فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. كلية الحقوق .. تفوق ومعوقات..

يمنات

أحمد سيف حاشد

أزعم أن حياتي لا تعرف للغرور باب أو طريق، بل أظن أن الخجل الشديد قد طالني بخسران أشد، وقد خسرت في حياتي أشياء كثيرة؛ بسبب هذا الخجل الذي رافق حياتي، وسآتي على ذكرها لاحقا في مواضع عدة، إلا أنني أعتز بنفسي، حيث لازال ذلك الصدى حيا في مسامعي وهو يقول: “أعتز بنفسك. ارفع رأسك أنت قائد”، ولطالما أعجبتني تلك المقولة: “الجندي الذي لا يحلم أن يكون جنرالا فهو جندي خامل” وأعجبتني رواية “الخلود” للكاتب ميلان كونديرا، وهو يحدثنا على معبد المجد والخلود.. ولازالت عظمة المتنبي تستحوذ على كثير من إعجابي، منذ أن قرأت سيرته في عهد باكر من حياتي.. لا يمكن لشاعر أن يدعي النبوة إلا عظيم، وقد كان المتنبي كذلك.. كل محطات حياته كانت تجمع بين العظمة والشموخ والاعتزاز بالنفس والتمرد المستمر على واقعه الثقيل.. لازال وقع البيت الشعري للمتنبي حاضرا في وجداني وذاكرتي:
“إذا غامَرْتَ في شَرَفٍ مَرُومِ.. فَلا تَقنَعْ بما دونَ النّجومِ”

من البذار إلى القطاف كانت رحلتي الأولى في كلية الحقوق.. رحلة تقول بقدر ما تعطي يكون الحصاد.. بقدر الجهد المبذول تكون الثمار.. بقدر اجتهادك ومثابرتك تكون النتيجة.. الحصول على المركز الأول في الدفعة كان هو هدفي الأول.. التفرد يعني لا يوجد من يشبهك، وهو غير متأتي إلا بإحراز المركز الأول.. التميز يمنحك ما تستحق من المكانة، أما التفرد فلا يكون أقل من الأول.. إن تخليت عنه أو تخلى عنك، فستكون أمام الذهاب إلى ما دونه، وربما تصل إلى القاع أن تهاونت أو أرخيت همتك وعزيمتك..

لقد تطلعت إلى المركز الأول في الكلية العسكرية ونلته بجدارة.. وتطلعت في دورة الصاعقة إلى إحراز المركز الأول، وطلته باستحقاق.. والآن المركز الأول ليس بالمكان القصي حد المستحيل.. الأول وحده هو من يُشار له بالبنان.. يجب أن أكون في المقدمة.. أعجبت بذلك الذي قال: ” لا احد يذكر من حاز على المركز الثاني في السباق.” الأول يمنحك الشعور بالتفرد والتميز والجدارة.. هناك إنسان داخلي يحثني دوما نحو الصعود إلى القمة..

في السنة الدراسية الأولى حقوق بذلت جهد بمستوى التحدّي، وحجم الهدف الذي يليق، وجاءت النتيجة إحرازي للمركز الأول في الدفعة بدرجة لم يطلها أحدا في الدُفع السابقة من عمر الكلية..

ما من أحد لا تعتريه نقاط الضعف، وقد كنت أسد نقاط الضعف بفائض القوة التي احققها في بعض المساقات الدراسية الأخرى.. نقصان الدرجات في بعض المواد كان يدفعني إلى تعويضها في مواد أخرى لأبقى في المقدمة.. كما أعطى البخل والتشدد في منح الدرجات من قبل بعض أساتذة الكلية، تفوق ألذ وأمتع..

عندما تجد مجهودك يثمر ما يساويه من النجاح، من حقك أن تفرح، ومن حق الفرح أن يأخذ مداه ويغمرك بنشوته، ولاسيما عندما تعبر محطات الفشل والإخفاق والمُحبطات، وتتجاوز الصعاب والعقبات التي تعترض سير نجاحك، أو تحول دون أن تحقيق مزيد من النجاح والتفوق..

