فضاء حر

السعودية .. بين حربين وفوبيا زمنين في اليمن

يمنات
هناك أكثر من دافع للحرب التي تشنها السعودية اليوم على اليمن؛ بيد أن الدافع الرئيسي هو خوفها من جماعة الحوثي، التي تبدو كخطر يُهدد المملكة؛ كدولة سلطانية لا تحترم التعدد المذهبي الموجود فيها. يأتي خطر الحوثي كجماعة من كونها أصبحت “نموذج”، و”مثال ملهم” لشيعة المنطقتين الشرقية والجنوبية داخل السعودية، الذين عانوا ويعانون من عمليات تمييز واضطهاد من قبل السلطة الحاكمة في الرياض. وفي ظل وضع كهذا، لا يُمكن لهؤلاء إلا التعامل مع حركة الحوثي ك “نموذج عملي ملهم” لفكرة “التمكين”.
المعاناة الكبيرة لشيعة المملكة فرضت وتفرض عليهم النظر باندهاش لشبيههم الطائفي القابع على الجانب الآخر من الحدود. وعندما ينظر هؤلاء إلى البلد المجاور يشاهدون جماعة أقل مظلومية منهم أصبحت مسيطرة على اليمن، والجماعة الأقوى فيه، لا لشيء إلا لأنها حملت السلاح وتمردت. وبالضرورة، يدفع هذا بعدد من شيعة المملكة نحو محاولة تقليد “النموذج الحوثي”.
بدأت جماعة الحوثي مسيرتها كفئة صغيرة ملاحقة في جبال “مران”؛ لكن الحال انتهى بها إلى دخول العاصمة صنعاء، وإخضاعها لسلطتها؛ مع محافظات يمنية عدة. وهذا يُمثل “النموذج المُلهم” الذي تخشاه السعودية، وتخوض حربها الحالية لضربه أو ضرب روح التحفيز الماثلة فيه.
لا يتعامل الطائفيون مع الصعود الحاصل لجماعة الحوثي ضمن سياق التحولات السياسية والاجتماعية الانتقالية التي شهدتها اليمن منذ عام 2011، ويصرون على التعامل معه باعتباره “تمكيناً ونصراً إلهياً”، وكثمرة للصبر والمجالدة. لهذا، يستسلم هؤلاء لمشاعرهم الطائفية، ويسمحون لها بتحويل “نشوة النصر” المسيطرة عليهم إلى حماسة غير واعية لواقعهم وللنموذج المذهبي الملهم والمحفز لهم. يتحول هؤلاء أسرى ل “النموذج”، فيحاولون تطويع الواقع وأحداثه بما يخدمه ويُعزز سطوته عليهم.
حالة الطائفية المتفشية في المنطقة العربية كالطاعون، أعادت الفرز الاجتماعي داخل البنى المجتمعية حول النماذج الطائفية. لهذا، تبدو المنطقة العربية بأكملها واقعة اليوم في أسر هذا الصراع والاستقطاب ما قبل وطني. وإذا كان حسن نصر الله لعب، وحزب الله اللبناني، في فترة ما، دور “النموذج الملهم” لعبد الملك الحوثي وجماعته؛ فالأخير تحول بذاته إلى “نموذج محفز” لبقية الهويات الطائفية؛ سيما الواقعة ضمن الجزيرة العربية. ويبدو أن شيعة السعودية والبحرين أقرب إلى التأثر بمسيرة جماعة الحوثي، والاندفاع نحو محاكاتها، عبر استخدام المظلومية الطائفية، بهدف تكرار “نموذج التمكين”. وذلك يدفع بشيعة المملكة نحو حمل السلاح لمواجهة حكم آل سعود. ومن هنا يأتي خطر جماعة الحوثي على الأسرة الحاكمة في الرياض.
تستشعر السعودية الخطر القادم من اليمن ليس لأن “المد الإيراني” أصبح في خاصرتها؛ بل لأن جماعة الحوثي تحولت إلى “نموذج طائفي” ملهم ومحفز للطائفة الشيعية لديها. والواقع أن “النموذج الحوثي” قام على التمرد المسلح، وسماح السعودية له بحكم اليمن سيُغذي آمال الطائفية الشيعية لديها، وسيدفع أفرادها نحو تقليد هذا “النموذج”، والسير على خطاه: حمل السلاح والتمرد.
وإلى ما سبق، فجماعة الحوثي قد لا تكتفي بهذا الدور التحفيزي والملهم، الذي يدفع جزءا من شيعة المملكة نحو التمرد، بل ربما تستقبل مئات منهم لتدريبهم عسكرياً، ومدهم بالسلاح، وتوفير ملاذات آمنة لهم؛ إذا ما بدأت المواجهات المسلحة بينهم وبين النظام السعودي. انطلاقاً من هذا، تبدو معركة الرياض مصيرية مع جماعة الحوثي؛ ومن الواضح أنها تُحاول القضاء على الحوثي كجماعة طائفية مسلحة، أو القضاء على روح النموذج فيها.

تُمثل جماعة الحوثي امتداداً اجتماعياً وسياسياً ودينياً للتيار الذي كان، في ستينيات القرن الماضي، الحليف الرئيسي للسعودية في اليمن. عام 1962، وقفت السعودية ضد ثورة 26 سبتمبر، وأغرقت اليمن في حرب أهلية طويلة، بهدف إعادة “آل حميد الدين” إلى كرسي الحكم في صنعاء.
وكما أن السعودية لا تخوض حربها الجارية اليوم في اليمن “بهدف إعادة شرعية الرئيس هادي”؛ فهي لم تخض حربها القديمة ضد ثورة سبتمبر وجمهوريتها الوليدة، بهدف إعادة محمد البدر إلى عرش حكمه المتهاوي في صنعاء. وإذا كان “البدر” هو ذريعة المملكة لخوض حربها تلك؛ ف “هادي” هو ذريعتها لخوض حربها الحالية. ورغم أن الرجلين (البدر وهادي) فرا إلى السعودية طالبين النجدة منها؛ إلا أنه لا يُمكن وضعهما في خانة واحدة. وما يُمكن قوله هنا هو أن الرياض استخدمتهما لدخول الحربين بهدف حماية مصالحها، وخوفاً من انتقال عدوى النموذج الوليد في اليمن إليها. يُمكن هنا قراءة حال السعودية بين حربيين وفوبيا زمنيين في اليمن؛ وقراءة التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها الأخيرة.
في ستينيات القرن الماضي، كانت السعودية تخشى إصابتها بعدوى “نموذج الثورة والجمهورية” الوليد في اليمن؛ فيما تخشى اليوم إصابتها بعدوى “النموذج الحوثي” بمدلولاته الطائفية. هناك فوارق كبيرة بين النموذجين، وزمنيهما، وسياق الحربيين اللتين جرتا حولهما وبسببهما.
منذ 1962، شهدت اليمن، والمنطقة العربية ككل، تغيرات كبيرة وعاصفة. بيد أن الثابت الوحيد الذي مازال قائماً هو السعودية، التي مازالت تنظر إلى اليمن كمصدر لخطر قادم.
خوفاً من تحول ثورة سبتمبر إلى نموذج ملهم في صنعاء يُهدد كرسي حكمهم في الرياض؛ دعم “آل سعود” أسرة “آل حميد الدين”، واستماتوا في محاولة إعادتهم إلى حكم اليمن. خاضت السعودية تلك الحرب بشكل غير مباشر: قدمت السلاح والمأوى، وتجنيد المرتزقة، ل “البدر” والملكيين، ووزعت الأموال وصناديق الذهب على مشايخ القبائل بهدف شراء ولائهم للتخلي عن ثورة سبتمبر وقتالها.
ضمن هذا السياق، وذلك الدافع، أغرق حكام السعودية اليمن في حرب أهلية طويلة استمرت ثماني سنوات (بدأت عام 1962 واستمرت حتى 1970).
جاءت ثورة سبتمبر ضمن ثورات تم فيها تحويل أنظمة حكم ملكية عربية إلى أنظمة جمهورية. تزعم جمال عبد الناصر هذا المسار التحرري القومي الذي وقفت ضده المملكة العربية السعودية خوفاً من انتقاله إليها. حينها، كانت الرياض مصابة بفوبيا الثورات الجمهورية؛ لهذا رمت بكل ثقلها محاولة منع نجاح ثورة سبتمبر، ما أدى إلى تحويل اليمن إلى ساحة حرب طويلة ومفتوحة استنزفت اليمنيين وأرهقتهم، وحالت دون شروعهم في بناء دولتهم الوطنية الجديدة المفترضة.
خاضت المملكة الحرب ضد ثورة سبتمبر مدفوعة بالخوف منها كنموذج يُمكن نقله أو انتقاله إليها، أو إلى بقية دول الخليج. ثم أوقفت حربها تلك بعد أن يئست من إمكانية القضاء على الثورة الوليدة في اليمن، وتأكدت من إبطال مفعول النموذج الكامن فيها؛ عبر عصبة الحكم القبلية والعسكرية التي أفرغت الثورة الوليدة في صنعاء من مضامينها الوطنية والاجتماعية والسياسية، وضمنت إدخالها في بيت طاعة أمير النفط.

مازالت اليمن بيئة اجتماعية منهكة؛ إلا أن حالة الإنهاك الحاصلة اليوم لا يُمكن مقارنتها بالتي كانت في ستينيات القرن الماضي. ورغم ذلك الإنهاك، وجدت اليمن، حينها، سندها في مصر عبد الناصر، التي وصلت طلائع قواتها العسكرية إلى الحديدة، بعد أيام من اندلاع شرارة ثورة سبتمبر. مصر الوقت الراهن ليست مصر عبد الناصر، وهي اليوم تقف على النقيض تماماً من موقفها بالأمس؛ إذ أصبحت تقف حالياً في مساندة السعودية؛ فيما تقف إيران في الجبهة الأخرى؛ رغم أن طهران الشاه كانت مع الرياض ضد ثورة سبتمبر. هذه أمور تعكس حجم التحولات التي جرت في المنطقة؛ كما تؤكد أن السعودية بقيت الثابت الوحيد؛ ككيان وتوجهات.
في الوقت الراهن، غيرت الرياض من أدواتها في اليمن، بينما موقفها ثابت: حماية مصالحها. هي خاضت ومولت الحرب على ثورة سبتمبر ضد إرادة اليمنيين، وفي صف التيار السياسي والديني والاجتماعي الذي تُمثله اليوم جماعة الحوثي. خلافاً لذلك، هي تخوض حربها الحالية بشكل مباشر في اليمن، وضد الامتداد السياسي والاجتماعي والقبلي للتيار الذي حاربت من أجله في الأمس. ويبدو كما لو أن السعودية تخوض حربها الحالية في صف التيار الاجتماعي والسياسي والجغرافي لثورة سبتمبر.
البيئة القبلية اليمنية الواقعة في شمال الشمال كانت هي حليف الرياض في ستينيات القرن الماضي، وما بعده؛ بينما صارت اليوم خصمها الرئيسي. في المقابل، كان الجنوب، كتعبير سياسي وجغرافي، هو خصم السعودية، فيما تبدو، في الوقت الراهن، كما لو أنها تُقاتل في صفه، وصف بقية المناطق اليمنية ذات الخيار المذهبي المختلف عما تُمثله جماعة الحوثي.
أنا ضد تنميط الواقع وتكويناته، لأن ذلك يُسطح الوقائع والتغيرات ويحول دون قراءتها وفهمها. بيد أن الجغرافيا القبلية اليمنية في شمال الشمال تحضر كتابع لمراكز قوى تتنازع تمثيلها. ما قبل ثورة سبتمبر، كانت هذه المنطقة القبلية تصطف خلف الحاكم المذهبي المتجسد في الإمام؛ ثم انتقلت، بعد تلك الثورة، للاصطفاف خلف تعبيرها القبلي المتمثل في “الشيخ”. وبعد صعود جماعة الحوثي، انتقل ولاء هذه المنطقة الجغرافية إلى تعبيرها المذهبي المتمثل في “السيد”. وبينما كانت هذه المنطقة حليفة للسعودية قبل وبعد ثورة سبتمبر؛ أصبحت اليوم “عدو” لها؛ بسبب سيطرة الحوثي عليها واحتكاره عملية تمثيلها.
وعليه، فقراءة هذه المنطقة ضمن السياق السالف ليس تنميطاً سطحياً لها؛ بل محاولة لفهم حركتها الاجتماعية والسياسية العامة ضمن الزمنين المشار لهما، والقوى محل الحديث هنا. الأمر يقتضي هنا التأكيد بأن ثورة سبتمبر كان لها امتداد اجتماعي داخل هذه المناطق القبلية الواقعة في شمال الشمال، كما لجماعة الحوثي اليوم امتداد داخل تعز وإب والحديدة والجنوب. ومثلما أن هذه المناطق القبلية ليست حالة ثابتة ذات جوهر واحد مغلق؛ فالجنوب، وبقية مناطق اليمن، ليست ساكنة وثابتة.

وإذ كان تفجر ثورة 26 سبتمبر ضمن صعود المد القومي في المنطقة العربية بقيادة مصر عبد الناصر؛ فصعود جماعة الحوثي يأتي ضمن صعود المد والصراع الطائفي بقيادة إيران الخميني. وبدلاً من الصراع مع القومية العربية، تخوض السعودية اليوم الصراع الطائفي. وفيما كانت إيران الشاة حليفة للرياض في حربها ضد الثورة والجمهورية في اليمن، في الستينيات، أصبحت مصر حليفة لها، فيما إيران عدوة. مشكلة جماعة الحوثي أنها عززت موقعها ضمن هذا الصراع الطائفي؛ لهذا فشلت في تطمين المملكة، عندما حاولت ذلك.
بعد سيطرته على العاصمة صنعاء ووضع الرئيس هادي تحت الإقامة الجبرية، أرسل زعيم جماعة الحوثي وفداً إلى الرياض بهدف تطمين “آل سعود”؛ إلا أنه فشل في تبديد مخاوفهم؛ لهذا لم يستجيبوا لمطالبته إياهم بفتح علاقة صداقة وجوار مع جماعته. طبقاً للمعلومات، فقد أهمل السعوديون وفد الحوثي، ومطالبه، ما دفعه نحو التصعيد ضدهم: أرسل وفداً إلى إيران، ونفذ مناورة عسكرية على الحدود مع السعودية في صعدة.
لقد أصبح النموذج الطائفي المتجسد في جماعة الحوثي هو ما يُهدد مملكة النفط. وإذا كانت السعودية خاضت ثماني سنوات من الحرب المستمرة ضد نموذج الثورة والجمهورية، المتجسد في ثورة 26 سبتمبر؛ فلا أحد يعرف المدى الزمني للحرب التي تخوضها اليوم ضد “النموذج الطائفي” الصاعد في اليمن.
عام 1970، أوقفت الرياض دعم الملكيين، واعترفت بثورة سبتمبر، ورعت، في مدينة جدة، مؤتمراً للمصالحة بين الملكيين والصف الجمهوري الذي تمكنت من تطويعه، واشترت ولاءه، بعد أن استطاع حكم صنعاء.
مذاك، تم إفراغ النظام الجمهوري في اليمن من محتواه وقيمه الوطنية والاجتماعية والسياسية؛ إذ جرى تدجينه، وجعله يسير تحت ظل ورعاية أمراء النفط. بالنسبة لجماعة الحوثي فالتدجين مشروط بالعودة إلى صعدة؛ ذلك أن ما يجري يعكس حجم الخطر الذي تستشعره السعودية جراء التغاضي عن السيطرة المسلحة للحوثي على الحكم في اليمن.

في مذكراته، روى الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر حكاية خروج أحد الأمراء السعوديين (أظنه سلطان بن عبد العزيز)، في ستينيات القرن الماضي، إلى منطقة “خمر”، مركز النفوذ القبلي للأحمر. يومها كان في “خمر” مهرجان للقوى القبلية بزعامة الشيخ عبد الله، الذي روى أن الأمير سلطان قال، عند مشاهدته لذلك الحشد القبلي الكبير: “هذه هي اليمن”. لا أتذكر النص الحرفي لما قاله، والتفاصيل الدقيقة للحكاية؛ لكني نقلت هنا جوهرها ومعناها الذي يشير إلى أن الأمير السعودي أدرك مركز التأثير القبلي على حكم اليمن الشمالي حينها، وهو المركز القبلي الذي تحالفت معه الرياض مذاك، وحتى عام 2011. بيد أن السعودية، بعد صعود سلمان إلى كرسي الحكم فيها، أعادت رسم خارطة تحالفاتها في اليمن، وتخوض حربها الحالية ضد المنطقة القبلية والجغرافية التي شكلت مركز وأداة التحالف التاريخي لها في حكم اليمن، والتحكم به عن بعد.
هذا التحول في الموقف السعودي عائد إلى التغير في المخاطر الأمنية والسياسية المهددة لها، كما هو عائد إلى تغليب الملك سلمان، ونجله محمد، لاتجاههما السلفي الديني في التعامل مع اليمن. وقد دفع ذلك بالملك سلمان نحو العودة إلى التحالف مع التعبيرات الدينية التي تجمعه وإياها قواسم مشتركة. هذه التعبيرات، ممثلة بتجمع الإصلاح والجماعات السلفية واللواء علي محسن وحميد الأحمر، أعاد النظام السعودي بعثها، والتحالف معها، رغم أنها كانت قد خرجت من المشهد، وفقدت فاعلية التأثير فيه. الأيديولوجيا الدينية فرضت على الرياض التحالف مع أدوات خاسرة.
كان علي عبد الله صالح يعتقد أن الرياض لن تجد بداً من العودة إلى التحالف معه؛ غير أن الأمير سلمان صعد إلى الحكم حاملاً معه توجهاً سلفياً أعاد التحالف مع خصوم “صالح”، وتمسك، ضمن سعيه لإعادة القوة لهذه الأطراف، “بشرعية الرئيس هادي”. هكذا، بشكل مفاجئ وغير متوقع، وجد “صالح” نفسه في موقع العدو الرئيسي للمملكة؛ إلى جانب جماعة الحوثي. وصل الأمر، حد إعلان الرياض الحرب ضده، وضد الحوثي، ومازالت قواتهما تتعرض للقصف من قبل “عاصفة الحزم”، منذ فجر السادس من مارس 2015.
والتحالف الحاصل بين “صالح” والحوثي يعكس نفسه كتحالف مناطقي وطائفي. وقد وضع ذلك اليمن أمام مشكلة وطنية بالغة وصعبة.
عن: الشارع

زر الذهاب إلى الأعلى