تحليلات

ثورة بن سلمان الإصلاحية.. بين موجة الاعتراض وفُــرص النجاح

يمنات

صلاح السقلدي

بدأ في المملكة العربية السعودية قبل أيام قليلة أول عرض “أوبرا”  تحت عنوان “عنتر وعبلة”، في تظاهرة  ثقافية شهدت نفاذ للتذاكر في أوّل أيام العرض. هذه الخطوة تأتي ضمن سلسة خطوات جريئة شرعت بها هذه المملكة المحافظِة منذ تسنّم الملك سلمان بن عبدالعزيز ونجله الأمير محمد السلطة. 

ما يحدث  اليوم بالمملكة  يستحق تسميته بثورة اصلاحية حداثية مدنية بوجه المؤسسة الدينية المتشددة تستهدف إخراج البلاد من قمقم الانغلاق الثقافي والسياسي و من عنق زجاجة التشدد الديني والفكري الذي عصف بكل مجالات الحياة, سيّما خلال الأربعة عقود الماضية …هذه الثورة – أو أن شئت أن تسميها بالبروسترايكا السعودية فهي تبدو كذلك, على الأقل شكلاً- تمضي بخطوات جامحة وواثقة نحو غايتها, وتتخمر سريعا داخل المجتمع السعودي,أو كما وصفها بن سلمان قبل أيام بأنها عملية العلاج بالصدمة لتحديث الحياة الثقافية والسياسية.

ما يعزز من نجاح هذه الثورة أنها ليست رغبة سعودية فقط بل ومطلب إقليمي ودولي, وأمريكي على وجه الخصوص ,وجميعنا يعرف ماذا تعني المطالب والاعتراضات الأمريكية بالنسبة لصانع القرار السعودي بل وللشعب السعودي ككل,بعد أن ضاق العالم ذرعاً بالتطرف وبالفكر الجهادي العنيف, الذي يرى كثير من المهتمين والمراقبين بالعالم أن المملكة شكّلت منذ عقود منبعه الأساسي وموئله الأول بالعصر الحديث كفكر متشدد مشحون بإرث تاريخي مثقّــل  بأفكار وكتب وخطب وفتاوي صادمة مثيرة للجدل, مستفيداً من الطفرة النفطية الهائلة التي شهدتها منطقة الخليج العربي بالعقود الماضية وبلوغ اسعار النفط مستويات قياسية من الارتفاع  سهّلتْ معها حشد جيوش من المتطرفين” المتطوعين” للحروب ذات النفس الديني السُــني  في غمرة الحرب العالمية الباردة, وتحديدا منذ الغزو السوفييتي لأفغانستان في إبريل 1997م, وهو الغزو الذي اعتبرته الولايات المتحدة تمددا وتهديداً سوفييتياً على تخوم مصالحها بمناطق  انتاج الطاقة بوسط أسيا وقزوين والشرق الأوسط لا بد من التصدي له.

ولم تجد واشنطن مَــن يشد عضدها وتوكِل له جزء كبير من تنفيذ المهمة أفضل من العرب بطاقاتهم وموروثهم الديني المتخم بالغلو, وشرعت تعزف على أشد الأوتار السياسية حساسية ورنيناً وهو الوتر الديني بوجه الشيوعية الملحدة بحسب قواميس الفكر الجهادي, وتقدمت السعودية الصفوف رسميا وشعبيا لتحشيد الجهاديين  المتطوعين من داخلها ومن كل الأصقاع  تحت رعاية الاستخبارات الأمريكية مزودين بالسلاح الأمريكي الذي ابتاعته الرياض من واشطن بالأموال السعودية ذاتها, يتم كل ذلك على وقع آلة إعلامية غربية وعربية صاخبة بالتوازي  مع خطاب ديني جامح صوب قندهار وكابول, شكّلت  جماعة الصحوة الإسلامية أو ما بات يطلق عليه بصحوة بلاد الحرمين رأس حربة تلك المرحلة , وهذه الحركة هي حركة فكرية اجتماعية إسلامية سلفية نشأت بدعم من مجموعة دعاة إبّان حراكهم الدعوي “لإيقاظ الناس من غفوتهم”- بحسب قولهم-  على يد عدد من الاشخاص في ذلك الوقت من أمثال سلمان العودة في بريدة وعائض القرني في أبها وسفر الحوالي في جدة وناصر العمر وسعد البريك في الرياض.

حتى إذا ما أتى العقد الأخير من القرن العشرين “عقد التسعينات” وبعد انسحاب السوفييت من هناك وسيطرة الجماعات الموالية لواشنطن على كابول ومع ظهور بوادر الخلاف  بصفوف الحكام الاسلاميين الجدد هناك عادت جموع كثيرة من المقاتلين “الأفغان العرب”  أدراجها الى ديارها ,لتعصف بالمنطقة والسعودية بالذات رياح تطرف عاتية. !

…وصولاً الى بداية القرن الحادي والعشرين، حين دخلت الحركة الليبرالية التحريرية في السعودية في عدة صدامات مع الحركة الصحوية بالبلاد، أثّــرَ ذلك على الرأي العام السعودي بشدة خلال فترات مختلفة سواءً في قضايا اجتماعية أو في قضايا المشاركة في النزاعات الإقليمية تحت غطاء الجهاد الإسلامي. ونادى التيار الليبرالي بالانفتاح وتقليل سلطة وسطوة رجال الدين ونفوذهم الاجتماعي في البلاد.

ومع تولي الملك سلمان حكم المملكة وبزوغ  نجم ولي عهده محمد بن سلمان على الساحة السياسية، شهدت المملكة عدة تغيرات انفتاحية مهمة فيما تم اعتبره كثير من المراقبين رغبة سعودية جادة بقطع علاقتها مع أتباع هذه الحركة الوهابية المحافظة. وتحدّثَ مؤخراً ولي العهد محمد بن سلمان عما أسماه بالحالة غير العادية وغير الطبيعية التي دخلت على المجتمع السعودي في إشارة إلى حركة الصحوة وما وصفه بالإسلام الغير معتدل, مشيراً الى ضرورة إعادة المملكة الى سابق عهدها واعتدالها قبل 30  عاما مضت.!

يرى بعض المحللون (المؤيدون للحكومة السعودية تحديداً) ارتباط حركة الصحوة وتأثرها بفكر جماعة الإخوان المسلمين في اشارة منهم الى إلصاق تهمة التطرف بها..فثمة خطاب سعودي اليوم يلقي باللائمة على انتشار التطرف  بالعالم على تلك الحركة الصحوية -باعتبارها وفقا لهذا الخطاب- حركة إخوانية إرهابية, دافعاً هذا الخطاب التهم عن الحركة الوهابية  السلفية, وهذا اعتسافا لجزء كبير من الحقيقة , فجذور وجذوع وفروع الفكر الجهادي المتشدد سُــقيت من معين الفكر الموروث الوهابي المتشدد, هذه حقيقة لا جدال فيها أتفقنا مع حركة الإخوان أو اختلفنا معهم. صحيح ان للحركة الإخوانية نزوع نحو العنف في كثير من الآراء والأحداث و الوقائع كواقعة اغتيال رئيس الوزراء المصري النقراشي والرئيس محمد أنور السادات ولكن الحكومات السعودية المتعاقبة شريكة بصناعة هذا العنف  الإخواني , فيكفي ان نتذكر أن أخطر الكتب الإخوانية وبالذات كتب الداعية الشهير سيد قطب المثيرة للجدل مثل كتاب “معالم  في الطريق” وغيرها من الكتب قد طُبعت بالمملكة على نفقة وزارة الارشاد والتعليم  وظلت تدرس بالمدارس الحكومية  الى عهد قريب نكاية بالزعيم الراحل جمال عبدالناصر في ذروة خصومتها مع القومية العربية وتدخلاتها بالشأن اليمني بعد الثورة الجمهورية لمصلحة الملكيين وما بعد ذلك الى قبل أعوام قليلة وربما ما زالت حتى اليوم تدرس هذه الكتب ولو بنطاق ضيق.

على كل حال لنعد الى لبُّ موضوعنا الرئيس والمتعلق بالخطوات الحداثية التي يقودها الأمير بن سلمان,فهذه الخطوات  تعود إرهاصاتها الأولى  الى بداية عهد ولاية الرئيس الأمريكي باراك أوباما (إن لم تكن الى قبل ذلك التاريخ) الذي بدأ بمراجعة السياسة الخارجية لبلاده  بالشرق الأوسط وافغانستان بعد أن زاد العبء المالي على الخزانة الأمريكية وبعد أن بلغ التطرف مداه وسيطر على دول بأكملها كلما حدث ليبيا  وسوية الى حد ما والعراق منذ أعوام قبل أن يتراجع مؤخرا تحت ضربات الجيش العراقي وطال شرر نيرانه  العمق الأوربي والديار الامريكية بفترة الرئيس بوش الابن. حيث أتّبع  أوباما سياسية برجماتية واقعية حيال الحليف الشرق الأوسطي الهام “السعودية”, أثارت حفيظة الرياض خصوصاً حين كان الرجل يلامس نقاط الضعف والحرج السعودي وبالذات مسألة منابع تمويل التطرف الديني فكرياً ومادياً ,ونصائحه أي أوباما المستمرة للسعودية وغيرها من حلفاء واشنطن بالمنطقة- باستثناء اسرائيل طبعا- بضرورة  القيام بإصلاح الشأن الداخلي وتنقيته مما علق به من شوائب التطرف , والاعتماد على النفس بشكل أكثر ,واستمر أوباما على ذلك المنوال حتى آخر يوم من  ولايته ,ليأتي بعده خلَفَـهُ الرئيس دونالد ترامب ليشكل هذا الأخير أيضا كابوساً ونكبة على صانع القرار السعودي ويربكه بالصميم لما حملَـهُ من خطاب انتخابي صادم تجاه ممولي التطرف وتهديداته الواضحة لشركائه بشأن مواصلة حمايتهم عسكريا من عدمه, حيث ظل يردد القول بأن أمريكا لن تحمي بعد اليوم أحد بالمجان وأن أية حماية ستكون باهظة الكلفة. هذا  الخطاب الترامبي الغليظ كان ينزل على مسامع الرياض كالصواعق في وقت كان الملك سلمان ونجله في وضع “حيص بيص” بشأن تعبيد الطريق للأخير نحو العرش الملَـكي,حيث كانا يخوضان أصعب مراحل الصراع على الحكم مع منافسيهم من أمراء الأسرة الحاكمة التواقين للعرش, وهذا ما فطن له ترامب واستثمره بكل صفاقة ولؤم ,وطفق يمارس أشرس أساليب الابتزاز والمساومة مع الملك ونجله بعقلية سمسار العقارات وجشع أساطين بورصات الأسهم, فكان حينها يلوّح بوجه الملك ونجله بأوراق أمراء منهم بن نائف قبل أن يتنازل عنهم في نهاية المطاف بمليارات الدولارات ,وكان له  أي ترامب ما أراد حين عاد الى بيته الأبيض  من أول رحلة له الى الشرق الأوسط -إلى الرياض- محملاً بقرابة نصف ترليون من الدولارات أعتبرها مراقبون أكبر رشوة بالتاريخ. وهذا المبلغ كان كافياً لأن تغض واشنطن طرفها تجاه مغامرات بن سلمان  بالداخل السعودي تجاه معارضيه السياسيين و الاثرياء ومغامراته بالمنطقة , وبرغم كل ذلك لم يكتف الرجل “ترامب” بما جناه, بل ظل يمارس أشد ضغوطاته على الرياض مرّكِـزاَ جُـلّها على مسألة مكافحة الارهاب وتجفيفه من منبعه الاساس هناك, وأتّـبع لذلك روزنامة ضخمة من أهم بنودها تغيير المناهج الدراسية السعودية بشكل جذري وكبح الخطاب  الديني المتشدد وإحكام الرقابة المالية على الجمعيات والمسارب المالية التي  تصب في وعاء الجماعات المتطرفة, مع اشتراطه دخول المملكة مرحلة اصلاحات دينية وثقافية وفكرية جذرية بهذا الشأن, ربما هذه الرغبة الأمريكية وافقت شيء من رغبات الأمير الشاب بن سلمان الذي شرع من حينها بخطوات جريئة لإخراج البلاد من شرنقة التطرف الى فضاء الحداثة مسّتْ كثير مما كان الى وقت قريب خطوط  حُمر وثوابت دينية ظلت تمثل بالنسبة للمؤسسة الدينية بل وداخل المجتمع السعودي جزء من الشريعة الاسلامية ومقاصدها يستحيل الحديث عنها ناهيك عن تغييرها. ومن جملة هذه الخطوات الحداثية الجريئة التي أُتخذَ مؤخرا ما يلي:

  -تحجيم هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الى درجة شبه إلغاء, وهي الهيئة التي ظلت تشكّل للمجتمع العصاء الغليظة  كنسخة من محاكم التفتيش المسيحية لها مطلق الحرية والعنان بالتصرف.

-الشروع بحملة تعديلات واسعة النطاق للمناهج التعليمية وهي الخطوة التي نُــقِشتْ على مستوى عال داخل الكونجرس الأمريكي غداة زيارة الرئيس ترامب للرياض باعتبارها أحد ثمار الضغوطات الامريكية لكبح التطرف في موئله التاريخي “المملكة “بعد أن ظلت واشنطن تلوح بقانون “جاستا” وهو القانون الذي سنه الكونجرس بوجه السعودية لمقاضاتها أو قل لابتزازها  بسبب العملية الارهابية التي طالت برجي نيويورك عام 2001م و التي نفذها قرابة سبعة عشرة انتحاريا بطائرات مدنية  منهم خمسة عشرة سعوديا.
-تمكين المرأة من سواقة السيارات
– التوجه نحو التخلي عن مفهوم بيت الطاعة الذي يقيد المرأة بكثير من حقوقها بحسب حقوقيين وقانونيين.
– فتح دور الثقافة والسينما وبناء المسارح وغيرها من مجالات الفن والثقافة والأدب , وتشييد دور الأوبرا. وهذه المجالات تقود حركتها الحداثية “هيئة الترفيه” -والتي تشخص نحوها الأبصار بقوة- وتعتزم المملكة استثمار نحو 64 مليار دولار في هذا  القطاع أقصد قطاع الترفيه خلال السنوات العشرة المقبلة، في إطار برنامج للإصلاح الاجتماعي والاقتصادي بالبلاد بحسب مصادر رسمية بالهيئة.
– السماح للمرأة السعودية بدخول ملاعب الرياضة بما فيها كرة القدم , وحق مزاولة الرياض –قبل يومين فقط- شهدت البلاد أو تظاهرة رياضة لسباق المسافات الطويلة بمشاركة المرأة.
  – مجلس الشورى السعودي ولأول مرة يناقش  توصية تمنع الولاية على المرأة, وصاية  الأب والزوج، والأخ، الذين يتحكّمون بها في الدراسة والسفر والعمل، ولا تتم الأمور الأخيرة إلا بإذنهم.
-السماح بمهرجانات وعروض الأزياء وما شابه ذلك من النشاطات.
-ارتفاع أصوات كثيرة تطالب بجامعات مختلطة للذكور والإناث.
–  الشروع بتشريع قانون التحرش الذي أمر الملك بإصداره قبل أسابيع, وهو القانون الذي يعتبر بحسب مصادر سعودية استحقاقا موازيا لما سيطرأ من تحولات جديدة فيما يخص المرأة السعودية وممارسة بعض حقوقها في الفضاء العام؛ كالسماح لها بقيادة السيارة، كما انه سيكون رادعا لكل من تسول له نفسه العبث أو التحرش أو التضييق على المرأة السعودية في المجال العام.
-اعتبر عدد من الرموز الدينية لبس العباءة النسائية -وهي الزي الوهابي الذي فرض منذ عقود على المرأة السعودية- ليس شرطا للبس المرأة  طالما وهي ملتزمة بالاحتشام, وهذا التوجّه يتسق مع رغبة الحكام تماماً يأتي هذا بالتوازي مع حديث مفتى المملكة قبل يومين عن ان ثمة عشرات الاحاديث النبوية هي أحاديث مختلقة لا صحة لها.
-صدور فتوى تحلل زيارة القبور, وهذه النقطة لطالما تشدد بها غلاة المذهب السلفي الوهابي وهاجموا بسببها بضراوة كثير من الفرق الاسلامية التي تجيزها  منهم الصوفية على سبيل المثال.
-دعوات متصاعدة لعدم اغلاق أبواب المحال التجارية وقت الصلاة.
  -دعوات  لمنع إذاعة الصلوات والمحاضرات بمكبرات الصوت باستثناء صوت الأذان والإقامة.

وعلى ذات الصعيد وفي زيارته لمصر مطلع الشهر الجاري -مارس 2018م-حرَصَ الأمير بن سلمان على أن يبعث برسائل للمعترضين على هذه خطواته و تصب في مجرى هذه الخطوات وتشجيعا لها, بحضوره الأوبرا المصرية مع الرئيس السيسي, ولقائه مع البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية في مقره بالكاتدرائية المرقسية بالقاهرة وهذه سابقة في تاريخ السياسة السعودية ومفاجأة  صادمة للمؤسسة الدينية السعودية.

قبل الختام…يقال بان الطيور التي تولد بالقفص تعتقد أن الطيران جريمة, فصحيح ان هذه الخطوات السعودية تواجه معارضة شديدة من داخل النخب الدينية بل ومن قطاع واسع من المجتمع السعودي الذي ما يزال تحت شعور العزلة جرّاء ضع قفص الانغلاق طويل الامد ويخالجه شيء من الدهشة من طبيعة ووتيرة ما يجري حوله , لكن الشيء المؤكد بالمقابل أن ثمة أقدام على درب المستقبل  تسير بثبات وعزيمة ,فعجلة التغيير تدور  بسرعة يُصعَبُ كبحها, وهذا التغيير سيكون له أثره الايجابي على محيط المملكة ومنها اليمن, فمثلما تأثرت اليمن وكثير من دول المنطقة سلباً باندفاعة التشدد القادم لها من داخل أسواره الأصلية سيتأثر هذا المحيط إيجابا بهذه الحركة التغييرية التصحيحية ,فمجرد حبس صنابير الضخ المالي وتشريد وفرملة فكر الخطاب الجهادي في معقله وعقر داره سيكون  تقليص أثره واضحا وسريعا  خلال الفترة القادمة ربما بذات سرعة الانتشار, وهذا ما نأمله في قادم الأيام والسنين.

المصدر: رأي اليوم

زر الذهاب إلى الأعلى