مخلَف صُعيب

4 أكتوبر، 2009

1٬074 15 دقائق

في منتصف السبعينيات من القرن الماضي أي منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، صدحت حنجرة أحد عمالقة الأغنية اليمنية الأستاذ الكبير والكبير حقاً محمد مرشد ناجي بأغنية "تاج النهار"

غير أن الناس لم تكن تسمي الأغنية سوى بـ "مخلف صعيب" فصارت التسمية هذه أشبه بمثال يضرب به في المواقف الغامضة التي يجد فيها الشخص نفسه أمام خيارين .. مواصلة السير في الطريق أو التراجع ، فلا يملك إزاء الخيارين إلا أن يقول " مخلف صعيب صعيب .

ما تزال هذه الأغنية منذ ما يزيد عن (30)عاماً ممنوعة في بلادنا من البث الإذاعي والتلفزيوني فقبل الوحدة في الشمال لم يعرف أنها أذيعت من أي راديو ولا من التلفزيون.. وكانت تبث فقط من إذاعة وتلفزيون جنوب الوطن .. غير أنها أصبحت ممنوعة من البث بداية العام 1980م واستمرت محاصرتها حتى منتصف العام 1985.. هي الفترة التي خرج كاتبها الشهيد – الأديب القائد – عبد الفتاح إسماعيل من عدن إلى موسكو إثر خلافات سياسية مع بعض رفاقه كـ "علي عنتر وعلي ناصر محمد" وكأن قدر هذه الأغنية ــ الجميلة الرائعة كلماتها ولحنها وأداء مؤديها ــ أن تظل محجوبة.

ووصل الأمر حد الحذر لمن يريد الاستماع إليها، فكانت تباع بسرية شديدة في بعض الاستريوهات في شمال الوطن .. وقد يغلق المحل الذي يشتبه أنه يبعها حتى إن كان صاحبه بريئاً .. يكفي أن يوشي به أنه يبيعها سراً ليُرمى إلى بيت خاله خميس .

وبلغت درجة الحذر ذروتها فحينما يرغب شخص أو أشخاص الاستماع إليها عليهم أن يقوموا بمجموعة من الاحترازات كالتأكد من أن النوافذ والأبواب مغلقة بإحكام شديد، وزيادة في توفير فرص الأمن يفضل أن يخرج أحدهم الى خارج المنزل يلصق أذنه على زجاج النافذة للتأكد من أن صوت المرشدي لا ينفد الى خارج المنزل .. وكل هذه الإجراءات خوفاً من أن يجدوا أنفسهم متهمين بالعمالة والخيانة الوطنية .

الحال نفسه في جنوب الوطن، فربما حسب المستمع إليها على عبد الفتاح إسماعيل المقيم في موسكو وقد يصنف شخص سمع أنه كان يترنم بها أنه ضد علي ناصر محمد.

بعد أحداث يناير الدامية، وهروب علي ناصر إلى شمال الوطن أعيد بثها من إذاعة وتلفزيون عدن لكنها ظلت في شمال الوطن ممنوعة حتى قيام الوحدة.

وكما قلت كأن قدر هذه الأغنية الجميلة الرائعة كلمات وألحاناً وأداءً الى جانب أغنية نشوان للدكتور سلطان الصريمي وللفنان ذاته ــ المرشدي ــ أن تظلا محجوبتين .

حجبت .. مرة أخرى نهائياً بعد أحداث 1994م .. منعت بقرار غير رسمي .. ولم يعد أحد يسمعها لا في تلفزيوني "صنعاء وعدن" ولا في إذاعات حضرموت وتعز والحديدة وعدن وصنعاء.

عندما سألت ذات يوم بعض الموظفين في هذه المؤسسات عن السر في ذلك؟ .. تراوحت الإجابات .

هل تريدهم يقطعوا عيشي ؟ .. هل تريدهم يحيلوني إلى التحقيق؟ ومنهم من قال : إن لم يتم فصلي فقد يحاربوني في راتبي.. أو قد يقولوا لي خليك في البيت .. ومنهم من قال : هذه أغنية سياسية محرمة .

المهم أن الأغنية قامت حولها دائرة سوداء مكتوب عليها علامة ( اكس ــ xـ ) علامة خطر وتحتها مكتوب ممنوع الاقتراب.. وبعبارة مختصرة تحتها خطوط حمراء .

المرشدي : أجمل ما غنيت

في إحدى اللقاءات الصحفية مع الفنان محمد مرشد ناجي قال- حد ما أتذكر- إن أجمل ما لحنه هو لحن أغنية تاج النهار .. أي مخلف صعيب.

واستغرب منع هذه الأغنية من البث الإذاعي والتلفزيوني ، ومما جاء في حديثه "يفترض أن التعامل مع الأغنية كنص شعري بصرف النظر عمن يكون كاتبه .

وأظن أن إجابته تلك جاءت رداً على سؤال وجه إليه عن سبب احتجابه ,ورفضه تسجيل اللقاءات التلفزيونية أو الإذاعية أو الصحفية.

المرشدي كمناضل وطني وباحث موثق لموسيقى الغناء اليمني علاوة على كونه فناناً كبيراً من حقه أن يغضب .. فكيف إذا كان هو صاحب الأغنية تلحيناً وأداءً؟!

من حقه ليس الاحتجاج أو الصمت والانزواء من تسجيله لقاءات إعلامية فحسب بل ورفع حتى قضية ضد كل المؤسسات المعنية إن أراد .. هذا جانب والجانب الآخر لأن المرشدي فنان يحترم رسالته فمن حقه أن يرفض أي تسجيل بناء على ذلك .. لأن البديهي أن يوجه إليه سؤال : ما هي أجمل أغنية لحنتها؟ وبصيغة أخرى : ما هي أقرب أغنية إلى نفسه.. أي المرشدي؟

إذاً ما قيمة أن تجرى معه مقابلات ولم يسأل مثل هكذا سؤال.. بل قد يرحل عن دنيانا – بعد عمر طويل إن شاء الله – والأغنية محظورة وفي قلبه غبن عليها.. فأي وعي هذا الذي يمنع أغنية بريئة من أن تذاع ؟ خاصة إذا علمنا أن الأغنية ليس فيها ما يستدعي كل هذا الحظر والمنع لها .. فهي لا تسيء إلى الوطن إطلاقاً، ولم تقصد أشخاصاً بعينهم فيها .. الأغنية تعبر بصدق عن تجربة صادقة وحب عميق للوطن منذ مطلعها حتى نهايتها .. بأسلوب يجمع بين السرد والشعر والغناء .وقد أجريت عليها عديد قراءات أخرها الندوة الأخيرة التي نظمت بداية هذا الشهر في قاعة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين .

الاغـنيـة

(1)

بَكّرت غَبش عاد الصباح ما حَنش

قُدَّام ضباب نصف الطريق ما بَنش

فوفي نكَاب جَنبي ضِيَاح مَوهِِنش

عاد الصباح يُولد ونُوُره ما شَنَش

مَخلَف صُعِيِّب لكن قُلَيبي ما هِنش

مَهمَا تِوجَّع في هواك ما أنش

(2)

شوق الصباح إشراقتُه شجونِك

يُمحي الغَسَق يمحي الضباب حَنينِك

تاجَ النهار ويعكسُه جَبينِك..