المعجزة..

***
يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى