فضاء حر

لا تستغلوا ثورتنا لتصفية حساباتكم

 

بالنظر إلى تاريخ الشعوب نجد أن هناك ثورات تقوم كل 4 الى 5 عقود، قد تأتي هذه الثورات لتغيير شكل نظام الحكم أو لإنهاء نظام حكم ديكتاتوري والانتقال الى آخر ديمقراطي، أو قد تأتي لتصحيح أوضاع خاطئة تكون قد تسببت في انحراف المسار الديمقراطي لبلد ما.

وقد كان من المسلمات أن معظم الجمهوريات العربية كانت بأمس الحاجة الى ثورات شعبية عارمة لإنهاء عقود من الفساد السياسي والعبث بالمال العام، تربع خلالها حكام مستبدون على كراسي السلطة لعقود، وكان مما زاد الأوضاع سوءا انتشار حمى التوريث خلال العقد الأخير بعد نجاح تجربتها الأولى في سوريا.

وقد كان المضحك المبكي في كل ذلك أن أولئك الحكام كانوا يفاخرون بديمقراطيتهم، ويتمسكون بشرعية شعبية كانوا يستمدونها من انتخابات مزورة ودساتير أعياها كثر تعديلاتهم عليها.

عندما أقدم مفجر ثورات الربيع العربي محمد البوعزيزي، على إحراق نفسه، كان ذلك تعبيرا واضحا وكاملا عن مدى القهر الذي يعيشه المواطن العربي في جملكيات الحكام، كانت شرارة البوعزيزي كفيلة بتحريك الشارع العربي الذي كان ينتظر -كما يبدو- شخصا يحترق ليقدم نفسه كقربان من أجل تحريك شعوب أنهكها القهر والظلم والاستبداد وقمع الحريات.

وكغيرهم من الشباب في عدد من الدول العربية، خرج شباب اليمن في تعز وصنعاء، وتلتهما كل محافظات اليمن، ليطلقوا ثورة سلمية شهد لها العالم، واجهوا فيها عنف الحاكم بأسلحة جيشه وغازات أمنه وهراوات بلاطجته ومأجوريه، كانت أحلامهم أكبر من أن توقفها كل جيوش العالم.

لم يتمكن كل ذلك العنف من أن يوقف حلمهم بوطن تسوده الحرية والعدالة والمساواة.. وطن يعبرون فيه عن آرائهم ومعتقداتهم دون خوف من أجهزة أمن تمول من عرقهم وعلى حساب أقوات أولادهم، لتكون وظيفتها قمع حرياتهم وتكميم أفواههم وسلب كرامتهم.

وطن يسوده دستور وقانون يشاركون بآرائهم في رسم ملامحه، يتم تطبيقه على كبيرهم قبل صغيرهم، يعيش الجميع تحت مظلته متساوين في الحقوق والواجبات.

وطن خالٍ من الفساد ينعمون فيه بفرص متكافئة تنطبق معاييرها على ابن الرئيس والوزير وابن الفراش والحارس على حد سواء.

وطن يفخرون بالانتماء إليه ويبذلون أرواحهم رخيصة من أجله.

من أجل كل هذا وأكثر، قدم شاب لم يبلغ الـ18 من عمره، يدعى مازن البذيجي، روحه رخيصة، وتلاه مئات من الشباب في مختلف محافظات الجمهورية، على اختلاف انتماءاتهم السياسية ومعتقداتهم الفكرية، أو حتى مذاهبهم الدينية، لم يكونوا يفكرون حينما ضحوا بأنفسهم في شخص من سيحكم اليمن بعد نجاح ثورتهم، ولكنهم كانوا بالتأكيد يؤمنون بأن وطنهم سيكون أفضل، وأن أهداف ثورتهم ستتحقق، وأن القضاء على الفساد الذي جعل من بلدهم واحدا من أشد البلدان فقرا في العالم، هو واحد من أهم هذه الأهداف.

لم يكن الشك يراودهم ولو للحظة أن ثورتهم قد تستغل لتصفية حسابات قديمة وبصورة مقيتة تحمل في طياتها رائحة المناطقية والمذهبية أو الاختلافات السياسية أو حتى الشخصية منها.

من كان يصدق أن التوافق الذي فرض على ثورتنا سينتهي بتقاسم السلطة بالطريقة التي نراها، وأن مزيدا من الصفقات المشبوهة سيتم عقدها تحت مبرر حماية الوطن من التفتت والاقتتال الداخلي!

هل يعي ثوارنا أن حافظ معياد -المتورط بعمليات قمع الثوار- خرج من الوطن بكل فساده، وأن حكومة الوفاق لم تحرك ساكنا تجاه الفساد الذي عبث بأموال ومقدرات أكبر وأهم مؤسسة اقتصادية في الوطن، وأن الأمر انتهى بتعيين شخص جديد -محسوب على طرف معين- على هرم المؤسسة.

في الوقت ذاته نجد أن موضوع المحاسبة والمساءلة في قلعة اقتصادية أخرى هي دائرة الأشغال العسكرية، ينحو منحى شخصيا بحتا، فهل الوفاق الوطني وما تبعه من تقاسم يقتضي البحث عن كباش فداء في هذه الدائرة المهمة، حتى يتم استكمال صفقة أخرى من صفقات التقاسم تذهب بموجبها الدائرة لأحد الشركاء مقابل المؤسسة الاقتصادية اليمنية؟

أنا هنا لا أدافع عن مسؤولي دائرة الأشغال العسكرية، ولا تربطني أية علاقة قرابة أو حتى معرفة شخصية بأي منهم، ولكن منطق الثورات يقول إن المساءلة والمحاسبة لا تنتقي أشخاصا أو جهات بعينها، ولكنها تشمل كل من أساء استخدام السلطة في أية جهة كان، وبغض النظر عن انتمائه السياسي أو الفكري أو المذهبي أو المناطقي. الثورات دائما تسمو عن الأحقاد وتصفية الحسابات، ولم نسمع يوما عن ثورة نتج عنها تدمير مؤسسات ناجحة، وإنما سمعنا عن ثورات طورت المؤسسات الناجحة وزادتها نجاحا.

نريد لثورتنا، كما أراد لها شهداؤنا، أن تكون نقية من الصفقات، بعيدة عن التقاسمات والمحاصصات أيا كان أساسها. ووفاء لدمائهم علينا أن نرسي مبادئ سامية للمحاسبة والمساءلة، كتلك التي أرساها الشهيد إبراهيم الحمدي في ثورته التصحيحة العظيمة.

عن صحيفة"الأولى"

زر الذهاب إلى الأعلى