أرشيف

عبق جميلة العطر

صمت الليل واحتل السكون المشوب بالفجيعة ، حقول ومراعي القرية أصيبت بالفزع عند سماع النبأ الذي نزل كالصاعقة على الجميع، وفزع الجميع من هول الفقدان للنسمة العليلة التي غادرت القرية دون رجعة. إنها البسمة الرائعة التي كثيراً ما رسمت على وجنات أطفال وبنات ونساء القرية الفرح والأمل، فقد امتلكت جميلة البالغة من العمر 28 عاماً مفاتيح إدخال النشوة للقلوب وزرع أزاهير المحبة والتسامح فيها، كما امتلكت طيب الكلمة القادرة على النفاذ إلى كل الأفئدة لتكون بلسماً لالتئام الأفئدة المنكسرة وإعادة السرور إليها. إنها جميلة التي استطاعت أن تكسر حاجز الأمية لدى الكثير من خلال تدريسها للقرآن الكريم لعدد كبير من نساء القرية اللاتي أصبحن يحفظن أجزاءً من القرآن ويجدن القراءة والكتابة.

نعم فقد أنذهل أهل القرية واستيقظ جميعهم عند سماع دوي الرصاصات القادمة من منزل جميلة الواقع على أكمة في قرية "كماري" وسمعوا الرصاصات لكنهم لم يعلموا أن تلك الطلقات قد أخذت روح جميلة لتحلق في فضاءات الأبدية، وتركت جسدها المسجى ليتلاشى مع التراب مخلفاً ضيما أليما وجريمة يصعب نسيانها, طالما وأن ضحيتها كانت جميلة، الشابة التي عرفها الجميع بأنها رافضة للهو الدنيا وسلمت عواطفها وكل جوانحها لله العظيم كفتاة زاهدة أبت الانقياد إلى جواذب الرغبات واتخذت من محراب العبادة سلماً للتقرب والارتقاء لنيل رضا الرب، بتلك الصفات والسلوكيات عرف أهل القرية جميلة لكنهم لم يعرفوا ما كانت تعانيه وتواجهه بشكل يومي في منزلها من جراء الممارسات والعبث غير المبرر من قبل والدها تجاه أمها.. وإخوانها، فقد كان والدها يشك بسلوك والدتها التي لم تكن يوماً بخائنة أو ماكرة لزوجها ولكن شك الوالد كان بمثابة مرض نفسي وهو ما أكده الكثير من الأطباء بعد أن تم عرضه على أطباء نفسانيين وبشكل سري … كانت المواجهات العنيفة بين والد جميلة وأمها شبه يومية، وهي تقاوم وتحاول صد ومعالجة تلك الإشكالات وحريصة على ألا يتسرب من ما يحدث إلى خارج المنزل.. كانت تحاول بكل ما أوتيت من قوة ووعي على إنهاء المشكلة دون وقوع خسائر، وكثيراً ما جلست مع والدها وحاورته بأن يترك تلك الشكوك والأوهام فيما هو يفسر لها بأن ذلك الاندفاع والحالات الهستيرية تحدث له بشكل مفاجئ ولا يستطيع مقاومتها عند التلبس، نصحته بقراءة القرآن والعودة إلى الله بشكل صحيح مؤكدة له بأن أمها طاهرة ويستحيل أن تخونه بعد هذا السن، وكان يقتنع بذلك من جميلة لكنه سرعان ما تعاوده الحالة مرة أخرى ..

ظلت جميلة حريصة على تقديم دروسها اليومية في القرآن الكريم لبنات القرية وتعود إلى زهدها وتعبدها بعد أن تعالج حادثة بين أمها وأبيها في كل يوم أو يومين.. وحتى تلك الليلة المفجعة التي جاء فيها خالد والبالغ من العمر 30 عاماً يزور خالته بعد انقطاع دام أكثر من 15 عاماً تغيرت فيه ملامحه كثيراً، وصل خالد بعد الخامسة عصراً ودخل المنزل فيما كان الأب المتهور خارج المنزل، إلا أنه لمح دخول خالد إلى منزله فاعتقد شيئاً آخر، فهو الأخير لم يعد يعرف خالد الذي كان طفلاً وأصبح بهذه الهيئة فاندفع كالمجنون بعد أن شحن مسدسه واقتحم المنزل ليجد جميلة واقفة له بالمرصاد, طالبة منه التريث وأن يستمع لها لتقول له بأن الزائر هو ابن خالتها وليس كما يظن بأنه شخص آخر لكنه لم يستمع وأراد أن يقتحم باب الغرفة، وأثناء العراك مع جميلة انطلقت رصاصة على رأس جميلة، فارقت على إثرها الحياة. وخرجت الأم وخالد عند سماع الطلقة ليجدا جميلة قد فارقت الحياة.. وعندما اكتشف الحقيقة سقط مغشياً عليه مصاباً بالشلل والندم، فيما فقد أهل القرية عبق جميلة العطر.

 

زر الذهاب إلى الأعلى