أرشيف

انسداد أفق التسوية للأزمة اليمنية يفتح البلاد على خيارات كارثية

يتجه مشهد الأزمة السياسية القائمة في اليمن صوب المزيد من التعقيد والاحتقان في ظل حالة من المراوحة والضبابية لا تزال تكتنف موقف الرئيس علي عبدالله صالح حيال مبادرات التسوية السلمية كافة التي اعتمدت مبدأ التنحي عن السلطة كأرضية لإنهاء تداعيات الأوضاع المأزومة الراهنة في البلاد .
حرب الأرقام كخيار مكلف لجأ إليه الرئيس صالح عبر الظهور المنتظم منذ خمسة أسابيع على المنصة المقابلة لساحة العروض بميدان السبعين وسط حشود غفيرة من مؤيديه، وإن مثل تكنيكاً سياسياً يستهدف دحض رواية أحزاب المعارضة الرئيسية والمعتصمين المطالبين بإسقاط النظام بأن ثمة ثورة شعبية مكتملة الأوصاف تعتمل على واجهة المشهد الشعبي في اليمن وأن الإرادة الشعبية اليمنية اتحدت على مطلب التنحي الفوري للرئيس عن السلطة، إلا أنه التكنيك ذاته في الغالب لن يصمد على المدى المنظور أمام اتساع نطاق ساحات الاعتصام في 17 محافظة، والازدياد اللافت لإعداد الملتحقين بشكل يومي بهذه الساحات، والارتفاع المقابل في حصيلة ضحايا القمع الأمني والعسكري للثورة الناشئة التي باتت تكتسب كل يوم أرضية جديدة، فيما تنحصر قدرات النظام والرئيس على حشد المؤيدين والأنصار على العاصمة صنعاء ولساعات محدودة من نهار “الجمعة” يعود هؤلاء بعدها إلى مناطقهم المتاخمة للعاصمة .
استنفد الرئيس صالح معظم أوراقه التي راهن عليها منذ بدء الأزمة السياسية الراهنة بدءاً بطرح المبادرات المتعددة، مروراً باستحداث إصلاحات جديدة واعتماد زيادات مالية في مرتبات الموظفين ورفع سقف المشمولين بمظلة الضمان الاجتماعي من الأسر المعدمة، وخفض تعرفة الضرائب على بعض الخدمات الأساسية، وانتهاء بحث السعودية ودول الخليج والولايات المتحدة عن بذل مساعي وساطة لإنهاء الأزمة ، ليواجه الرئيس الذي يحكم اليمن منذ 33 عاماً مفردات واقع صعب من العزلة وانحسار الحضور وتداعي الهيبة التي عبرت عنها مشاهد غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين الحاكم والشارع العام في اليمن من قبيل صفع صوره المجسمة المثبتة على الجدران وواجهات الشوارع الرئيسية بالأحذية وإحراقها في الساحات العامة بالمدن والتعرض لتطاول بلغ مؤخراً حد المطالبة بإقامة حد التعزيز المقرر شرعاً على جريمة “القذف” على شخصه عقب اتهاماته للمعتصمين والمعتصمات بساحة التغيير بصنعاء بممارسة الاختلاط على خلاف ما تقره الشريعة والأعراف الاجتماعية السائدة .
فقد الرئيس صالح خلال شهرين ما لم يفقده في أشد الأزمات السياسية التي واجهت نظام حكمه منذ عام ،1978 حيث تخلى عنه حلفاؤه الرئيسون في الحزب والقبيلة والعديد من رموز أركان حكمه . كما تراجع سقف الدعم الخارجي الذي كان يستمده من تحالفاته مع دول كالولايات المتحدة وبريطانيا لتشهد الأسابيع القليلة المنصرمة تقليصاً لافتاً لمستويات التمثيل الدبلوماسي من قبل العديد من الدول التي سارعت إلى إجلاء دبلوماسييها وموظفيها العاملين في السفارات والممثليات الدبلوماسية في صنعاء وعدن، بالتزامن مع إغلاق مؤسسات دولية مانحة مكاتبها التمثيلية في البلاد بشكل نهائي كالبنك الدولي الذي رحل موظفي مكتبه كافة في اليمن إلى الأردن، ووكالة التنمية الدولية الأمريكية التي بادرت إلى اتخاذ تدابير مماثلة بإجلاء موظفيها من صنعاء إلى واشنطن، فيما جمدت دول كهولندا وألمانيا الاتحادية اللتين تعدان من أبرز الدول المانحة التقليدية لليمن حافظة المشاريع الممولة من قبلهما احتجاجاً على “الاستخدام المفرط للقوة من قبل القوات الأمنية اليمنية في قمع المتظاهرين والمعتصمين سلميا بالساحات العامة” .
التنحي الطوعي للرئيس صالح عن السلطة، وإن مثل المخرج الأقل تكلفة لتسوية الأزمة السياسية القائمة في البلاد، إلا أن الوصول الآمن لتحقيق مثل هذه التسوية المنشودة لا يزال رهناً بانتهاء حالة مفرغة من المناورات والسجالات السياسية القائمة بين طرفي الأزمة والتي تعبر في مجملها عن انعدام تام للثقة بينهما وهو ما قد يتطلب بالضرورة البحث مجدداً عن صيغة توافقيه تؤمن تسوية منصفة تبدد توجسات الرئيس حيال إمكانية تعرضه لمصير مماثل لما آل إليه حال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عبر الحصول على امتيازات التنحي الآمن والخروج المشرف من السلطة وتحقق مطالب ثورة الشباب والمعارضة بطي صفحة حكم امتد لأكثر ثلاثة عقود وتدشين حقبة الجمهورية اليمنية الثالثة، وفي حال تعذر تأمين مثل هذه الصيغة التوافقية، فإن الأوضاع الراهنة والمحتقنة في اليمن، ستكون مفتوحة على خيارات كارثية من قبيل الانزلاق في معمعة واسعة النطاق من الاقتتال الداخلي والأهلي .

زر الذهاب إلى الأعلى