فضاء حر

تكنيك البناء والانتقال السردي في الكتابة

يمنات

نائف حسان

أنا مهووس بتتبع السياقات الذكية والمتماسكة في كل ما أقرأ. اهتم بالأفكار، لكن تقييمي الأولي للكُتّاب (عالميين وعاديين) يبدأ من ملاحظة تماسك الجملة التي يكتبونها، ومدى ترابطها مع الجملة التي قبلها والتي بعدها؛ تكنيك البناء والانتقال السردي بشكل عام. لا أتذكر من الذي قال لنا، زماااااااان، إن أبا بكر السقاف يتميز بكتابة أفكار دون سياق قوي ومترابط. ولكني أتذكر أني عندما نضجت وجدت أنه لم يوجد بعد في اليمن من يكتب بعمق وروعة أسلوب أبو بكر السقاف. إنه مفكر وكاتب استثنائي يكتب بطريقة وروح ماركس؛ بطريقة وروح ماركس ليس في الأمر مبالغة. والشاهد كتابه “الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي”؛ بدون الفصل الأخير الخاص بنفط مأرب، الذي أظنه لم يكتبه، أو هكذا قيل لي.

ذهبتُ بعيداً، وما كان لي أن أفعل ذلك. لكن الأمر عائد إلى حضور “السقاف” في ذهني كنموذج للتفكير السليم، والكتابة المتماسكة، يمنياً.

كنت أريد أن أقول فقط أن لطف الصراري واحد من أفضل اليمنيين، وهم قلة معدودة، الذين يكتبون جملة نظيفة ومتماسكة تخلوا من الحشو والزوائد (تذكرت الآن ما كتبه إياد دماج: “في مديح غياب ايطاليا”، و”حين اتذكر مفردة وضاعة تطفو صورتُه كجثة”، كنموذجين لهذه الكتابة النظيفة والمتماسكة).

وجدت، قبل أمس، الصديق العزيز والنبيل ريان الشيباني شارك نصاً جديداً لـ”لطف” (كلب وثلاثة أشباح). فتحت النص، وتركته كي أختم به ليلتي. بمجرد ما بدأت قراءته حرصت، كتلميذ في تمرين ذهني منفرد، على تتبع انكسارات السياق التكنيكي فيه. لكني كسبت الرهان: لم أجد سياقاً مختلاً، أو كلمة زائدة، أو أخرى في غير محلها (باستثناء واو زائدة في إحدى الجُمل هههههههههه: “وبعضها حُفر فوق الآخر.”، وفي الأمر خلاف طبعاً).

سلام عليك يا لطف الصراري .. أيها المعلم الزاهد، والإنسان النبيل.

هنا نص “كلب وثلاثة أشباح”. أنا مفتون بترابط سياقه المحكم، وبموضوعه، وبتماسكه السردي الرفيع والمدهش، لا سيما الغرائبية الكفكاوية التي فيه: إفاقة “مرزوق” في المستشفى “وهو يتحدث بكلام غير مفهوم وينبح”، وتداعيات ذلك “التحوّل” حتى: “بعد أن تملكه اليأس، وقف على ركبتيه وعوى” (باستثناء جعل “مرزوق” يتحدث بالفصحى في بداية النص وحتى قرابة منتصفه).

إذا ما اختلفتم معي بشأن موضوع هذا النص، فتمتعوا بتماسكه السردي الرفيع والمدهش، وبترابط صياغته المحكمة.

_____________

كلب وثلاثة أشباح

لطف الصراري

في واحدة من الأوراق المتغضنة التي سقطت من جيبه، كتب السيد مرزوق زمعر بعض الأفكار التأملية عن نفسه؛ “مجرد أفكار” كما يسميها، لكن طبيبه، يعتقد بأنها “أفكار فلسفية”. كان يردد ذلك أثناء حديثه للسيدة زمعر التي تمسك بكتلة دائرية من الأوراق في يديها، بينما يحاول رجلان عملاقان تكبيل زوجها لرميه في مقصورة سيارة إسعاف.

أبرز ما في أفكار مرزوق، حديثه عن “لحظة فارقة” ظل يطاردها طيلة حياته، إضافة إلى الأحداث التي مرّ بها في آخر يوم قضاه كرجل لا يبدو عليه أي اختلال نفسي.

خلف جذع شجرة الكافور التي سقط منها مرزوق، انحشرت بطاقة هوية باسمه ومهنته، وورقة متغضنة كتب في رأسها هذه الفقرة:

“أحيانا، أتمكن من التقاط لحظة فارقة وثيقة الصلة بفهم الحياة والناس. لحظة أصادفها وأنا جالس في مقيل مكتظ أو وحيداً في متكئي الأسمنتي أمام البيت. هنا اعتدت قضاء معظم فترات الظهيرة منذ أن نزلت عليّ نقمة التقاعد المبكّر. لا يهم أين ومتى أصادف هذه اللحظة الأثيرة. المهم هو ذلك الشعور بالارتياح الذي يجعل أنفاسي باردة كالنسيم الذي يسبق المطر، ثم يمنحني إحساساً شديد النقاء بالحب يمكّنني من رؤية كل شيء بعين قلبي. لماذا لا يدوم هذا النقاء؟ لماذا لا يدوم، لماذا لا يدوم؟”.

في ذروة شعوره بالتعب من التشويش وثقل الحياة الساحق للروح والعظام، يتذكر مرزوق محاولاته المتشابهة للتمسك بلحظة كهذه؛ استعراضه الخاطف للوجوه، الأماكن، الأشياء والأزمنة. جميعها تخطر في ذهنه كصور واضحة وعالية الدقة، لكنها تمرّ بسرعة تضطره لتثبيت كل واحدة وتفحص تفاصيلها. يتفحص كل وجه، مكان، شيء وزمن، ثم يعلق في واحد منها لساعات حتى يلهث. هكذا يفقد تلك الرؤية التي يتيحها إحساسه المضيء وبالغ النقاء، بالحب. نعم “الحب”. لم يتكرر ذكره في الورقة التائهة من تأملات المهندس المدني سوى مرة واحدة، وإذا لم يتنبّه الطبيب، الذي قدم إلى الحديقة برفقة ممرضة ورجلين عملاقين، لهذا الجزء من قصة المريض الذي هرب من المستشفى، فلن يتعافى المسكين طيلة حياته.

ضمن تأملات مرزوق، هناك ما يؤكد بأنه طالما علق لساعات يفكر بأن تلاشي لحظته المنقذة سببه محاولاته المجنونة لإطالة أمدها. لكنه رغم ذلك، لا يتوقف عن مطاردتها واستهلاكها دفعة واحدة. والحقيقة، أنه لا يجيد طريقة أخرى للاحتفاظ باستكانة عابرة تمكنه من فهم أسباب شقائه، بدلاً من النقمة العدمية عليها. هو يعتبر هذا حقيقة، وليس هناك من يفهم المرء أكثر من نفسه كما يقول. وبعد طول استجواب لنفسه وجلد كل المناطق المضيئة والمعتمة بداخله، يبصق على قلبه وعقله لفشلهما في اكتشاف السبب الجوهري للشقاء، ذلك الشقاء الذي يتناسل بصور متطابقة كما تفعل أسبابه. صور يقول إنها تمرق أمام عينيه وجميعها متطابقة بحيث يستعصي على كل حواسه تمييز الحقيقي من المتوهم. حينها فقط، يشعر بعجزه عن التنفس، وبأن في داخله قبواً يستضيف حفلة زار.

آخر لحظاته الدخانية استمرت معه يوماً كاملاً- ويومه بطبيعة الحال يبدأ من الظهر إلى الفجر. استيقظ من نومه منقبض القلب، ثم ذهب لزيارة ابن صديق له أصيب في إحدى المعارك الدائرة على الساحل الغربي. في مقيل صديقه، الذي يبدو أيضاً أن زمالة مهنة قد جمعتهما منذ زمن بعيد، قضم مرزوق غصن قات شديد الطراوة وهو ينظر إلى الساق البيضاء لابن صديقه ثم إلى لحيته غير المتناسقة. شعر بارتياح يسري في عروقه ومفاصله. ارتياح من النوع الذي يجعل الرئتين أكثر اتساعاً وحاسة الشم تلتقط رائحة النباتات العطرية من شرفات وسقوف البيوت المجاورة. بدأ في التفكير مباشرة حول ما إذا كانت زوجة صديقه تزرع الريحان والشذاب في شرفة مجلس الضيوف لإبقائه معطرا طوال الوقت. فكر بذلك ضمن مئات الصور والروائح التي يعالجها إحساسه المضيء بسرعة الضوء نفسه، وتساءل في نفسه: “لماذا لا تزرع زوجتي الريحان والنباتات العطرية في شرفة مجلسنا”؟

