فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. في الطائرة .. وكان للعروبة زعيم

يمنات

أحمد سيف حاشد

– أول مرة أرى طائرة عن قرب، و أصعد إليها عبر سلّم لم أكن أعلم هل هو مستقل عنها أو هو بعض منها، قعدت على المقعد المخصص لي، و لحسن حظي كان مقعدي جوار النافذة .. الطائرة تتحرك ببطيء على أرض المطار، و التعليمات تصدر بربط الأحزمة .. المضيفة تمر للتأكد أن الركاب نفذوا التعليمات، فيما كنت قد تجاوزت تعثري في ربط الحزام .. تبدأ سرعة الطائرة على الأرض تزداد أكثر و أكثر، فيما كنت كطفل اتابع من النافذة بعض التفاصيل في محيطها .. ثم تقلع الطائرة من مطار عدن الدولي..

– و فيما الطائرة تصعد شعرت بالرهاب .. أحسست بفجوات كبيرة تتخلل صدري .. إنها فجوات أكبر من صدري، بل هي بسعة الفضاء الذي تخترقه الطائرة في صعودها .. قلبي يكاد ينخلع من مكانه .. حالة من التوتر تسودني..

– لا شيء يمسك بك الآن و أنت تصعد بالطائرة في الفضاء .. تشعر أن روحك صارت بقبضة القدر وحده .. تبادر إلى ذهني مصير السبعين كادر الذين سقطت بهم الطائرة في مطلع السبعينات في عدن، أو بالأحرى التي تم تفجيرها بفعل فاعل .. عمل إجرامي بكل المقاييس .. تخيلت مصيرهم المرعب، و هم يتطايرون في الهواء كشظايا قنبلة .. يا له من حظ سيء و مرعب..

– رغم رهابي الذي ينتشر في أوصالي و يستولي على كياني إلا أنني أحاول أجمع شجاعتي، فيما كان فضولي أقوى مني و من رهابي .. صرت أحدث نفسي: يجب أن أقمع مخاوفي .. يجب أن أتغلب على رهابي .. أنا صرت اليوم ضابطا؛ فكيف لي أن أحث جنودي في المستقبل أن يكونوا شجعان أفذاذ..؟!! كيف أدعوهم إلى عدم الخوف وكل هذا الهلع ينتابني..؟؟! أليس جيفارا الذي أعجبت به هو القائل: الثائر أو القائد هو “آخر من ينام وأول من يستيقظ وآخر من يأكل، وأول من يموت” القائد يجب أن لا يتهيب الموت، فما البال و الحال يتعلق بالرهاب..

– و احاول شحذ عزيمتي و تقوية ارادتي في مواجهة عقدة الرهاب التي تعبث داخلي، بالحديث مع نفسي: “أخي علي سيف حاشد كان مضلي يقفز من الطائرة، فكيف لي أن أكون دونه؟! أريد أن أكون شجاعا مثله..” ثم استحضرت ذاكرتي ما سمعت منه يوما، عن قصة ذلك الذي رفض القفز المظلي من الطائرة، إلا بركلة قوية من قدم الضابط المصري..” و استطرد في الحديث مع نفسي: “لا أريد أن أكون جبانا و لا أحتاج إلى الركل لأتعلم الشجاعة .. الجبان عار أكثر ممن تركله كل الأقدام .. يجب أن أكون شجاعا بما يكفي للتغلب على هذه العقدة .. يجب أن أسحق ما ينتابني من رهاب .. علي أن أطلق العنان لفضولي الذي يتحدّى، و يستحق التقدير .. يجب أن استمتع ما استطعت برؤية هذا العالم الخرافي، من هذا العلو الشاهق..

– ألصق صدغي وجانبا من وجهي في زجاج النافذة التي بجواري في الطائرة، و أنا أقول لنفسي: يجب أن أرى العالم السفلي من هذا العلو المرتفع .. أريد أن أعرف كيف يبدو ما في الأرض للعيان من السماء..!! لابد أن أعرف كيف تبدو عدن من هذا الارتفاع..!! أول مرة أرى مدينة عدن من هذا العلو..!! شوارعها و أبنيتها و سفنها و بحرها و شواطئها و شكلها الجغرافي العام .. ثم تصغر عدن و تتلاشى خلفنا، و الطائرة تلتهم المسافات، فيما أنا لا أشعر بتلك السرعة التي تقطعها الطائرة، إلا رويدا رويدا، عندما أجد ما كان في الأمام قد صار يتلاشى خلفنا..

– أول مرة أجد نفسي فوق السحاب .. أن تكون أعلى من السحاب، أو تكون السحاب دونك و أنت ترمقها من الأعلى تشعر بعجب و دهشة .. يشد انتباهك بما لا تألفه أو تراه من قبل .. يا له من سحر و أنت ترى السحب تحتك مفروشة كالقطن المبثوث بطبقات كثيفة، و مساحات واسعة و خرافية .. رؤية السحب من الأعلى يختلف عن مشاهدتها من الاسفل .. تشعر و كأنك تكتشف عالمك لأول مرة أو من جديد..

– انني الآن اكتشف الفرق .. أشطح في الخيال و التمني و تجاوز المعقول أحيانا .. تمنيت أن تكون السحب بالفعل مصنوعة من القطن تحفظنا إذا ما هوت الطائرة لأي سبب .. كان شكلها مغر و جاذب، ثم ما ألبث أن أقول: “يا له من منظر مخادع..” تبدو السحب كطبقات القطن الوثير، و لكن الحقيقة صاعقة .. ثم تتبادر إلى ذهني ما سمعته من خرافة في الصغر عن ذلك الجد الذي يحكون عنه، عندما أراد أن يركب الخنان أو يمتطيها، ثم وقع من علوه، و علق بشجرة العريَب، ثم أختصر للناس محنته و تجربته في موجز القول: “لولا شجرة العريب .. أمّا ربّي فقد كان سيّب”.

– رفض فضولي أن ينام أو يستريح، و لم يدركه كلل أو ملل، بل كان يزيد شغفا و أسئلة .. أتفرس من نافذة الطائرة، الجبال و الوهاد و البحر و النيل و كل شيء تمر عليه الطائرة .. حب الاستطلاع والمعرفة يزيد في تحفيز فضولي، و كثير من الاسئلة التي يطرحها عقلي الشغوف للمعرفة، و لا بأس من أن أشعر ببعض الخيبة عندما لا أجد من يسعفني بالإجابة عليها، و ليس هناك مرشد في الأمر بإمكانه أن يجيبني الآن .. و مع ذلك و فيه العزاء، أن تلك الأسئلة تظل حية و ترفض أن تموت، و تظل تطرق باب عقلي و وعيي تبحث عن جواب على الدوام، و لا يطفئ اشتعالها غير غيث المعرفة.

– وصلت بنا الطائرة سماء القاهرة .. رؤية القاهرة من الجو يمنحك شجن معرفي كبير .. تتمنى أن تهبط إليها، و تطويها بقدميك خطوة خطوة .. كنت أحدث نفسي و أنا في سماءها: هنا الاهرامات و المباني الشاهقة و العظمة كلها .. هنا كان فرعون و كانت حضارة .. مصر الأبية، و مصر أم الدنيا، و شعب يقول “إلا مصر” .. أين هي “بور سعيد” التي قرأت عن بطولة أبناءها و أنا في الصف الثالث أو الرابع ابتدائي..؟! هنا مصر التي هزمت العدوان الثلاثي و أممت القناة، و انتصرت في حرب اكتوبر 1973 هنا كان للعروبة زعيم اسمه جمال عبد الناصر، و كانت هناك خيانات و خونة و أنذال صغار..

 

– تتداعى أفكاري من كبيرها إلى أصغر التفاصيل و أنا أحدث نفسي: هنا كل الكبار أحياء و أموات .. هنا نشأ الوطن المنفي سعد زغلول، و الأمل الذي لا يتلاشى مصطفى كامل الذي علّمنا أن “لا يأس مع الحياة” .. هنا عميد الأدب العربي القامة طه حسين، و الروائي الفذ نجيب محفوظ، و أمير الشعراء أحمد شوقي، و فقيه القانون الموسوعة السنهوري .. هنا كوكب الشرق أم كلثوم .. هنا ثقافة و حضارة و عمالقة..

هنا اليسار المصري أمل دنقل و أحمد فؤاد نجم و الأبنودي و الفنان الشيخ إمام .. هنا خفة الدم، و الروح المصرية الجميلة .. مدرسة المشاغبين و أبطالها الكبار .. المسرحية التي لا تُمل مشاهدتها للمرة الألف .. هنا العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، و الفنان فريد الأطرش ..  و شادية و فريد شوقي و اسماعيل ياسين و مدبولي و المليجي و فؤاد المهندس و أحمد زكي و نور الشريف..

– و هنا أقام أخي مدة في حدود نصف العام يدرس في سلاح الإشارة بعد تخرجه من الكلية الحربية في صنعاء في الستينات عندما كانت مصر تدعم النظام الجمهوري في اليمن .. مصر العروبة و زعيمها الذي أراد أن يلملم أشتاتنا المبعثرة و أوطاننا المفتتة و يستعيد احلامنا الكبار؛ فخذله الاوغاد، و تكالب عليه خونة الأوطان و متعفني التاريخ و الساسة المرتهنين..

– هنا تقيم الفنانة وردة الجزائرية، و الممثلات يسرى و شمس البارودي و فاتن حمامة و سعاد حسني اللآتي لطالما هُمنا بعشقهن و اطلقنا العنان لخيالنا الشارد منّا، عندما كنّا نعيش شبقنا الأول في سنوات الكبت بالمرحلة الثانوية .. هنا تهبط الآن الطائرة التي تقلّنا..

– تهبط الطائرة في مطار القاهرة الدولي، و بقينا بحدود الساعة ننتظر فيها، لأنه غير مسموح لنا بالخروج إلى صالة المطار أو حتى إلى “الترنزيت” بسب قطع العلاقات مع النظام المصري من قبل دول الصمود و التصدي، و منها اليمن الديمقراطية التي قدمنا منها، و ذلك بعد توقيع رئيسها أنور السادات معاهدة “كمب ديفيد” .. و بعد ساعة انتظار في جوف الطائرة، جاءت الطائرة الأخرى التي ستنقلنا إلى مطار “كييف” في أوكرانيا، ثم إلى موسكو .. فأنتقلنا إليها..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى