أرشيف

خولة.. أغنية شريدة في عالم النسيان

 نسجت في قلبها ضفائر من الوفاء، وتنفست نسيم الحب من هديل الياسمين .. خولة، فتاة من عائلة ميسورة الحال، أحبت شاباً ميسورالحال  بادلها حباَ جامحاً كسر به الحواجز وعبر به الأسوار، لم يكن هناك من شيء يقف أمام زواجهما سوى أم عادل التي كانت ترغب أن يتزوج ابنها ابنة أختها وترفض بشدة زواج عادل من خولة نظرا لخلاف قديم بينها وبين والدة خولة التي هي ابنة عمها،  لكن عادل رفض كل العروض الأخرى، فخولة سوسن خياله وحنين قلبه، خطب عادل خولة وعاش الحبيبان أيام خطوبة عابقة بالشوق وظلا يرقبان يوم الزفاف بعيون تخترق الضباب وقلوب تستشعر ما وراء المنعطفات حتى وصلا إلى الموعد وكان اللقاء الذي جرى على سندس من ليلة عطرتها مخامل الذكريات حتى استفاقا على عسل الفجر الذي تنفس بوح الاشتياق لملامسة نهد الخيال، لم يعكر أيامهما ولياليهما الساهرة بلوامع الافتتان سوى نظرات الامتعاض التي كانت تطلقها أم عادل لخولة وقد حاولت خولة أن ترضيها لكنها كانت تصدها بانتهازية صريحة.

مرت الأيام وودع عادل خولة على شعاع الأمل المبتسم وسافر إلى عمله في صنعاء الذي كان يغيب فيه كثيراً،  وفي هذا الغياب كانت أمه تفرغ كل حقدها على خولة حتى ضاق بها الزمن وحاصرها المكان .

وبين قهر الإقامة ووجع الغياب كانت خولة مستعدة لحمل كل الجروح من أجل عادل لكن الأم راحت  تُعد المكائد لزوجة ابنها وتشتكي بها لعادل وتشكك بشرفها كلما اتصل بالهاتف أو عاد زائراً، وعندما لم تفلح في تغيير قلب ابنها ذهبت تعد مكيدة تشيب منها المكائد حيث بدأت تغدق بالعطايا لأحد أبناء جيرانها وتدخله المنزل وتتحدث معه بألفاظ ساخنة ومثيرة..  

وفي إحدى أيام الدهر الآسنة في حياة خولة شعرت بحاجة شديدة إلى النوم رغم أن الشمس مازالت تتسلق الجانب الشرقي من السماء، فجرت  خولة جسدها إلى فراشه بقلب يعصف به الحنين شوقاً إلى عادل لكن النوم منعها من الغوص في الأحلام وذهبت تغط في نوم عميق، ولم تصحُ إلا على صراخ عمتها وإحدى نساء الجيران وإذا بها تنظر نفسها وقد نزعت معظم ملابسها وابن الجيران المدلل من حماتها واقفاً في جوارها.. تصرخ .. تصيح لكن الأم كانت قد ذهبت فوراً للاتصال بولدها لتبلغه بجريمة زوجته التي تم كشفها في وضع مخل متلبسة بالخيانة مع ابن الجيران في داخل غرفتها.. لم يصدق عادل في بداية الأمر واعتبر الخبر وشاية جديدة بزوجته, لكن أمه أعطت التلفون لتلك الشاهدة التي كانت قد أحضرتها، فأكدت الخبر لعادل الذي ترك عمله ووصل إلى المديرية في نفس اليوم، ووسط عاصفة من ألفاظ الشتم واللطم والركل قذفها بالطلاق، فحملت خولة أوجاعهاالعارية وسال الأنين من كل أنحاء جسدها وقد اختلط عليها الليل في الليل ولم تجد في الزمن زمنا ولا في المكان مكانا، فشرفها مسفوح و الفضيحة على كل لسان وأراد شيخ المنطقة تزويجها بالقوة من هذا الشاب لكنها رفضت وقاومت وأصرت على براءتها وطلبت منهم أن يشنقوها عوضاً من أن يزوجوها بتهمة كهذه وفضلت مواصلة الشقاء والعذاب وسط حيرة أسرتها بين يقينهم ببراءة ابنتهم وعدم قدرتهم على إثبات ذلك حتى كاد كثر النباح أن يفقدها عقلها أو أفقدها فلاذت بالصمت واحتمت بالدموع واحتجبت في زاوية غرفتها بعد أن عجزت عن إيجاد قنديل يضيء لها السبيل.

أما عادل فذهب وتزوج ابنة خالته حسب رغبة أمه هذه المرة وترك خولة لؤلؤة تتشظى حنيناً في أعماق الذكريات وأغنية شريدة في عالم النسيان تضم أطراف البكاء و ترتعش من سدول الليل الذي هجرها فيه النعاس.

ومع دورة الزمن، نسي الناس وتناسى عادل خولة لكن السماء لم تنس أن هناك روحا في جسد ينتظر العدالة بلواعج الصمت، قابض على الجمر بجراح باتت أوسع من مساحات الكون.. العدالة التي لا تخطئ كانت تقترب من خولة ببطء حيث كان لعادل أخت لم تتزوج بعد، وكان ذاك الشاب الذي اتهمت به خولة قد استطاع أن يغويها بحبه في غفلة عن والدتها وتقدم لخطبتها لكن أمها رفضت، فكيف تقبل بزواج ابنتها وهي بنت الحسب والنسب بصعلوك متلبس بفضيحة، لكن الشاب لم ييأس وواصل هيامه بجارته و بدأت اللقاءات السرية بينهما وبدأ يطربها بالكلام المعسول حتى جعلها تذوب في بحر الآمال و تغرق في عالم الأحلام.. كلام أنساها الزمان والمكان والأنساب، وفي ذات نهار وقعت في مستنقع الاستعجال وبنشوة الحب سلمت نفسها لجارها ولم تكن تعلم أنها مجرد لذة طيف مرت من هنا.. أخذ منها كل شيء ولم تعد بعدها شيء و استمر العاشق الطاعن في الخديعة في خداع ضحيته وممارسة الغواية معها كلما سنحت له الفرص حتى لاحت في الأفق ملامح فضيحة اهتزت لها المنطقة، فبطن الفتاة تكبر شيئاً فشيئاً والأم ترتجف وجداً وتكابر بالأعذار وفي المستشفى  كانت الفاجعة التي صعقت الأم فخرت بعدها على الأرض في غيبوبة على وقع قول الطبيب.. البنت حامل، وعادت الأم محمولة على النعش وهي تهذي "هذا ظلمك يا خولة"، ووسط هذه الأجواء المسكونة بالفضيحة دعت الأم ابنها عادل وحكت له قصة قديمة من مسيرة العمر الوئيد قائلة: "إن خولة مظلومة وهي التي كانت قد دبرت لها ذلك الإفك الآثم"، حيث كانت قد وضعت لها منوماً في شاهي الصباح ودفعت لذلك الشاب مالاً كي يساعدها في إتمام خطتها وطلبت منه أن يدخل إلى غرفة خولة بعد أن نزعت منها شيئاً من ملابسها وأمرته ألا يمسها بشيء، فقط هي ستغلق الباب وعليه هو أن ينتظر إلى حين حضور الشاهدة.

وهنا جن جنون عادل الذي اعتراه الخجل وتلبسه الحزن على حبيبته فبكى وأسرع نحو منزلها مهرولاً فوجدها منزوية وحيدة لا تجيب سوى بنظرات ترشق بها الجدران وتمتمات ربما تلعن بها عالم الأنانية والنكران ودموع تنسال على خدود شاحبة، جسد أهلكه وجع التهم وأنهكه طول النياح، فارتمى في حضنها وبنحيب القُبل الذي ملأ بها كفيها وقدميها كان يطلب منها السماح وهي شاردة لا تجيبه بشيء، فقام وأخذها وطاف بها في العيادات والمستشفيات لكنه لم يفلح فقد صمتت خولة ومن شدة حزنه عليها وتأنيبه لنفسه طلق زوجته وأنذر بقية حياته لحبيبته والوقوف إلى جوارها، ومن طول العناء وفقدان الرجاء بعودة خولة إلى طبيعتها، أصابه الجنون فأصبحت خولة وحيدة في المنزل وعادل يهيم في الشوارع لا ينطق بغير اسمها.

زر الذهاب إلى الأعلى