أرشيف

عام ونصف وعبد القادر المهدي يحدث زوجته كل أربعاء وبينهما حاجزين وعسكر

سنة ونصف ومحمد عبد القادر المهدي ينتظر عودة والده بعلبة الحليب التي خرج ليشتريها له في الساعة الرابعة من عصر الاثنين 19/2/2007م، ومذاك أيضاً كبر محمد ليبلغ العامين من العمر لا يعرف قبلة والده أو حضنه، ولم ينعم عبد القادر بالتالي باللوعة على بكاءه، أو الاستمتاع بضحكاته.

بيد أن من حسن حظ محمد أنه لم يدرك العالم بعد كي يحزن أو يبكي أو يفتقد والده، فيما شقيقتاه اللتان أدركتا أكثر مما ينبغي ماذا يعني غياب الوالد دون سبب، تعرفان أن عليهما أن تحزنا كثيراً.. كثيرا جدا حتى تشاء رغبات القائمين على معتقل الأمن السياسي بصنعاء.

في الرابعة من الاثنين المذكور كان عبد القادر المهدي عبد القادر عباس المهدي (38 عاماً، ويعمل مدرس رياضيات) يخطو أولى خطواته خارج الباب في مشوار صغير لا يستغرق أكثر من خمس دقائق لإحضار الحليب لطفله، فكانت تلك آخر مرة يغادر منزله، لأن ثمة خمسة أشخاص (أعفاط بالتأكيد) كانوا بانتظاره في مشوار استغرق إلى الآن سنة ونصف من عمر كل فرد في أسرته المكلومة بلا سبب.

كان الخمسة بانتظاره في مهمة محددة لأربعة منهم، هي حمله وإلقاءه بطريقة يخجل العنف أن تسمى باسمه، فيما كانت مهمة الخامس إغلاق باب المنزل على أسرته، (ربما كانوا خائفين من صراخ وبكاء البتول وفاطمة ومحمد، وبكاء الزوجة الحزينة منذ ذاك "هناء العلوي".

ومنذ يومها تعبت هناء كثيرا من كل شيء، واستغرقت طويلا في الذهاب اليومي إلى سجن الأمن السياسي للاستفسار عن زوجها الذي لم تكن تعرف عنه سوى أن زيارته ممنوعة لمدة ثلاثة أشهر أمكن لها بعد تلك المدة أن تراه، ولكن كيف..؟

لا تملك هناء الكثير من الكلمات أو القدرة على وصف مشاعرها في ذلك الحين، لكنها تختصر كل معاناتها بـ" كنت محبطة خائبة الأمل.. أتساءل يوميا في سري: ماذا يحل بهم في تلك الزنازن؟ ماذا يأكلون ؟ ماذا يشربون ؟ هل يعذبونهم ؟". أجل .. لم تكن هناء تستطيع سوى سؤال نفسها.. وماذا أكثر..؟

بعد وساطات-نعم وساطات- سمحوا لهناء برؤية زوجها، وزيارته. أخذت أطفالها الثلاثة بعد أن ملأت براءتهم وعداً بحضن والد غائب قسرا، لكن تلك الوعود لم تجد منفذا للتنفيذ بين قضبان السجن وشباكه الضيقة، مثلما لا يمكن للحلم أن يعشب بين أقبيتها سوى بالموت أحياناً كثيرة.

تقول "هناء": "لم أعرف السجون من قبل، ولم يكن عندي معرفة بكيفية الزيارة فيها أو معاملة أفراد الأمن."، وكيف لها أن تعرف أن أمزجة الجنود لا تسمح بدخول الأطفال، وإن سمحت فلن يكون لمحمد ذلك الحق، لأن تلك الأمزجة أن تواطئت مع رغبات الأطفال في رؤية آبائهم وراء حاجز كالمستحيل، فإنها (أي أمزجة الأشاوس) لا تتواطأ مع عمر يقل عن الثلاثة أعوام. ولهذا عاد أطفالها إلى البيت ببكائهم لأنهم كانوا قريبين جدا من والدهم، لكنهم كانوا أيضا أبعد ما يكونون.

إذا دخلت هناء غرفة الزيارة وحدها، وفي مساحة 3 × 6 م كلن عليها أن تشاهد زوجها خلف حاجزين من الشباك الغليظة لا تكفي الفتحة فيهما لأدخال عقلة الأصبع، وبينهما متر ونصف من أرض غرفة الزيارة هي الآن بمثابة عام ونصف من الحزن والأسى والحنين، وأكثر من ذلك أن كل سجين يقف جوار جندي يلتقط كل همساته ويختزن في ذاكرته البليدة كل ما ستبوح به امرأة لزوجها، وأنى لها أن تقول شيئاً سوى أسئلة معتادة يقولها عابر سبيل لآخر دون أية مشاعر بينهما، فيما في بال السجين وزوجته كل ما منحهما القهر إياه منذ الغياب.

وهكذا .. منذ عام ونصف استمر الحال، واستمرت هناء في الذهاب إلى زوجها كل أربعاء لا تستطيع أن تحمل له سوى ما يشاء الجنود من الطعام، مانعين عنه الفواكه والعصائر وحتى الثياب. فيما استمر محمد بانتظار الحليب، ولا أدري ما الذي استمرت البتول وهناء بانتظاره لأني لا أحب أن أملأ نفسي بمشاعرهما، أو الإحساس بانتظاراتهما البريئة.

 

في 11/7/2007م ناشد عباس المهدي (والد عبد القادر) رئيس جهاز الأمن السياسي إيلاء موضوع ابنه الأهمية التي يستحقها، مع إبداء رغبته في معرفة الجرم الذي ارتكبه ولده إن كان ثمة جرم، أو إطلاق سراحه ومعاقبة من قام بالإبلاغ الكاذب عنه وتعويضه التعويض المناسب.

في 2/9/2007م ناشد المهدي رئيس الجمهورية عبر رسالة وجهها إليه بعدالة الدستور والقانون والشرع وحقوق الإنسان والدين الإسلامي والضمير الحي سرعة الإفراج عن ولده الذي لم يقدم للمحاكمة ولا يعلم سبب اعتقاله سوى ما أخبروه به وزوجة عبد القادر أنه احتراز أمني لا أكثر فصمتا بطيبة وأمل كثيرا حتى ينتهي هذا الاحتراز فلم ينته بعد.

وفي 12/10/2007 تساءل والد عبد القادر في رسالة وجهها إلى الناب العام والبرلمان ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان والأحزاب السياسية، وكافة مؤسسات وأجهزة الدولة المعنية بالأمر عن سبب اعتقال ولده؟ ومن أمر بذلك؟ وماهية التهم الموجهة إليه.؟ والأدلة عليها.؟ وعن كفالة الدستور والقانون لحق ابنه في محاكمة عادلة.؟

لم يطرأ أي جديد منذ ذلك الحين، وما زال عبد القادر في زنزانته منذ عام ونصف بانتظار زوجته كل أربعاء في زيارة خاطفة لا تزيد عن عشر دقائق، وكانت هناء ووالد زوجها من الطيبة والبراءة حد أن صدقا ادعاءات الأمن السياسي بأن احتجازه لم يكن لسوى احترازات أمنية سرعان ما تنتهي.

تستغرب «يمنات» أن يتم تجاهل قضية عبد القادر المهدي ونسيانه في أقبية الأمن السياسي. كيف يقضي عبد القادر كل هذه المدة دون التفات إليه من أحد سواء النائب العام أو من ناشدهم والده، أو حتى منظمات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان.

 

زر الذهاب إلى الأعلى