أرشيف

جعار . . تفاصيل حياة يومية وملامح دولة تلاشت

حتى أيام خلت، كان الدخول إلى مدينة جعار بمحافظة أبين (شرقي مدينة عدن)، من جهة منفذها الجنوبي، أمرا ينم عن مغامرة، فخطوط التماس مع جارتها الصغرى منطقة “المخزن” تنبئ عن آثار دمار للمنازل، وشواهد ذلك قذائف الدبابات والمدفعية الثقيلة طويلة المدى على مدى يومين مطلع الشهر الجاري، بين قوات الجيش والأمن المركزي والجماعات المسلحة التي بادلت القوة المتموضعة على أطراف المدخل الجنوبي معززة بالأطقم والدبابات والمدفعية المتوسطة، فيما أسلحة الجماعات لا تتعدى الكلاشينكوف وال”آر .بي .جي”، وثمة عربات مصفحة هي حصيلة ما استولوا عليه قبيل يومين من موقع جبل خنفر، حيث يقع القصر الرئاسي وإذاعة أبين ومصنع 7 أكتوبر العسكري الذي شهد أكبر محرقة مأساوية ذهب ضحيتها ما يربو على 164 ضحية من نساء وأطفال ورجال ومئات الجرحى بحروق بالغة تركت على من تبقى على قيد الحياة آثارها التشويهية .
ومع كل ما جرى، لا يزال المشهد في مدينة جعار يحوي الكثير من المتناقضات والأحجية والألغاز، ذلك أن ملامح أو علامات الدولة أو السلطة قد اختفت أو تلاشت وسلمت أمرها بكل سهولة ويسر بعد أن “تسلم” أو اقتحم المسلحون مبنى إدارة الأمن من دون أدنى مواجهة، وكذلك الحال موقع وثكنة جبل خنفر، ناهيك عن الصيد الثمين، المتمثل في مصنع 7 أكتوبر الذي استسلم أفراد حاميته العسكرية بما لديهم من عتاد عبارة عن مصفحتين ومدفع 23 مضاد للطيران محمول على شاحنة “كراز” الروسية .
وبعد أن استولى المسلحون على ما وقعت عليهم أيديهم من ذخائر الكلاشينكوف وأخرى لسلاح “الغرنوف”، قيل إنها لم تكن في مستوى توقعاتهم، وقعت أيديهم أيضاً على مخزن يحوي كمية لا بأس بها من مسحوق متفجرات “أنفو” تزيد قليلاً على ألفي كيلوغرام تتبع أحد مشاريع الطرق جرى تخزينها، وهو الأمر الذي استشعرت معه قيادات عسكرية بالخطر، إضافة إلى أن واقعة المحرقة شكلت صدمة مروعة ليس من السهل نسيانها لا سيما أن كل الذين ذهبوا ضحية لهذه المحرقة كان وجودهم لحظتها ليس بغرض النهب، بل إن دافع الفضول كان واحداً من الأسباب باعتبار الوصول أو مجرد التفكير إلى ذلك المكان ليس منالاً سهلاً باعتباره من الأسرار العسكرية، ناهيك عن أن مستودعات للغذاء كانت مغرية لبعض الأسر الفقيرة ممن تحيط قراهم البسيطة بالمصنع .
إيقاع خائف
إيقاع الحياة في جعار يتوزع بين الخوف والرجاء، الشك واليقين، الدهشة وقوة العادة، الأمن والرهبة والجزع، وكل هذا لم يمنع سير الحياة في المدينة . وبدت للتو حاجة الأهالي للجان شعبية تتولى حراسة الأحياء السكنية، إلا أن رغبات أو أجندات الجماعة المسلحة باتت غير مفهومة، لا سيما وهم يعتقدون أن انسحاب الجيش إلى زنجبار بعد مواجهات اليومين الماضيين يعود إلى أنهم حققوا نصراً عسكرياً ميدانياً، وبلغ بهم الأمر إلى التجوال بالغنائم جيئة وذهاباً في أجواء من الصمت المطبق ، إلا من هدير جنازير الدبابة الوحيدة التي تركها الجيش إثر انسحابه، وهو يسمع ليلاً مع ما بقى صالحاً من مدرعتين إلى ثلاث أيضاً .
أحد العسكريين المتقاعدين من سكان المدينة وصف المواجهات ب”المناورة التكتيكية”، ذلك أنها لم تخلف أي خسائر بشرية إلا من جندي وجريحين، كما قيل وكمين وضعه المسلحون في منطقة “الجول”، التي تبعد نحو 7 كلم من زنجبار أثناء انسحاب الجيش من جعار .
المثير في الأمر خلو المدينة منذ المواجهة حتى اللحظة من أي حوادث أو جرائم تذكر، ولم يعد يسمع حتى صوت طلقة رصاص واحدة، وعلى الرغم من تزايد وجود المسلحين خصوصاً في وقت الظهيرة في “سوق القات” التي تتوسط المدينة على الشارع العام، إلا أن الأمر لم يعد يخيف أحداً باعتباره مشهداً مألوفاً ولا يثير الغرابة، حتى إن بعض الشباب وجد في ذلك ما يستحق التقليد والمجاراة، لكن بعد أن يعصب رأسه بربطة يتعارف عليها مع ذيل يلتف حول الذقن وإلى مستوى الأذن إذا دعت الحاجة للتلثم، مجاراة للملثمين بما يعرفون هكذا، بعضهم يتبختر على دراجة نارية وآخرون ينتعلون جلود أقدامهم حتى لو كانت الأرض تصليهم ناراً .
وإذا دلف المساء يخيم السكون والحذر بعد أن يخرج الناس من صلاة العشاء من مساجدهم يتهامسون أو يحدثون بعضهم بعضاً عن الحال العام للبلد وبعض خصوصيات جعار، لكن على استحياء وحذر . وتجد الجماعات فرصة لعرض بعض مشاهد مصورة كما قيل عن معركتهم الأخيرة على أبواب جعار فيها ما يثبت روحهم الجهادية حين يلاحق بعضهم أو أحد منهم بالكلاشينكوف أو سلاح “آر .بي .جي” دبابة متحركة، أو هكذا قيل عن مشاهد الواقعة مصحوبة بالتكبير، وفي ليلة أخرى عن فضائل جمع الزكاة، وهكذا .
حياة متعبة
الجو العام والمشهد السياسي لم يغب هو الآخر عن أزمة الغاز إلى تعطيل مدارس التعليم في المدينة بكل مستوياتها وخلو مرافق الدولة من الموظفين والمراجعين عدا مستشفى الرازي العام الذي تأثر هو الآخر بصعوبة حضور الأطباء والطواقم التمريضية، خصوصاً من النساء، إضافة إلى محدودية قواطر الإسمنت المعنية بتسويق ونقل مصنعي الإسمنت في باتيس، بحسب ما يردده البعض من بروز خلافات حادة بين هذه المجاميع المسلحة التي قيل إن بعضاً من أفرادها قدموا إلى جعار قبيل وأثناء المواجهات وتحديداً من مودية ولودر ومناطق أخرى ترددت أسماؤهم “الكودية” الرمزية، أي النداء بالكنية، كانت تتخذ من القصر الرئاسي في خنفر موقع إقامتها، لكنها اعتبرته هدفاً، وعليه العين أخذت بالذوبان بين سكان الأزقة والحواري الضيقة ولا تخاطب أحداً إلا من وراء اللثام .
ويقال إن أعداداً منهم ربما غادرت أو تخفت، ولم يبق إلا من كانوا وجوهاً أو رموزاً معروفة خاضوا مع الحكومة أو السلطة جولات عدة من المواجهات في حطاط وجعار في أوقات سابقة .
فيما يتردد أن القصر الرئاسي لا يزال معقل القيادة أو المرجعية التي تدير أمور هذه الجماعات التي تتجنب الدخول في الشأن العام أو الخاص للمواطنين عدا ما يمس وجودهم وأماكن أوكارهم، إن صح التعبير .

زر الذهاب إلى الأعلى