أرشيف

في مديح بوح الضحايا

يمتد أثر الاغتصاب على المرأة حتى آخر عمرها، وفيما يذهب الجاني مشبعا بغروره وقسوته فرحا بوحشيته وقدرته على الإيذاء؛ يبدأ حزن الضحية وألمها بلا نهاية، وكأن التجربة خطت فيها عاهة روحية لا تنتهي إلا بنهاية الحياة، ولذلك انتحرت ضحايا الاغتصابات في الحرب العالمية الثانية كي يهربن من وقع الألم حسبما ذكرت أمل الباشا، ولذلك اتفق الجميع على ضرورة محاربة الصمت، وأهمية أن تطلق الضحايا صرخاتهن كمحاولة للخلاص من بشاعة التجربة وعنف الألم الذي يتجذر في أعماقهن ولا ينتهي بمرور الوقت، بل ربما يزداد وقعه سوءا، كما أكدت سهى با شرين.

مناسبة الاتفاق هي اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة الذي يصادف السادس والعشرين من كل عام، لكن الذين اتفقوا على محاربة ذلك الصمت كانوا أمام حكاية موثقة بالدموع والألم، ومروية بأعوام من الكبت والشعور بلا جدوى الحياة بعد دقائق سرق فيها الجناة ما يشاءون من أجساد ضحاياهم، وتركوهن لموت بطئ، ووحشة خانقة، فلا هم نجوا من وحشية أنفسهم، أو ملئوا فراغ مشاعرهم بمتعة حقيقية، ولا أسلموهن أذاهم وبطشهم.

والحكاية كانت فلما وثائقيا عرضه منتدى الشقائق العربي لحقوق الإنسان في جلسة تعاون بينه وسفارة مملكة هولندا أمس الأربعاء بتلك المناسبة.

الفلم يستكشف أثر الصدمة والمحنة التي لاقتها من شاءت أقدارهن من نساء وفتيات الكونغو اللواتي وقعن وسط المعارك فدفعن أبهظ الأثمان، وسيدفعنها طويلا ما دام المجتمع لا يرحم الضحية أو يمنحها فرصة للخلاص، بل ويظل يلقي عليها اللوم ويجلدها كل وقت لأنها الطرف الأضعف دائما.

قتلت الحرب في الكونغو أكثر من 4 ملايين شخص، وخلال نفس الوقت، انتهكت الحرب عشرات الآلاف من النساء والفتيات عبر خطف والاغتصاب والتشويه والتعذيب على أيدي جنود جميع الميليشيات، بل والجيش الكونغولي نفسه الذي كان يفترض به أن يحمي المدنيين والأبرياء، لكنه نفذ مع جميع المتقاتلين إحدى أسوأ جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية في التاريخ.

 يبرز في الفلم مجموعتين من المغتصبين من جنود الجيش الكونغولي يؤدون اعترافهم في عدد من الجلسات التي نفذت بإمكانيات بسيطة، فيما تروي النساء قصصهن بأقصى ما يمكن إدراكه من الألم، وعلى خلفية سرد إحداهن تذهب إلى الشاطئ لتغتسل بعنف تحاول به موازاة ما تعرضت له من انتهاك، وبكل ما أوتيت من قوة تفرك جسدها كي تطهره من رجس الرجال العابثين، وتلقي نفسها في الماء كي تتطهر أكثر، لكنها تتنهد بعمق وتعود لسردها المصحوب بإشارات للمواضع التي عبث فيها الغاصبون كأنها تشير إلى نصال ما زالت مغروزة في شتى أنحاء جسدها، ولا قدرة لأحد على انتزاعها.

خلفية الفلم ليست أكثر من مشاهد البؤس والفقر التي تعيشها الكونغو.. بيوت الصفيح، وأكواخ متهالكة وأطفال يرتدون أسمالا ويلعبون في الشوارع والأزقة بلا هدف كأنهم ولدوا للعب، وبين الفينة والأخرى مشهد لامرأة تجلب الماء بآنية متسخة وكبيرة على رأسها الصغير من منابع لا تشي بقليل من النظافة، وكل شيء يوحي بالفاقة والحرمان، وإن كانت الأرواح طيبة كما ينبغي ولا ينقصها أكثر من محاولة البوح بالألم الذي صنعته حرب ستظل رائحة بارودها ممتدة طالما ليس ثمة مبادرة للتسامح أو تحقيق عدالة انتقالية تنتصر للجميع ضحايا وجناة، وتخلصهم من قسوة الماضي بلا رجعة، أو تطمئنهم على الأقل بمستقبل لا حروب فيه ولا ضحايا.

مكن الفلم عشرات النساء من البوح كي يكسرن قسوة المجتمع عليهن، ذلك المجتمع الذي لم يزل يشير إليهن على أنهن سبب الانتهاكات التي تعرضن لها، ويقول بلسان بعضهم أنهن كن سببا في ذلك لأن ملابسهن فاضحة أو ما شابه، فيما لا تدل ملابسهن سوى على الحرمان، كما أن بين الضحايا فتيات ليس في أجسادهن ما يثير أو يلفت الانتباه أكثر من نحولة قاسية، وملامح مستكينة وطيبة حد انفطار القلوب عليها، ويكفي منظر فتاة جلست على الحصيرة تروي قصتها بدموع لم تتوقف حتى بعد نهاية الحكاية، وأصابعها تتشبث بالحصيرة هربا من الكاميرا، فيما أقرانها أمام الخيمة يلعبون ويبتهجون لأنهم ذكور، ولأن أحدا منهم لم يعرف ما عرفته زمن الحرب.

كيف يتسامح العالم مع مثل هذه الجرائم.؟ ومن يقدم العزاء للضحايا؟ فالاغتصاب المنظم لا يلقي ببشاعته على الضحية وحسب، وإنما يذهب أبعد من ذلك، ويكفي شهادة اللجنة الدولية للصليب  الأحمر على ذلك: "ففي أوج احتدام النزاع في الكونغو، كان الاعتداء على النساء وسيلة لإرهاب مجموع السكان المدنيين بهدف إجبارهم على الفرار واحتلال الأرض. واليوم فإن أعمال العنف الجنسي مثل الاغتصاب تقترف بالأحرى كامتداد لأعمال النهب. ويظل ذلك يحدث في ظل سياق من بقاء المجرمين بمنأى عن العقاب، ولا يزال تماسك المجتمع المحلي يتضرّر بالقدر نفسه من جراء ذلك. ويتم تطليق نساء كثيرات إذ يُنْظر إليهن كخائنات أو حاملات للموت ربما كان مرد ذلك الخوف من الإيدز ولكن هناك أيضاً أحياناً الاعتقاد بأن لبن الأم قد صار مسمماً، أما عن الأزواج أنفسهم فينتابهم شعور عميق بالعار.

وتقول دراسات ووثائق الأمم المتحدة: «إنَّ من بين كل ثلاث نسوة في العالم تتعرض واحدة على الأقل في حياتها للضرب أو الإكراه على الجماع أو لصنوف أخرى من الاعتداء والإيذاء، ولا يمر عام إلا وتتعرض الملايين من النسوة للاغتصاب على أيدي الأخلاء أو الأقرباء أو الأصدقاء أو الغرباء أو أرباب العمل أو الزملاء في العمل أو الجنود أو أفراد الجماعات المسلحة!!ٍ".

الجدير بالذكر أن الشقائق وقع اتفاقية دعم وتعاون مع مملكة هولندا بخصوص مناهضة العنف ضد النساء والأطفال، يتضمن المساعدة القانونية والنفسية والطبية لضحايا العنف في إطار برنامج وطني يشمل كافة المحافظات اليمنية.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى