فضاء حر

كلمتان عن الدكتور الشهيد وعن ما وراء الاغتيال

يمنات

1-
لدكتور محمد عبد الملك المتوكل هو خلاصة الخلاصة في المشروع الوطني المناضل، منذ أكثر من خمسين عاما، وبثبات لا يلين، في سبيل بناء “الدولة اليمنية” الحديثة.
كان في الطليعة بين مناهضي الحكم الملكي الذي توقف عن تلبية احتياجات مواطنيه وهبت نخبة مخلصة لتخليصهم منه، ولقد ظل في الطليعة أيضا بعد ثورة سبتمبر، ولكن لتصحيح ما انحرف من سبتمبر.
لم يبال بالتهم التي ما برح خصومه، وخاطفو حلمه وحلم اليمنيين، يرمونه بها عند كل مناسبة، أو أمام كل موقف وطني له، وظل في كل المنعطفات متمسكا بقناعاته، محافظا على سويته التي تصيبك بالحيرة، وتثير لديك ألف سؤال عن قوة الشخصية التي هو عليها، فلطالما قوبل بالتسفيه والتخوين والتكفير من قبل خمسة أنظمة جمهورية متعاقبة، ومن لدن ما هو معروف وغير معروف من تيارات الفساد والسطوة؛ ولقد ظل أمام كل ذلك محافظا على اعتداله تجاه الجميع، لم يفقد اتزانه يوما، ولم يعدل عن قناعاته أبدا، ولم يخرج به خصومه عن أطواره لحظةً، وأكثر من هذا ظل يتفهمهم ويقدم الأعذار والمبررات لهم ولفجورهم في الخصومة، أكثر من تبريرهم لأنفسهم.
لم يتربع منصبا حكوميا مع أي من حكام النظام الجمهوري الستة باستثناء الشهيد إبراهيم الحمدي الذي تولى في فترته الحالمة، منصب وزير التجارة، ولهذه الحقيقة دلالتها البالغة والتي لا تخفى على أحد.
اتخذ مسافة واضحة تجاه كل الحكام والرؤساء الذين عاصرهم، يتحكم بهذه المسافة لديه شيء واحد هو مدى قرب هؤلاء الحكام أو بعدهم عن قضية حياته، ومحور أفكاره، وقدس أقداس مشروعه: بناء الدولة.
“غياب الدولة” هو، بالنسبة للشهيد، جذر الغالبية الساحقة من مشاكل اليمنيين، وعلى هذا الأساس لم يتوقف يوما عن التنظير لإنجاز هذا المشروع، وعن دفع قيادات السياسة إلى وضعه كأولوية، وكاستراتيجية قصوى وعلى حساب متاهات العمليات السياسية الآنية والمرحلية.
غير ذلك، ولو قيل لي صف الدكتور المتوكل بجملة واحدة، لقلت هو “رجل يعيش قناعاته”. فما من قيمة عبر عن إيمانه بها إلا ومارسها وعاشها في حياته بتلقائية ودون تكلف أو تصنع. تجد ذلك في نمط حياته المتواضع، وفي شيء آخر أعتبره شخصيا من أهم إنجازاته التي قدمها لوطنه: أبنائه وبناته، فلقد خلف شهيدنا كوكبة هي الآن؛ بفضل وعيه واستثنائية انتمائه وعيشه للقيم الحديثة؛ من أفضل العقول المعرفية والمهنية والأكاديمية في اليمن: ريدان، قبول، انطلاق، رضية، إلهام. وهذا بالطبع غير ما لا يحصى من التلاميذ الذين تخرجوا على يديه، واتخذوه مثالا أعلى، وهم الآن موزعون على أنحاء الهم الوطني الواحد.
******
2-
هناك طرف فقد مصالحه وتهاوت مواقع قوته ونفوذه، فقرر أن ينتقم بأسوأ ما يمكن للانتقام أن يحدثه من ألم ووجع: اغتيال الدكتور محمد عبد الملك المتوكل.
هو انتقام ليس من “أنصار الله” الذين لم يكن الدكتور المتوكل من المنتمين لتيارهم في أي يوم، وإن كانت الحسابات “العنصرية” تصنفه كذلك، بل هو انتقام من كل اليمنيين الذين أخذوا يتفرجون على سقوط هذا “الطرف” ومغادرته حياتهم إلى الأبد؛ باحتفاء أو بحياد.
إذا وضعنا هذا الاغتيال في سياق واحد مع الاغتيالين اللذين طالا الشهيدين الدكتور أحمد شرف الدين والدكتور عبد الكريم جدبان؛ فإن النتيجة أن قاتلا “عنصريا” “طائفيا” يعمل وفقا لموجه “سياسي” وبمنهجية واضحة تهدف إلى تصفية عقول تيارٍ يتعامل معه (هذا القاتل) ككتلة سلالية موحدة.
أما إذا وضعنا الاغتيال في سياق منفرد وجديد، فإن القاتل/ المنتقم يبدو هنا كطرف واعي تماما بما يفعله، وإذ يضرب ضربته الجبانة هذه فإنه على إدراك كامل بأنه يقترب من إصابة العملية السياسية، أو ما تبقى منها، والأمل في استقرار الأوضاع، أو ما تبقى منه؛ في مقتل. ليكون بذلك قد ثأر من الجميع نزولا عند مبدأ “علي وعلى أعدائي”.
لم يكن الدكتور المتوكل “حوثيا” لكن الحوثيين سيصبحون بعد استشهاده “متوكليين”، بمعنى أنهم لن يمرروا الجريمة وهم يعرفون جيدا أن جانبا من أهدافها هو النيل منهم، ولا يمكن لأحد التكهن بما ستخلقه هذه الجريمة من رد فعل سياسي وأمني تاليا ل، ومترتبا على، الضرر المعنوي والنفسي الخطير الذي خلقته الجريمة ليس لديهم فحسب ولكن لدى قطاعات نخبوية وشعبية أخرى واسعة.
هذا بالنسبة لأنصار الله، وبالنسبة لبقية الأطراف السياسية فإن الدكتور المتوكل كان أحد أبرز قيادات تكتل اللقاء المشترك، واغياله يضع هذا التكتل الرئيسي في الحياة السياسية اليمنية؛ في وضع صعب للغاية، لا بما سيجدونه من التزام أخلاقي وسياسي تجاه جريمة طالت أحد شركائهم (فهم، في الغالب، متخففون من الأخلاق والالتزامات كما عرفهم الناس دوما، ولهذا لطالما عزف الدكتور الشهيد عنهم وعبر عن يأسه فيهم وفي فاعلية أدائهم)؛ بل لأن الجريمة ستضعهم وجها لوجه أمام ذلك النوع من الاستحقاق الذي على الضعيف أن يدفعه بعد أن يتلقى الصفعة تلو الصفعة، وهو المزيد من الخنوع، والمزيد من التواري خجلا، ليصبح خيار “الحوثيين” هو الأعلى وصاحب الكلمة، مسنودين بأخلاقية الدفاع عن النفس من وجهة نظرهم، وفي حال اعتدالهم، أما في حال ذهابهم في “الانتقام” إلى نقطة متطرفة، فسنشهد حالة من الأحادية العسكرية والسياسية تقضي على التعدد الشكلي القائم الآن، بكل ما هو عليه من هشاشة؛ لتذهب بعد ذلك إلى إنتاج تعددية بديلة تتطابق وتصوراتها هي للشراكة الوطنية.
سيلي الحوثيين في الهيمنة على الواقع؛ خيار الطرف الواقف خلف الاغتيال والساعي إلى تحويل حياة اليمنيين إلى جحيم “طائفي” و “عنصري”، متوسلا مثل هذه الجرائم بهدف إعادة “أنصار الله” دائما إلى تعريفهم “المذهبي” و “السلالي” كلما ظهروا في خطابهم وأدائهم السياسي متجاوزين لهذا التعريف، (وبما أن لا إمكانية لنشوء الحرب الطائفية المتصورة في ذهنه، فإنه سيظل يضرب ويضرب لتظل الدماء هي المسيطرة والمغيبة لكل مشهد غير مشهدها).
هذه على الأقل دواعي اعتبار الاغتيال الجبان عملية “انتقامية” تستهدف كل اليمنيين، فأي كان الذي سيتحقق من الاحتمالات المذكورة آنفا، فإن المتضرر منه سيكون كل اليمنيين، على أن الرهان على بقية “العقل” لدى اليمنيين يظل قائما رغم كونه رهانا ضعيفا.. وركيكا.
أما نظرية “الطرف الثالث” فتبدو مستبعدة، وإن لم تكن مستحيلة.
*********
رحمك الله أيها الأب والصديق والمعلم..
مثلي يتيم بفقدك.. فأنت مثلي الأعلى منذ وعيت الكتابة والسياسة، ولذلك فإن مصابي فيك شخصي قبل أن يكون وطنيا… وعزائي الوحيد هو أنك لم تمت، وبالقيم التي تعلمناها منك ستظل خالدا خلود محبتك لوطنك ومواطنيك .. وللإنسان حيث وجد، وحيث كان.
من حائط الكاتب على الفيس بوك

زر الذهاب إلى الأعلى