ومع ذلك أستطيع أن اقول أيضا وفي المقام ذاته، لست ذكيا بما يجعلني مفاخرا بهذه النتيجة إلى ذلك الحد، ولكن استطيع الزعم أنني كنت مجتهدا ومثابرا ومواظبا وموفقا في عنادي لتحقيق مثل تلك النتيجة..

أظن أن من جملة أسباب تحقيق مثل تلك النتيجة هي أنني كنت أحاول اطلّع في جزئية أكثر مما كان الاستاذ مطّلع فيها، أو حتى يكون قد أطلع عليها ولكن كانت في زاوية من ذاكرته، ثم يسمعها منّي أو يقرأها في إجاباتي دون الآخرين.. وبهذا أجد نفسي أتميز عن أقراني، وأضيف شيئا يجعل الاستاذ يعيرني رضى أكثر، أو يشعرني ببعض الإعجاب المعلن أو الكتوم، بسبب ما أحاول أن أميز نفسي فيه، عن زملائي، أو هكذا أظن..

وخلاصة ما تعلمته من هذا التفوق والنجاح أنه بإمكان الفاشل في محطات عديدة أن يعوض هذا الفشل في محطات أخرى تجلب له كثير من النجاح بل والتفوق أيضا.. تعلمت أن الظروف العابسة أو البائسة يمكنها أن تكون أيضا دافعا أو ملهما لكثير من النجاح.. تعلمت أن كل شخص فينا يمكنه أن يجد ما يميزه إن بحث عن هذا التميز واجتهد في الحصول عليه..

كل شخص فينا لديه ما لا يجده عند غيره، ومن يفشل في أمر فهذا الفشل ليس آخر العالم، بل لدى هذا الفاشل القدرة على التفوق في أمر آخر أن سعى إليه واجتهد .. المهم أن نكتشف أنفسنا أولا، ونعمل ونجتهد ثانيا من أجل التفوق في هذا الأمر أو ذاك، ولا نيأس ولا نستسلم للإخفاق والفشل.. والأهم من المهم هو أن هذا النجاح والتفوق يجب أن يقترن بشرف الوسيلة ونبل الهدف.

معضلتي كانت في السنة الأولى حقوق، بل نقطة ضعفي الأهم هي مادة الإنجليزي التي كانت تشدني بقوة وتسحبني إلى الخلف، والتي لم أتجاوز في محصلة نهاية العام في سنة أولى حقوق نسبة الـ 74% ولكنني استطعت أن أعوض ما فقدت فيها من درجات بتفوقي في المواد الأخرى، التي أحرزت فيها أكثر الدرجات..

في السنة الثانية تضافرت ثلاث أسباب لأتراجع للمرتبة الثانية، كانت الأولى وهي الأهم أن الحكم قد أخل بالمساواة بفرص وشروط السباق، عندما تعمد إفشالي في مساق “قانون الأسرة” وهو تعمد شعرت أنه كسر ظهري، وأغتال حلمي النّدي، فيما السبب الثاني كان موضوعي أعترف به، وهو ضعفي في مادة اللغة الإنجليزية الذي توارثته من سنوات خلت ترجع للمرحلة الابتدائية والإعدادية، بل وتراجعت في سنة ثانية عن نسبة ما حصلت عليه في السنة السابقة، حيث لم تتعد نتيجتها درجة مقبول بنسبة 61%، وقد أثّرت تلك المواد في المعدل العام في المحصلة النهائية، وأنطبق عليّ مثل “ضربتين في الرأس توجع” ..

هذا بالإضافة لأسباب أخرى أدركتني في سنة ثالثة ورابعة، أهمها خسارة نصفي في الحب، والفشل فيه بامتياز مع مرتبة الشرف، ومع ذلك لم تخرجني كل تلك الأسباب مجتمعة من دائرة مرتبة المنافسة في التفوق، وإن فقدت أو تأخرت في المرتبة إلى الثانية والثالثة والخامسة، ولتنطبق مقولة لتشارلز بوكوفسكي: هناك طرق كثيرة بإمكانك من خلالها أن تخسر السباق، وسبيل واحد لتكسبه”.

يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى