أسرار ووثائق

عن شقيق عيسى محمد سيف وقصة اختطافه من القاهرة واخفائه قسريا

يمنات

 لاعب شطرنج يحسن اللعب مع صغار البيادق!.. سامي غالب  

هذه الرسالة الأنيقة شكلا ومضمونا, الكريمة الحانية, الذكية في مخططها ونقلاتها, المتحفظة في بياناتها ومشاعرها, هي لشاب فاتن يتقن لعبة الشطرنج واللعب مع الصغار وإضحاك الأمهات!

كتبها في خريف 1978 أو مطلع 1979, وتسلمتها "جوهرة" بعد أيام على الأرجح. كانت المحن تعصف به وبها.

في 5 نوفمبر 1978 أعلنت السلطات في صنعاء إعدام شقيقه الأكبر بعد محاكمة صورية, وكان شقيقه الأصغر يقبع في دار البشاير (القصر الامامي الذي حولته ثورة سبتمبر إلى معتقل ينهب أرواح شبابها), وكان الذهول يلف عالم "جوهرة" في قرية في ريف تعز, منكوبة بمحاولة انقلابية فاشلة.

بعد شهور اختفى طالب الطب الذي يتقن كل الأشياء الجميلة, وغادرت جوهرة دار الفناء اليمني إلى دار البقاء حيث يحتمل أن تجد بطلها, ومحور حياتها: عيسى محمد سيف, الرجل الذي قرر الرئيس علي عبدالله صالح إخفاء جثمانه بعدما قتله, في مسلك غريب اتضح بانصرام السنين أنه هوايته الأثيرة.

 

لجوهرة ثلاثة أبناء. ثلاثتهم باتوا في غمضة عين بعيدي المنال؛ عيسى دفينا في مكان مجهول, وسعيد في "دار الأهوال" الجمهورية, وعبدالله في القاهرة يدرس المستوى الرابع بكلية طب القاهرة, وعودته إلى الجمهورية العربية اليمنية هي بمثابة انتحار, ولعلها في ذروة احتياجها ليكون جوارها حمدت الله كثيرا لأنه في أرض الكنانة بعيدا عن الحملة الأمنية المسعورة لصالح وخميس!

في ظروف غامضة اختفى عبدالله محمد سيف. حسب بعض زملائه فإنه "خرج ولم يعد"؛ غادر شقته في يوم ما من ربيع 1979 ولم يظهر له أثر بعدها. ومن غير المستبعد أن يكون استدرج من جهاز أمني لغرض اعتقاله, فالسلطة الموتورة في صنعاء لم توفر شقيقه الأصغر الذي كان ساعتها في الـ 14 من العمر.

لاعب الشطرنج درس الثانوية في القاهرة ثم التحق بكلية الطب. كانت دراسة الطب تعني أنه يرغب في شق طريقه بعيدا عن "الأخ الكبير" [أبلغني حمدان قبل عدة أشهر أن أحد أصدقاء عمه عبدالله أكد له أنه كان يضيق من الحاقه بشقيقه الكبير (الكبير بكل المقاييس) إذ كان لا يعرف إلا بوصفه شقيق عيسى]. لا غرابة فقد كان عيسى أخا لكثيرين غيره, بل أكثر من ذلك, فإلى نجوميته السياسية وقدراته القيادية الاستثنائية في النشاط الطلابي منذ منتصف الستينات, كان في السر قياديا مهما في التنظيم الناصري.

 وفي 1977 انتخب للموقع الأول في التنظيم, وبعد عام ونصف (15 اكتوبر 1978) قاد حركة انقلابية ضد نظام علي عبدالله صالح. حوكم عيسى محمد سيف ونائبه سالم السقاف والمسؤول السياسي في التنظيم عبدالسلام مقبل وعشرة أخرون, وصدر بحقهم حكم بالإعدام, وثلاثتهم صفقوا بحرارة للحكم في واحدة من أشهر وأغرب الوقائع في التاريخ السياسي اليمني حتى أن الرائي العظيم عبدالله البردوني أشار إليها غير مرة في كتاباته واشعاره. أعدم قبلهم عشرة عسكريون على الأقل بعد محاكمة ميدانية حسب الشائع, وليس معروفا حتى اللحظة مكان اعدامهم أو دفنهم ( ويقود حمدان عيسى محمد سيف منذ سنة حملة لأسر الشهداء للكشف عن جثامينهم).

 

لا اتذكر ملامح عبدالله الذي تردد على شقتنا في القاهرة مرارا نهاية عام 1975. تقع الشقة في جاردن سيتي غير بعيد من القصر العيني وكلية الطب حيث يدرس, ومن شارع المنيل حيث يقيم. استأجر أبي الشقة لعدة أسابيع. سنتذاك بدأت أمي تعاني من متاعب في القلب وضغط الدم, وقد تقرر سفرها إلى القاهرة للعلاج, وقد اصطحبتني معها. تردد عيسى على الشقة أيضا. كان لحضوره فرادة آيتها الاهتمام والاحتفاء الذي يجده من المضيفين. وهو اصطحبنا ذات مساء في جولة قاهرية ثم سهرة ليلية على النيل. أمضينا ساعات بهيجة رفقته, خصوصا في النادي الذي سهرنا فيه. كان المكان يزدحم بعائلات مصرية وعربية. وطبق العادة الدارجة (التنقيط) في مصر تلقت الفنانة على المسرح طلبات من خليجيين وشوام وليبيين بالإشارة الى بلدانهم وتحيتها.

أراد عيسى أن يشعرنا بالاعتيادية, ولعل أذنيه التقطت اصطكاك اسنان أو حشرجات في أعماق ضيوفه, فإذا به يخرج من محفظته جنيهات ويطلب من النادل إيصالها إلى المغنية كي تبعث بتحية إلى اليمن.. صفق الجميع بحرارة لليمن.

أعادت تلك الأمسية السحرية الوئام إلى العلاقة بين عيسى محمد سيف وبين الطفل الذي كنته! قبل عدة أيام كان في الصالون مستغرقا في الحديث مع أبي. لم يكن أبي شخصا مسيسا أو يلامس السياسة من أي زاوية, بل رجل عادي عمل في أرامكو في السعودية حتى منتصف الستينات, ثم عاد إلى اليمن للعمل كميكانيكي في الطيران. لكنه تمتع على الدوام بعلاقات ثرية مع أشخاص من مختلف انحاء اليمن, شماله وجنوبه. بل إن أقرب صديقين إلى قلبه كانا طيارين من خارج تعز, الأول من شبوة والثاني من صنعاء.

وعلى أية حال فإن الرجل الذي يتحدث إلى أبي كان منغمسا جدا, وقد أثار حنقه أصوات الصفارات المتتابعة والمتعالية على تفاوت حدتها, التي تصدر من البلكونة حيث كنت وحيدا أسعى جاهدا إلى لفت انتباه أطفال الجيران في المبنى المجاور. طلب عيسى من رب البيت بذل جهد لإسكاتي بصيغة فيها حدة مزاج, ولم أكن لأغفر له ذلك!

كان حضور عبدالله ضاجا. تفتح الشغالة باب الشقة فيندفع إلي محتضنا وملاطفا, وقد يعن له معاملتي كند جدير بالثقة فيوكل إلى مهام استثنائية من شاكلة نقل رسالة شفهية إلى أبي الذي يكون لحظتها في غرفته أو خارج الشقة, رسالة يستثقل هو عرضها لأسباب كنت أراها وجيهة (!) فأتبرع متحمسا للوفاء بالدور, واثقا من أن ذلك يعزز من تقدير لاعب الشطرنج للبيدق المتنافي في خدمته حتى وأن كدرت مزاج أبي.

كان إذ يأتي فحاملا أمامه طبقا من بهجة ومسرات وقفشات تجبر أمي على مفارقة طبيعتها المتحفظة وطابعها الرصين. يضحكها كثيرا إذ يتندر على زملائه اليمنيين, وخصوصا ممن نعرفهم, فهؤلاء يفوقونه عمرا وطولا لكنه هو الضئيل الصغير يبزهم جميعا علما ورياضة.

عدنا إلى تعز. وفي صيف 1978, انتقلت الأسرة إلى صنعاء, وفي مطلع اكتوبر 1978, نقل أخي الأكبر رسالة إلى أمي من عيسى فحواها أنه يحن لطبخها, ويتمنى أن يجد فرصة قريبة لزيارتنا في البيت. بعدها بأسبوعين أعلن في صنعاء عن إحباط حركة انقلابية, ثم لاحقا شاهدنا, في التلفزيون, عيسى محمد سيف يجلس في المقعد الأول في صف المتهمين بتشكيل عصابة إجرامية ملحدة لقلب نظام الحكم.

كان منظره فاجعا بالنسبة لأمي. كانت آثار التعذيب بادية عليه على ما يبدو, وهي لم تتحرر قط من فاجعة إعدامه. كانت المحاكمة هي من رسمت ملامحه في ذاكرتي التي لم تحفظ من عيسى القاهري سوى مواقف معدودات وطلب محمول بحدة مزاج وليلة باهرة في قلب القاهرة. لم يتح لي, ولا لأمي, أن نلتقي عبدالله مجددا. غاب فيزيائيا بعد شهور من إعدام اخيه, لم يعد هنالك من يضحك الأمهات.

التحقت جوهرته بعيسى قبل انقضاء عام على الحركة. أنى لها أن تمكث في عالم جهم ودنيء حرمها من سندها ثم من زيارته حيا أو ميتا؟ ذهبوا جميعا, جوهرة وأبناها, وحلت في قلب أمي, كما في قلوب الكثير من الأمهات, غصة تمددت سنة تلو سنة إلى أن أجهزت على قلبها فغادرت دنيانا في صيف 1998.

زر الذهاب إلى الأعلى