أرشيف

الرئيس صالح وانتظار معجزة البراءة الكبرى!

هي “براءة للذمة” لليس الا، بتعبير الرئيس علي عبدالله صالح نفسه.. ولأنها كذلك فان ما يليها اما ان يكون سعياً للتنصل من تبعات الماضي، او على الاقل طي صفحة سوءاته واسدال الستار على اخفاقاته، بحسنة الخطوة الاخيرة التي لا تعدو الانسحاب الآمن، اما ان يكون استكمالاً لمسلسل “ثلاثة وثلاثين عاماً في الحكم” بمشهد نهائي يناسب سيناريو كتب على طريقة الكوميديا السوداء، او التراجيديا المضحكة، وذلك بالامعان في طلب البقاء “المخيف” والتشبث به.


عبد الله السالمي


[email protected]


ويبدو ان المسار الثاني هو الراجح حتى اللحظة، فيما الاول مسار مرجوح يرجحان غالب، قد يصيره تعاقب الليالي والايام رجحاناً تاماً، اللهم الا في حال حدوث معجزة حقيقة الاولى بالرئيس صالح ان يفاجئ بها الجميع، ويسقط بها كل الرهانات التي سددت على انه لا ولن يفعلها.


السياق الزمني


من قبل وصف الرئيس صالح في خطاب له نهاية الشهر الماضي ثماني نقاط كلف عدداً من رجال الدين كوسطاء يتبليغها المعارضة (احزاب المشترك) بانها اخر طلقة كانت في حزامه.. وقبل ايام لم يجد عدا ذلك الوصف براءة للذمة عنواناً لمبادرة من عدة نقاط المهم فيها، اكثر من اي شيء اخر، انها اثبتت ان حزام الرئيس لم يخل بعد من الطلقات، انما السؤال الى اي مدى يمكن ان تصيب او تخيب؟ اذ لا تتأتى الاجابة الا من خلال التأكد من تاريخ تلك الطلقات وما اذا كانت منتهية الصلاحية،او تالفه، او تعرض بارودها لبلل او ما شابه، فغدت فاسدة غير قابلة للاشتعال، ام العكس؟


الامر لا يتطلب الاقتراب من حزام الرئيس صالح لتفقد طلقاته تلك، ما اطلقه منها وما لم يزل، فمن ذا يستطيع القرب منه سوى مريدين لا يحسنون الا عبارات المديح، وان ما يقوم باطلاقها من مبادرات- وحتى الذخيرة الحية والمطاطية وما همو اصغر منها واكبر- لا تخطيء اهدافها على الاطلاق، غير ان ثمة ما هو ادعى لانتهاجه في الحكم عليها طلبا للوقوف على موقعها بين “صابت” و “خابت”.. وهنا تظهر جلياً حقيقة انه ليس مهما ما انطوت عليه مبادرته الاخيرة “براءة الذمة” لم تكن على شيء من ذلك، وانما جاءت متأخرة، والمشكلة ان ورودها المتأخر، لا يصدق عليه ان تأتي متأخراً خير من ان لا تأتي وانما سبق السيف العدل..


رجحان الكفة


لا احسبه من المفيد في شيء ان اثقل على هذه المساحة بسرد ما تضمنته مبادرة الرئيس صالح “براءة للذمة”.. انما من الطريف الاشارة الى ان مجرد بلورة مقدماتها النظرية والعملية تتوقف على شرعية غائبة. ذلك انها تتكئ على مجلس نواب قوام شرعيته توافق لم يعد قائماً.


اما وقد تم التأكيد على ان الشعب هو المعنى بها وليس المعارضة، فانه وعلى الرغم من كونه يعود في الشرعية الى الاصل، وهو على المستوى النظري سلوك صائب، الا ان صدق احتكامه لما يفضي اليه هو الاهم، ذلك ان الايام التي تلت المبادرة اياها لم تتكشف الا عن كل ما يرجح كفة الشارع الذي تجاوزت مطالب المعتصمين فيه كل تلك المبادرات، وبدأ انها لا ولن تقبل بسوى رحيل النظام.


ولن يكون مجدياً التقليل من اعداد المطالبين باسقاط النظام المعتصمين في ساحات التغيير والحرية بصنعاء وعدن وتعز وحضرموت واب وسائر محافظات الجمهورية، فتكاثرهم يوماً بعد اخر مما لا يمكن ان تخطئة عين، وكما لا يمكن ان تسفر الاعتداءات المتكررة عليهم الا عن مزيد من التعاطف معهم والانضمام اليهم، فان ما تتبدى عليه الساحات من تزايد وتكاثر لحشود يجمعها شعار الشعب يريد اسقاط النظام لهي بمثابه استفتاء شعبي يتوجب على الرئيس صالح ان يتعاطى معه بشجاعة، يؤكد معها انه، بالاضافة الى احترامه لخيارات الشعب مهما جاءت صادمة له، وعلى النقيض من رغبته، حريص على الظفر بخاتمة تليق به.


ليس سهواً


بدأ مستحكماً على الرئيس صالح هاجس ان يظل رئيساً.. لقد اكثر من تردد مقوله ان رحيله عن الحكم لن يكون الا عبر صناديق الاقتراع، في الوقت الذي يردد فيه انه غير متمسك الا بما تبقى من فترته الرئاسية التي تنتهي- بحسبة انتخابات العام 2006- في العام 2013، بما يعني ان رحيله حتمي، وان المنافسة لن تكون بينه والذي يخلفه، وانما بين اثنين سواه.


دلالة ان الرئيس صالح لا يريد ان يتفهم هذه الجزئية على قدر كبير من الاهمية. واحسب ان مبادرته الاخيرة براءة للذمة لم تخل سهواً مما يشير الى مغادرته في العام بعد القادم، بل قد يكون تعمدها، وربما ظن ان الانتقال الى الحكم البرلماني بحيث تنتقل كافة الصلاحيات التنفيذية الى الحكومة البرلمانية في نهاية العام 2011 وبداية العام 2012 كما في المبادرة اياها يكفي لضمان الحق في بقائه رئيساً بالوضع القائم خلال الشهور المتبقية من هذا العام، ثم رئيساً رمزياً بعدها.


هو اذا الجمع على طريقته بين الشعور بضرورة الاستجابة لمطلب تغيير النظام واحتفاظه بموقعه رئيساً ولو بصورة رمزية كحق تاريخي ظهر ان اكثر من ثلاثة عقود جمعتها معا قد الفت بينهما بشكل لم يتمكن معه من تصور امكانية الفراق عن تلك الصفة.


وكحل توفيقي ربما لم يستسغ الرئيس صالح سوى فكرة ان يؤول به الحال الى رئيس غير تنفيذي، ظناً منه انه استجاب لاحزاب المشترك- في ما تضمنته نقاطهم الخمس عبر عدد من المشايخ ورجال الدين، وذلك في الجزئية الخاصة بانتقال سلمي وسلس للسلطة في فترة لا تتعدى نهاية العام الجاري، وفي الوقت نفسه ظناً منه انه استجاب للمعتصمين في طلبهم اسقاط النظام على اعتبار انهم يقصدون اسقاط صفته كرئيس بالهيئة التي هو عليها الان، اما ما سيكون عليها في ظل نظام برلماني فلا.


العقبة الكؤود


على ان هناك ما هو اكثر اهمية في دوافع الرئيس صالح لان يظل محتفظاً بصفة الرئيس، ليس حتى العام 2013 وانما ابعد من ذلك، وان على شاكلة رئيس جمهورية في ظل نظام برلماني، ذلك ان بقاء قائمة طويلة من ابنائه وابناء اخيه واخوانه واقاربه، ومن تربطهم به صلة نسب وجوار، في مواقعهم السيادية مرهون ببقائه رئيساً، وقد يمكنه مغادرة كرسي الرئاسة بعد شهر او عام او اثنين في حال ضمن ان رحيله لن يؤثر سلباً على ما هم فيه من نفوذ وسلطة، بما يعني ان توقع سلبهم بعض الامتيازات ما لو اصبح رئيساً سابقاً كاف لاعادة النظر مرارً وتكراراً في مجرد التفكير بهجر الرئاسة.


لربما يبدو من الوضوح بمكان ان دائرة المسموح الخوض فيه تتسع نظرياً للمطالبة بتخلى الرئيس صالح عن منصبه رئيساً للجمهورية، غير ان المطالبة بتنحي تلك القائمة من اسرته واقاربه عن مناصبهم العسكرية والمدنية، بل ليس تنحيهم بالمطلق وانما زحزحتهم الى مراتب ادنى قليلاً، من دائرة المحضور التطرق اليه والخوض فيه، والمؤكد انه لا يغضب الرئيس شيئاً اكثر من الاقتراب من هذه الدائرة، والمؤكد ايضاً انه بقدر ما يعتبرها السر الاعظم في استمراريته رئيساً فانها الباعث الاهم على اذكاء مشاعر النقمة عليه وعليهم على حد سواء.


دائرة المحضور الخوض فيه تلك هي العقبة الكؤود اما تخلي الرئيس صالح عن سلطة قال انه سئمها- وطالما ردد انها مغرم وليست مغنماً.. وعلى افتراض انه قد يكون سئمها بالفعل فان من الوضوح بمكان انه لم يسأم تخيل خلفاً له من ذويه، كما لم يسأم الشعور ببره الواسع لاسرته والاقربين وكيف منهم من السلطة والنفوذ واغدق عليهم نعمة ظاهرة وباطنة.. فهل سيكون من السهل عليه الاستسلام لموجبات طرد ذلك الخيال وتقبل رؤية ان بره باسرته والاقربين لم يعد يقو على ضمان احتفاظهم بما حرص طويلاً على تقلبهم فيه وبقائهم عليه من النفوذ والنعيم؟


التلقي بالقبول


بقدر ما المبادرة تلك من وجهة نظر الرئيس صالح براءة للذمة فقد كشفت كم ان حباله طويله وان حبائله اطول، ومع جواز توقع انها لن تكون الاخيرة الا ان ورودها في سياق هذا العنوان براءة للذمة يعزز مخاوف انها بمثابة الانذار النهائي للمعارضة وشباب التغيير- وان بدرجات متفاوته تشتد حدتها على شاغلي مختلف الساحات- بما هو ابعد من تجاهل النظام لهما وغضة الطرف عن مسلك المعتصمين السلمي المطالب برحيله، الى انه سيتبنى مسارات يقصد بها كبح جماحهم وتضييق الخناق عليهم.


هذا ما توحي به براءة الذمة في جانب منها.. لا سيما وان التصعيد الذي تبعها على شاكلة الاعتداءات التي طالبت عدداً من المعتصمين في صنعاء وعدن وسواهما تجعل دلالتها على ان النظام سيمضي في تنفيذ ما تضمنته غير عابئ بما يعتمل في ساحات التغيير والحرية خياراً مرجوحاً، وان الراجح هو ان ما بعد براءة للذمة سيتجلى في هيئة العين الحمراء..


اما على جواز الاسراف في الذهاب وراء جمالية ما تختزنه مفردة براءة من الدلالة على الصفاء والنقاء فقد يمكن تصور ان براءة للذمة مقدمة للبراءة الكبرى من موقف او موقع سيحول التشبث به والاستماتة في البقاء عليه بين صاحبه وادراك حسن الخاتمة، بمعنى ان مبادرة الرئيس صالح الاخيرة التي لم تلق القبول، وهو الذي ظن انها كافية لتبرئة ذمته، تحتم عليه استبدالها بخير منها، تتوفر فيها مقومات تلقي الغالبية العظمى بها بالقبول، ولا شك انه على دراية بها، ولن يخطئ طريقها لو اراد.. وان هذا لهو البلاء المبين.


نقلا عن صحيفة الناس

زر الذهاب إلى الأعلى