فضاء حر

هذا هو البديل للثورة الحقيقية

 

كم هو الفرق بين ثورة نقية مجمل مصفوفاتها من الثوار المنزهين عن الفساد، غير الملوثة أياديهم بالمال العام، أو بدماء الأبرياء، وثورة فصيل من السلطة متخم بالثروة، ومحصن بالجاه وبالنفوذ وبالقوة.

فرق شاسع بين هذه الثورة وتلك, وبين هذا المكون وذاك، هذا الفارق يتضح من خلال ما يجري في تونس، وفي مصر من تقدم ومن إنجازات ثورية ملموسة في اتجاه بناء الدولة المدنية الحديثة، وما يجري في هذا البلد من أحداث ومن تطورات، ومن فظاعات دموية  لا تمت للثورات الحقيقية بصلة، وإنما لواقع آخر، هو الأقرب لواقع اللصوص والعصابات التي تختلف على تقاسم سرقاتها، فينتج عن هذا الاختلاف دماء وضحايا وأشلاء، غالباً ما يدفعها الأبرياء بينما اللصوص هم أبعد ما يكونون عن هذا الدمار، وعن هذه الفظاعات.

هذا هو البديل للثورة الحقيقية… البديل لاجتثاث النظام السابق، ولمحاكمة فاسديه ولاسترداد منهوبات الوطن، ولهيكلة الجيش وأجهزة الأمن على أسس وعلى عقيدة وطنية، ولإعادة النظر في الاتفاقيات المجحفة كاتفاقية الغاز وتأجير ميناء عدن بمبالغ وهمية وبخسة… البديل لكل هذه الطموحات الثورية هم جنود يذبحون كالنعاج في "دوفس" وفي "الكود" فيما آخرون يفجر بهم وبأجسادهم في قلب العاصمة وفي ميدان العروض العسكرية في وضح النهار، وكأننا نعيش في غابة, لا في دولة.

عشر سنوات وأكثر من المواجهة في أفغانستان بين الإرهاب ونظام "كرزاي" لم نسمع خلال هذه الفترة بأرقام مهولة لجنود قتلوا على يد المجاميع الإرهابية كما هي الأرقام المخيفة لأعداد قتلانا في غضون أشهر فقط، الأمر الذي يؤكد وبما لا يدع مجالاً للشك على  أن حجم المؤامرة المصوبة نحو هذا الوطن وأبنائه هي أكبر بكثير مما يتصوره البعض، ممن دأب على الربط بين تعثرات هذا الوطن، ومخططات تآمرية داخلية وخارجية تقف دوماً في طريق محاولة عبور هذا الوطن إلى شاطئ الأمان.

كثير ما احتدم الجدل حول الحسم الثوري أيا كانت التضحيات وبين فكرة منح الحصانة لنظام صالح مقابل حقن الدماء وتجنيب البلد مهالك الحروب. اليوم يطل هذا الجدل برأسه من جديد بعد هذه الأحداث الدامية وبعد أن اتضح للكثير بأن منح الحصانة للنظام السابق ما كان إلا مجرد اعتراف من الجوار بالجميل الذي أسداه نظام صالح المملكة العربية السعودية، طيلة فترة حكمه، وجاء الوقت المناسب لرد هذا الجميل بإخراج هذا الحاكم من مأزقه ومن ورطته التاريخية، بينما لا علاقة للمبادرة الخليجية أو منح الحصانة بأية تهدئة أو إقفال لصفحة نظام "صالح" مقابل تدوين صفحة جديدة من تاريخ هذا البلد.

ما من أحد اليوم إلا ويفهم الأمر على أنه هكذا، أي لا علاقة للمبادرة الخليجية ولا للحصانة بإخراج هذا البلد من كبواته، ونكباته، وإنما بإخراج نظام علي عبد الله صالح، من ورطته التي أوقعه فيها ملاين الثوار الذين خرجوا للميادين وللساحات في طول الوطن وعرضه، مطالبين بإسقاطه، وبرحيله، ومحاسبته على ما ارتكبه من جرائم جنائية، ومن نهب لثروات ومقدرات هذا الوطن على امتداد ثلث قرن من الزمن.

ما نحن فيه اليوم من مصائب، ومن منغصات ومن مواجهات مع قوى الشر يندرج في إطار معاركنا مع الغير المتواصلة منذُ عقود من الزمن، حتى وإن لم يعلن عن هذه المعارك صراحةً…. فقتلانا وجرحانا ومعاقونا من الثوار ومن العسكريين، فضلا عن موتانا ممن يتساقطون يومياً بفعل المجاعات، والأمراض العضال، وفيروس داء الكلب وسوء التغذية، وانعدام الخدمات الصحية، وتلوث المياه، كل ذلك من مؤشرات هذه الحرب المفتوحة وغير المعلنة، ومن نتاج استمرارها حتى وإن لم تبدُ مواجهاتها واحتداماتها للعيان؛ كونها تدار بأدوات محلية –للأسف الشديد- وبأموال ومخططات خارجية.

ما جرى في ميدان السبعين من قتل لجنود وضباط، بتلك الصورة الإجرامية البشعة والمريعة المؤذية للعين والدامية للقلب، يجب أن لا تمر مرور الكرام، وأن لا يُكتفى بالقرارات الرئاسية المصاحبة لهذه العملية الإجرامية، والتي تعد بمثابة ذر الرماد على العيون، كون هذه القرارات كانت معدة سلفاً ومركونة على رف الرئاسة، بدليل قرار تعيين مدير لمصنع البرح للإسمنت، ضمن هذه القرارات، إذ ما كان يتوقعه الناس في الداخل وفي الخارج، وبما يتناسب مع هذا الحدث الذي هز العالم بأسره، هو إحداث الرئيس هادي لثورة تكون رديفة لثورة الشباب من خلال إصدار قرارات شاملة تضع حداً لمعاناة الشعب ولمعاناة هذا الوطن، بحيث تقطع على المتآمرين والمأجورين طريق الإرهاب وتصفيات الحسابات الرخيصة مع الأبرياء من منتسبي القوات المسلحة والأمن الذين يُصرعون يومياً في أكثر من موقع من مواقع الشرف والتضحية، فيما المتخاصمون من شركاء السلطة والثروة على امتداد ثلث قرن من حكم صالح لهذا البلد في مأمن، وفي منأى عن كل هذه الأخطار.

عزاؤنا فيما نحن عليه اليوم من محن، ومن آلام وأوجاع، ومن استهداف دموي شبه يومي هو في ثلاث محطات، يؤمل عليها إخراجنا مما نحن فيه: المحطة الأولى، وتكمن في تحرك الرئيس هادي الآن وقبل الغد؛ بطرق الحديد وهو على سخونته، بإصدار قرارات شاملة وحاسمة تضع حداً لتشرذم الجيش والأمن، ولانفلات البلد أمنياً وأخلاقياً. المحطة الثانية: وتكمن في تحرك الثوار في الساحات، إما لإحداث ثورة حقيقية تنتصر لثورة فبراير المنقوصة أو للضغط على الرئيس في هذا الاتجاه؛ كون البلد لا يحتمل التأخير أو مزيداً من الدماء….. المحطة الثالثة: هي في تحرك الجيش وأجهزة الأمن في اتجاه  وضع حد لسفك دمائهم طالما هم المستهدفون في إطار هذه اللعبة الجهنمية الخبيثة والقذرة، وغير المسبوقة في تاريخ الخصومات وتصفية الحسابات بين فرقاء السياسة وناهبي المال العام.

من سيسبق الآخر من شاغلي هذه المحطات الثلاث….. الكل في انتظار من سينقذ هذا الوطن وأهله من هذا الجحيم، ومن هذا النفق الذي لا نهاية لسراديبه حتى اللحظة، لكن ما أتمناه أن تكون خطوات الرئيس أسبق من خطوات الآخرين، طالما يقع عليه الرهان داخلياً وخارجياً في إحداث التحولات في هذا البلد

عن صحيفة" الأولى"

زر الذهاب إلى الأعلى