فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. فترة الاستجداد

يمنات

أحمد سيف حاشد

كانت فترة (الإستجداد) في الكلية العسكرية بعدن خمسة و أربعين يوما، يبدأ احتسابها من يوم الالتحاق بالكلية، و هي فترة ثقيلة و شديدة الوطأة على الطالب، و يعطي عبورها مؤشرا أوليا على قدرة الطالب، و استعداده اللاحق على تجاوز ما بعدها .. كان عدد غير قليل من الطلاب، يتسربون أو يهربون خلال فترة الاستجداد، عندما لا يستطيعون تجاوزها، أو يهربون من اكمالها..

كان يتم قبول عدد أكبر مما يتعين قبوله في الدفعة، أو بالأحرى على نحو يزيد عمّا هو مطلوب، ثم تتم التصفية و يتناقص العدد حتى يصل إلى العدد المطلوب .. تبدت لي نظرية البقاء للأقوى أو للأصلح فاعلة خلال مرحلة الاستجداد، و كانت تلك المرحلة هي الأصعب خلال العامين الدراسيين، و السؤال المُلح أمام الطالب خلال فترة الاستجداد هو: هل تستطيع اكمال فترة 45 يوم أم لا..؟؟

فترة الاستجداد كانت علينا عصيبة و مرهقة جدا .. مثقلة بالحزم و الشدة و الصرامة .. عقوبات شديدة لأبسط و أتفه سبب أو خطأ ترتكبه، بل أحيانا يصل إلى الحد الذي لا تستطع أن تدرك ما بدر منك من خطاء .. كنت أشعر أن من يتخذون تلك العقوبات يقصدون التطفيش لا أكثر، و أحيانا أشعر و كأنهم يمارسون الانتقام و التشفي في آن .. و في أحايين أخرى أشعر أن من يتخذوا بعض تلك العقوبات علينا، مرضى بالسادية و عقد النقص..

كانت ساعات الحركة النظامية طويلة و مرهقة .. ابسط خطأ يقابله عقابا شديدا و مضنيا، و ما تقضيه في الحركة النظامية و التدريب و التعليم و تنفيذ العقوبات الواقعة عليك، و العقوبات الجماعية المرهقة التي تطالك، لا تبقي لك من الوقت إلا أقل من القليل، و هي عبارة عن فسحات محدودة و ضيقة، أهمها فسح تناول وجبات الطعام الثلاث..

أي ضابط مناوب أو حتى ضابط عابر في ساحة وحرم الكلية، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة الشاقة التي يريد، بل حتى الطالب من الدفعة السابقة، و التي لم تتخرج بعد، يمكنه أن يوقع عليك العقوبة التي يريدها، و ما عليك إلا التنفيذ دون اعتراض..

كانت العقوبات الجماعية أيضا شديدة الحضور من قبل بعض الضباط المناوبين .. عقوبات جماعية تتخذ أحيانا لأسباب لا وزن لها ضد كتيبة أو سرية كاملة أو فصيلة أو حضيرة، و لا يوجد من يمانعها أو يعترض عليها، غير التمرد المسكون في بعضنا، و الذي نعبر عنه بالتململ، أو اللعن في غيبته، و نظرات الإزدراء التي نطلقها عليه في حضوره..

كان الضابط مصدّقا علينا و لا يُرد له كلام، بل كان أي طالب من الدفعة السابقة التي لم تتخرج بعد، مصدّقا علينا دون شك أو ظن .. كان النظام المتبع يقوم على مبدأ “نفذ ثم ناقش” و من ضمنها تنفيذ العقوبات .. و إذا تظلمت من إجراء أو عقوبة ليس عليه أن يثبت أو يقدم دليلا، لأنه وفق ما هو ساري و نافذ من نظام متبع هو الصادق و أنت الكذوب، و إذا أردت أن تتظلم لزمك إحضار الدليل و إثبات ما تدّعيه..

ممنوع المشي أو السير البطيء في الكلية، عليك دائما الركض، فإن توانيت أو تساهلت أو أبطأت فيه، يتم إيقاع العقوبة عليك؛ لأنك خالفت نظام الكلية، و لا حتى عقوبة محددة تساوي قدر المخالفة، فالأمر يرجع إلى من ضبط المخالفة، و بالتالي يتخذ الجزاء الذي يراه مناسب .. الركض هو الأسلوب الوحيد الذي عليك اتباعه أثناء تحركك في أروقة الكلية..

فترة الإستجداد في الكلية هي المرحلة الأكثر صعوبة و تستدعي من الطالب كثيرا من الانضباط و الجلَد .. و هي الخطوة الأولى التي تنقلك من رجل مدني إلى رجل عسكري مختلف الطباع .. مرحلة الاستجداد هي محك حقيقي و اختبار مضن يتحول خلالها الطالب من المدنية إلى العسكرية بصرامتها و ضوابطها .. مرحلة “الضبط و الربط العسكري”.

الملابس العسكرية النظامية كنت اشعر انها ثقيلة جداً، و تضايقني عند التدريب خاصة مع فصل الصيف الطويل و الشاق .. و بعد فترة الاستجداد كان يتاح لنا الخروج يوماً واحداً في الأسبوع..

و أنا أخرج من حرم الكلية بملابسي المدنية اشعر بحرية كبيرة لا تضاهى كشعور أسير تحرر من قيوده الثقيلة التي ظلت قدماه ترسف بها طويلاً .. أحس أنني خفيف الوزن كعصفور .. أشعر بلياقة و رشاقة و خفة وزن لم أكن أشعر بها من قبل .. أخرج من عالم ضاغط إلى عالم حر و مريح .. خروجي من الكلية إلى المدينة و الناس، يجلب لي الشعور بالسعادة الغامرة.

كنّا إذا خلعنا ملابسنا الثقيلة بعد ساعات طوال في الكلية نلبس ثياب الرياضة الخفيفة بقية اليوم و هي عبارة عن (فانلة) بيضاء و سروال قصيرة أزرق .. كنت أشعر إن ذلك اللباس القصير عورة و لا يليق، و لكن مع مضي الأيام اعتدتُ عليها، بل و أحبذها على الملابس الثقيلة التي أُلزم على ارتداءها لساعات طوال في أوقات النهار.

كنت منزوٍ و خجول .. و كانت أكثر الأوقات إحراجاً لي هي تلك القترة الصباحية التي نغتسل فيها فجر كل يوم، و أحيانا نكررها عند الظهيرة أيضا، خصوصا في فصل الصيف .. كانت حمامات سكن الطلاب مصممة دون أبواب، و زائد على ذلك إنها متقابلة، و كل شخص يغتسل يشاهد الآخر عاريا أمامه، و كان هذا الحال يضايقني كثيرا، و أشعر أنه يخدش حيائي بسكين، و يسبب لي كثيراً من الخجل الذي اراه فوق طاقة الاحتمال..

أنا و صديقي الطيب في مدرسة البروليتاريا وثبنا يوما من سطح أحد أبنية القسم الداخلي التي كانت لاتزال غير مأهولة و جاهزة .. بدأ صديقي بالقفز، و أثناء القفز رفع الريح سترته، فبانت عورته .. كان الإحراج عليه شديدا، و حمرة الخجل الأشد على وجهه كان يخالطها السواد، و تحتاج لمرور بعض الوقت لتتلاشى، و ربما ظلت الصورة عالقة رغما عنا بعض الوقت، و نحن نحاول أن نتجاوزها و لا نريد تذكّرها..

هاجس جاس في مخيلتي يوما، و جعلني أتخيل غسلي بعد موتي من قبل غاسل الموتى .. شعرت بالعيب و عار العورة، و غصت بالحياء رغم افتراض موتي .. كان حياءنا الباذخ يغلب الموت..

و نحن بهذه الدرجة من وعي العيب كنت أسأل: كيف يمكن أن نغتسل و كل العورة بادية للعيان..؟! كنت أرى الأمر عقبة كأداء أغالبها بصعوبة جمة و حياء كثيف .. إنها أكبر من تجربة معاينة و فحص الطبيب التي مررت بها..

و فيما كنت أمر به صرت كحال ذلك الذي ورد في قول المتنبي:

“انا الغريق فما خوفي من البلل”

فمع تكرار فعل الاغتسال، و تكراره من قبل الأخرين، تحول الأمر عاديا و معتادا، و اكتشفت أن العورة تسكن الوعي أكثر من أي مكان آخر..

تعايشنا مع الأمر الواقع، و صرنا معتادين الحال، بعد أن كنت أراه مستحيلا، أو أخاله أكبر من المستحيل .. و من هذا عرفت مليا أن المرء على بيئته و وسطه و ما يعتاد عليه .. بإمكانه الانتقال و التكيف في الوسط البيئي الذي ينتقل إليه.

***

يتبع

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى