أرشيف

الدولة المدنية والدولة الدينية -بقلم: بهاء طاهر

الأهرام المصرية
أكن احتراما وتقديرا كبيرين للمستشار طارق البشري كمفكر مصري بارز‏,‏ وأعتقد أنه يبادلني ود بود‏,‏ برغم تيقني من أننا نختلف في الرأي في موضوع الدولة المدنية والدينية‏.‏

تزاملنا عن بعد في منتصف الستينات عندما كنا كلانا, نعمل في مجلة( الكاتب) الثقافية الشهرية, إذ كان ينشر أيامها في المجلة فصول كتابه بالتتابع عن الحركة السياسية في مصر1945 ـ1952 وكنت أنا أحرر بابا شهريا عن المسرح, وأتابع بكل شغف مقالاته المنجمة في المجلة, التي كانت تعكس انحيازا لنضال حزب الوفد القديم في تلك الفترة ضد الاحتلال الانجليزي والسراي الملكية. وقرأت الكتاب كاملا بعد ذلك وما تيسر لي قراءته من أعمال المستشار الأخري.
وقد قرأت حوارا مع المستشار البشري أجرته الكاتبة د. ليلي بيومي في عام2007 يتضح منه أنه قد مر بتطورات فكرية جعلته ينبذ العلمانية التي كان يميل إليها في فترة الشباب ويتحول إلي الايمان بمبادئ الإسلام الشامل منهجا للحياة ويقول بنص عبارته: بدا لي الفكر العلماني في مأزق لأنه يؤدي إلي تجريد الإنسان من هويته المرتبطة بعقيدته وحضارته, بالإضافة إلي أنه مناقص لقيم الديموقراطية.
وكتب المستشار البشري أخيرا ثلاثة مقالات بالغة الأهمية في صحيفة الشروق المصرية, أتوقف منها عند مقاله المعنون في الجدل حول المدنية والدينية ومحور المقال هو أن الجدل حول الخيار بين الدولتين لا مجال له, فنحن نظنهما علي قوله دولتين نختار بينهما, بينما هما شيء واحد.
ويقول إذا كانت المدنية مقصودا بها الصالح الدنيوي للجماعة الوطنية فهي طبعا لابد منها لانتظام الجماعة, وإذا كانت الدينية تعني الأصول الثقافية السائدة لدي الجماعة البشرية الوطنية والتي تحفظ قوة تماسكها فهي لازمة وضرورية.
وكما تري فإن المستشار البشري يستند إلي خلفية قانونية فكرية, وهو الدارس والممارس للقانون, ليصل إلي نتائج تبدو منطقية تماما, ولكنها قابلة للنقد والتعديل بالمنهج ذاته إذا ما صيغت مقدمات مختلفة يمكن أن تفضي إلي نتائج مختلفة, فإذا قال إن الديموقراطية تتمثل في توافق تيارات فكرية وسياسية مختلفة في إطار دستور يكفل لكل التيارات حريتها والتزامها بحرية التيارات الأخري فهو لن ينتهي بالضرورة إلي وجود أصول ثقافية مشتركة تنظم هذه التيارات جميعا وتجسد لها هوية مشتركة, بل قد يكون هناك قبول لتعدد الهويات وتآلفها في إطار احترام الدستور والالتزام به.
ويمكن أيضا الدخول إلي موضوع الدولة المدنية والدولة الدينية من باب التاريخ الذي يجيد المستشار قراءته ويتقن كتابته, والذي اتيح لي أيضا أن أدرسه.
ولابد منذ البدء أن أوضح أنني مسلم أؤدي فرائض الله وانتهي عن نواهيه وأرجو أن أكون عنده مقبولا ولا أزيد. ومن منطلق هذا الإيمان بالدين الحنيف فإنني لا أخفي الآن, ولم أخف في كل ما كتبت من قبل, إنحيازي للدولة المدنية التي تكون مرجعيتها الأساسية كما قلت هي الدستور والقانون المدني والجنائي وسائر أفرع القانون التي يضعها مشرعون ملتزمون بالدستور. ولم أخف أيضا فيما أكتب استرابتي في عبارة الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية. فهذه المرجعية منصوص عليها في الدساتير المصرية, وحتي في الإعلان الدستوري الأخير الذي ينص علي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
غير أني أرفض أن تتولي أي جماعة أو حزب تفسير تلك المرجعية واحتكارها. فتلك هي المقدمة الطبيعية لقيام الدولة الدينية التي عاني عالمنا الإسلامي منها ومازال يعني الويلات.
وقد انتبه إلي هذا الخطر أشهر وأعمق مفكري التاريخ الإسلامي, إبن خلدون, الذي شرح في مقدمته الذائعة الصيت قبل قرون أن الفتن التي تتخفي وراء قناع الدين تجارة رائجة( ولا سيما في عصور التراجع الفكري للمجتمعات وهذا التفسير من عندي) إذ لاحظ ابن خلدون تواتر ظهور جماعات بين فترة وأخري تدعو إلي اقامة شرع الله والعمل بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام, ويصل في تحليله إلي جوهر الموضوع فيقول وأغلب المنتحلين لمثل هذا تجدهم يطلبون بهذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلي ما يؤملونه.
وأعتقد ان ابن خلدون يعني هنا قادة تلك الحركات ولا يعني الأتباع الذين قد يضللهم القادة ولكنهم غالبا ما يكونون مخلصين في ايمانهم.
ولكن هل يكفي الإخلاص؟
ربما كان بن لادن مخلصا حين تصور أن تدمير البرجين فيما أسماه غزوة نيويورك هو جهاد يثاب عليه. ولكن غزوته أسفرت في النهاية عن تدمير بلدين إسلاميين, أفغانستان والعراق الشقيق. وربما كان جعفر النميري والبشير مخلصين في أنهما يطبقان الشريعة, لكن هذا التطبيق الذي بدأ ببتر الأيدي والحرب علي الكفار انتهي إلي بتر جنوب السودان من شماله, وهذان مجرد مثالين علي ما يمكن أن يحدث حين يتصور الحاكم أو الزعيم الديني أنه معصوم من الخطأ لأنه ينسب أفعاله إلي المرجعية الدينية.
وليس الأمر مقصورا علي عالمنا الإسلامي بطبيعة الحال, فحيثما يكون الحكم مستندا إلي هذه المرجعية تتتالي الويلات. فلننظر مثلا إلي حكم الامبراطورية الرومانية المقدسة في أوروبا العصور الوسطي المستندة إلي الكنيسة الكاثوليكية. فباسم الدين كانت مجازر محاكم التفتيش التي تفتش في إيمان الناس وتحكم بالإعدام والحرق.
ولعل إدراك السياسي التركي الحصيف الطيب أردوغان للمشاكل التي تترتب علي ربط الدين بالحكم, هو الذي دفعه إلي توجيه تحذيره وتنبيهه الرقيق حين زار مصر مؤخرا. إذ قال ما معناه إنني سياسي مسلم ومن الوارد أن أرتكب خطأ كإنسان معرض للخطأ, فلو نسبت سياستي إلي الإسلام فقد يسيء خطئي إلي الدين الحنيف, وأنا أربأ بديني ونفسي عن هذا المنزلق. وقال إن الحاكم مرجعيته في تركيا الدستور الذي يساوي بين جميع المواطنين, متدينين وعلمانيين وغيرهم.
وحين قال ذلك أغضب دعاة المرجعية الإسلامية, حتي وهم بعيدون عن الحكم( حتي الآن).
وبين أوراقي ما اعتبره( وثيقة) مهمة تلقي الضوء علي كثير مما يجري الآن في الوطن وما يدبر له في المستقبل.
فبعد انتخابات2005 التي فاز فيها الإخوان بعدد كبير من المقاعد في البرلمان نشر الدكتور محمد حبيب الذي كان يشغل منصبا رفيعا في مكتب الإرشاد مقالا في مجلة الشرق الأوسط السعودية التي تصدر في لندن بعنوان بالغ الدلالة وهو حكم الإخوان غير وارد ولكن هكذا نتصور الحكم.
ومن يعرف شيئا عن تنظيم جماعة الإخوان المسلمين المحكم والمنضبط يدرك أن مقالا يمثل هذه الخطورة لا يمكن نشره إلا إن كانت قيادة الإخوان توافق علي مضمونه( إن لم تكن قد راجعت نصه), ومع أن الدكتور حبيب قد ترك جماعة الإخوان في وقت لاحق, فمن المهم أن نري كيف تصورت قيادة الإخوان حينها الحكم وأن نري إن كانت تصوراتها قائمة حتي الآن أم لا. ونظرا لضيق المساحة فسأركز في هذه الكلمة علي تصور نائب المرشد السابق عن علاقة الدين بوضع الدستور, وهو موضوع الساعة الملح الآن المتمثل في رفض أي مبادئ أو ضمانات للحفاظ علي مدنية الدولة من جانب الإخوان وحلفائهم في التيارات والأحزاب الدينية.
في البند ثانيا من مشروع الحكم النظري أيامها يقول الدكتور حبيب كلاما ليبراليا جميلا عن الفصل بين السلطات, ثم يقترح أن تختار السلطة التشريعية مجموعة من أصحاب الكفاءات الفقهية والقانونية والسياسية لتقوم بوضع دستور جديد مستهدية بقواعد الشريعة الإسلامية. ومعني ذلك أن المشرعين الجدد لا يكتفون بالنص الوارد في المادة الثانية من الدستور بل إنهم كانوا يريدون, ومازالوا يريدون بطبيعة الحال ـ أن يفصل الدستور الجديد اختصاصات السلطات الثلاث علي أساس ديني ستترتب عليه بالتأكيد قوانين تفصل أيضا ما يجمله الدستور, ومن هنا النص علي كفاءات فقهية تختارهم السلطة التشريعية لوضع الدستور الجديد. وهم ليسوا فقهاء دستوريين لأن المشروع يضيف بعدهم الكفاءات القانونية. فمن يا تري تلك الكفاءات الفقهية إلا أن يكونوا فقهاء في الدين يعهد اليهم بالشق الديني في صياغة مواد الدستور؟ وما هي الدولة الدينية إن لم تكن هي ذلك بالضبط؟
يلقي هذا البيان القديم كما ذكرت ضوءا علي التشبث المستميت بحق لجنة الدستور التي يتوقعون تشكيلها من رجالهم في صياغة الدستور علي هواهم دون أي قيود, لكي يتم المشروع الأساسي الذي حذر منه أردوغان المسلم الطيب وهو إقامة دولة دينية بلا مواربة, لا علاقة لها بمقومات الدولة الديمقراطية الحديثة.
وقد اقتربت الآن ساعة الفصل في الانتخابات الموعودة وأي كلام أكتبه الآن أو يكتبه غيري لن يؤثر علي قرارات الناخبين ولا علي الظروف الموضوعية التي ترسم الأمور علي الأرض وتحدد خيارات الناس, وهي ليست كلها ظروفا مواتية لإرساء الحرية التي نتمناها, و لكن من واجبنا أن نجهر بما نعتقد أنه الحق وأنه يحقق مصلحة الوطن حتي ولوكان ذلك في مستقبل نرجوه قريبا بإذن الله.

 

 

المصدر : الأهرام المصرية

زر الذهاب إلى الأعلى