رغم دخان السجائر المختلط بعطور الجالسين في المقيل، التقط أنفه رائحة السبيرت من تحت ضمادة الشاش والجبس الملفوفة حول ساق الشاب. قدرته على التنفس العميق وتمييز الروائح عززت لديه الثقة بقدرته على مواجهة أكثر مشاعره تعقيداً، وتفكيكها. كانت أبسط استجابة لموضوعات النقاش المتشعبة في المقيل تعني فقدان صيده الثمين هذا. إنها بوادر “اللحظة الفارقة” وعليه أن يستأذن فورا بالانصراف بدون اعتبارات للياقة التي تقتضي الإصغاء لحديث صديقه عن إصابة ابنه وعن احتدام المعارك في الجبهة الغربية. بعد أن مرقت مئات الصور في ذهنه، بقيت صورة واحدة استحوذت على إحساسه في تلك اللحظة: زوجته التي فتحت له رأسها وما زالت تصر على أن ذلك هو شغاف قلبها. قرر أن يذهب إليها قبل أن يفقد إحساسه المضيء والفائق في صفائه.

“ليس هناك من يفهم المرء أكثر من نفسه.” كرر لنفسه هذه العبارة عشرات المرات لمقاومة “الصورة المشوشة” التي قال إن زوجته دائماً ما تكرسها له. وفي طريق العودة إلى البيت فكر بكل شيء يخص علاقته بها؛ نصف عمره الذي قضاه وهو يحاول إقناعها بأن القلب المحب ليس بداخله أدوات حادة وأسواق، ليس فيه ضابط استجواب وجلسات مرافعة في حالة انعقاد دائم. وعلى مدى “ثلاثين سنة”، كان قد جرب كل طرق التودد وأساليب الإغواء والغمر العاطفي، التوسل وحدة الطباع، الإطراء والتماهي… لكن أكثر هذه المحاولات نجاحاً، لم تمنحه أكثر من “إقامة مؤقتة في فندق مهجور”. ثم وجد نفسه يتحول تدريجياً إلى شخص آخر. لم يكترث لذلك التحول لأنه كان لا يزال يثق بقدرته على استعادة نفسه بمجرد استقراره في قلب حبيبته. يعرف الآن أنه كان مخطئاً. والشخص الآخر الذي بفضله حظي باستضافة مشروطة في قلبها، تحول إلى شخص ثالث، وهو من تسبب في إعادته إلى “الرأس اللعين”. “أي جحيم ألعن من رأس المرأة وأي جنة أكثر دفئاً من قلبها.!” كان يقول لها ذلك محاولاً استعطافها وكم ردد على مسمعها “أحبك” دون جدوى. عندما وصل إلى البيت، أخذت حدة حواسه تمتد إلى لسانه. وكما يحدث لكل شيء يمر عبر اللسان، ظل يلهث من المغرب إلى الفجر. لهاث متصاعد استمر حتى بعد أن استلقى بجانبها على السرير عند منتصف الليل.

لم يعد في البيت أحد سواهما بعد أن تزوجت ابنتهما وغادرت مع زوجها وأخيها للدراسة في ماليزيا. فكّر كثيرا بابنته وزوجها، ثم أغمض عينيه لتفادي رؤية بزوغ الصباح عبر النافذة؛ طالما قال لزوجته إن أي ضوء في الكون لا يمكنه تبديد ظلمة روحه. “المكان الوحيد اللي ممكن أستعيد فيه بصري هو قلبك”. قال بصوت لاهث. ظل يهذي حتى أيقظها. “ليش ما ترجعي تحبيني زي زمان.. هاه؟” “ارقد وخليني ارقد. انا عازمة خواتي وصاحباتي بكرة.” ردّت عليه بتثاقل ووجهها إلى الجدار. كان كل منهما في عالم مختلف. عاودته “النقمة العدمية” التي يثيرها افتقاده للحب. لم يجد في فمه ما يكفي للبصق على قلبه وعقله. شعر بعطش أكثر من أي وقت مضى. عطش ولهاث وغضب، ندوب وجروح منكوءة وأخرى ما زالت تنزف. وأثناء محاولته استرداد أنفاسه، أوشك على الإغماء. بعد عدة أنفاس متلاحقة، شهق وأغمي عليه. ظنت زوجته أنه مات، لكنها استدعت أخاها لنقله إلى المستشفى. وهناك أفاق وهو يتحدث بكلام غير مفهوم وينبح.

عندما اقتربت منه الممرضة وفي يدها حقنة مهدئة، انتفض كالممسوس، وانطلق راكضاً عبر ممرات المستشفى، وكلما صادف امرأة توقف وأطلق في وجهها نبحتين قبل أن يقول لها: “أحبٍّك”.

لم يتوقف عن الركض والنباح إلا بعدما دخل الحديقة المجاورة للمستشفى. اتكأ بظهره على جذع سميك لشجرة كافور عاصرت ثورتين وعشر حروب. تحت هذه الكافورة اختلس عدة لقاءات بحب حياته قبل أن يذهب لتوثيقه لدى كاتب العدل. أدار وجهه نحو الجذع الضخم باحثاً عن القلب الذي نحته كلاهما مناصفة. كان ذلك في لقائهما الأخير قبل الزواج، وعندما كانا يأخذان الولدين إلى الحديقة، كانا يتفقدان قلبهما المحفور على جذع الكافورة، ويحكيان لطفليهما فصولاً من قصة الحب التي جاءت بهما إلى هذا العالم. كان النصف الذي رسمته هي مفتوحاً من الأعلى. أخبرته بأن ذلك هو باب قلبها الذي سيظل مفتوحاً له إلى الأبد.

لا شك بأن السيد زمعر قد زار هذا المكان عدة مرات خلال مطاردته المضنية للحظته الفارقة، وعندما هرب من المستشفى في ذلك الصباح الربيعي الغائم، لا بد أن ذكريات كثيرة تناوشت “قلبه وعقله”. بدا مثل كلب مسعور، حتى إنه دار حول الجذع وهو يمشي على ركبتيه ويديه؛ يدور حول الجذع وينبح، غير عابئ بالشفقة المصوبة نحوه من أعين النساء والأطفال، والرجال الذين يمشون بأنفة إلى جانب زوجاتهم. لم يجد أثراً لحبه على الجذع؛ فقط قلوب صغيرة منحوتة بأشكال متجاورة ومتداخلة، وبعضها حُفر فوق الآخر. بعد أن تملكه اليأس، وقف على ركبتيه وعوى.

فوق الفروع السفلية لشجرة العشاق، رأى ثلاثة أشباح. كان مصراً على أنها في الأعلى ويتوسل الرجلين الضخمين أن يتيحا له فرصة الصعود إليها لكي يعانق الشبح الثالث. قال، موجهاً الكلام بحركة دائرية من وجهه على جمهور الفرجة: “شوفوا.. اثنين مع بعض والثالث لوحده. هذا حبيبتي. حرام تجلس لوحدها. صح؟” كان معظم المتفرجين ينظرون إليه وليس إلى المكان الذي يشير إليه بإصبعه. قال إن العاشقين اللذين إلى جوار حبيبته ينحتون الحروف الأولى من اسميهما وسط قلوب صغيرة، وإن عليه الصعود لنحت الحرف الأول من اسمه وسط قلب صغير، وبعد ذلك سيذهب إلى المستشفى بنفسه. غير أن الماردين سحباه بالقوة نحو سيارة الإسعاف. كان يهذي بانصياع وحسرة وغضب، ويعلم الله وحده كيف تمكن من الإفلات من قبضة تلك الأيدي الجبارة. عاد بسرعة البرق نحو الشجرة وفي طرفة عين كان يجلس على أحد الفروع السفلية ويرسم قلباً بأظافره. رفع رأسه وأطلق عواء طويلاً نحو قمة الشجرة الفارعة. لقد كان ينظر بعين قلبه ويرى داخله عبر الظلال الحبيسة داخل شجرة الكافور. ثم سقط ومازال يعوي.

—————

نشر في مجلة البيان الكويتية

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى