أرشيف

عن الساسة والاقتصاد                  د ياسين سعيد نعمان

د.ياسين سعيد نعمان

منذ فترة طويلة كف اليمنيون عن الحديث في الاقتصاد، وإقامة الندوات والمؤتمرات وورش العمل في القضايا التي يفجرها الاقتصاد أمامنا يومياً كمعضلات إلا فيما ندر. وحتى هذا النادر يغيب في زحمة القضايا الكبرى التي باتت تتزاحم على البلاد، وأخذت تشغل العقل اليمني لدرجة أن الجميع أضحى مستغرقاً في مسارات متنافرة من الفعل ورد الفعل.. حيث تطغى السياسة التي تقزم إلى جوارها وعلى نحو مقصود الاقتصاد باعتباره القوى المحركة للفعل السياسي على الأرض وبين الناس، حيث تكون النجاحات أو الإخفاقات فيه برهاناً على صحة أو عدم صحة الفعل السياسي.. ولذلك فقد كان الصخب الذي لجأ إليه نظامنا السياسي عنواناً على إدراك ممنهج من أن فصل السياسة عن الاقتصاد لا يخضعه لمراجعات أو رقابة اجتماعية حازمة وحاسمة. فالوعي الذي ينشغل بثرثرة السياسة بعيداً عن لقمة العيش والعمل والكهرباء والتعليم والصحة والتنمية بشكل عام، يمكن السيطرة عليه وتوظيفه في إنتاج وإعادة إنتاج اللعبة السياسية على قواعد مختلفة عن قواعدها الحقيقية، التي تقوم في الأساس على مستوى تلبية حاجات المجتمع مادياً وروحياً باستخدام أمثل للموارد المتاحة، وتوفير فرص إعادة الإنتاج الموسع، لتواكب النمو السكاني، وتجدد نمو حاجات المجتمع وتحقيق العدالة الاجتماعية.

لقد أخلت هذه القواعد المختلفة التي فصلت السياسة عن الاقتصاد في مجتمعنا بشروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية في مشهد من أكثر المشاهد خطورة، حينما يتعلق الأمر بتقييم الوضع الراهن لليمن. فالوعي العام المستجيب لهذا التضليل الذي يضخه صخب وثرثرة هذه السياسة وخطابها الإعلامي المستخف بمستقبل البلاد، لا يقدم الدليل اليوم على أن التدهور الاقتصادي الذي تتعرض له البلاد يحفز لديه قدراً ولو ضئيلاً من الغيرة على حاضر هذا البلد ومستقبله.

هذا الوعي لا يعنيه العبث الذي تتعرض له مصادر الطاقة من نفط وغاز وخلافه، ولا يلقي بالاً للحال البائس الذي وصلت إليه الكهرباء. غلاء الأسعار يطحنه كل يوم في ظل صمت رهيب للحكومة لا يكرره إلا بيانها الأسبوعي الرسمي كل ثلاثاء عن سحق المتمردين والخونة والعملاء والمتآمرين والحاقدين وأصحاب النظارات السوداء. هذا الوعي المستجيب لهذا التضليل لا يبدي أي قدر من الحساسية تجاه البطالة المتفشية، وبيع الوظيفة العامة في أبشع صورة من صور الفساد التي تمارسها الأجهزة المعنية، ويئن من الوضع الصحي والتعليمي والأمني المتردي فلا يجد أمامه غير سياسة تجبره على التكيف مع هذا الوضع لانشغالها بالقضاء على المتآمرين على الثورة والجمهورية والوحدة.. وأمام هذا الهدف السامي والرفيع لا بد لهذا الوعي أن يتكيف مع هذا الواقع المرير حتى لا يكدر صفو حماة الثورة والجمهورية والوحدة.

إن السياسية التي تتحرك في هذا المستوى من الفراغ الذي لا يربطه بالواقع رابط حقيقي هي وحدها من جعل الاقتصاد يتحرك خارج الحاجة الفعلية لمجتمع ينشد الاستقرار والتقدم، ولديه تجارب في التاريخ القديم والمعاصر تبرهن على ذلك. إن الاقتصاد في بلدنا مستغرق في متاهات السياسة التي احتشدت تحت عناوين مضللة للمسار الذي يتوقف عليه وحده الوصول بهذا البلد إلى بر الأمان، وصار بذلك ملحقاً خاملاً غير قادر على أن يستفز أو يحفز مكامن الدفع والنمو التي ستفرض معادلها الموضوعي بالضرورة، ولو على نحو بطيء على مجريات الأحداث، وهو أمر فيما لو تم سيجعل للسياسة لوناً مختلفاً، وستضطر أن تقبل بالشروط التي ينتهجها الواقع في حركته المتناغمة مادياً وروحياً مع مخرجات التنمية الشاملة.

إن هذه الندوة، يمكن أن تكون محاولة لاختراق صخب السياسة ووضع الاقتصاد في مكانة الصحيح بين مكونات العملية الموضوعية للتطور بأبعادها التاريخية والمعاصرة، ويصعب عليها أن تنحو في ظل هذه المعطيات منحى أكاديمياً محايداً، لأن نتائجها في هذه الحالة ستكون أشبه بمعادلة رياضية لا تهتم بما يحيط بها من متغيرات اجتماعية وسياسية وثقافية، فكل الأوليات التي احتوتها الورقة من الطاقة إلى البطالة إلى السياحة إلى الفرص الاقتصادية أو الاستثمارية، سيكون من المفيد بناؤها في الإطار السياسي والاجتماعي والقانوني والثقافي والعلمي المصاحب، ذلك أن السياسات الكلية التي تشكل هذا الإطار (في مجموعها) لا يمكن إهمالها عند الحديث عن هذه المكونات الجزئية، وإلا أصبح ذلك نوعاً من التجريد النظري الذي لا يسهم في تقديم الحلول الملائمة للمشكلة موضوع البحث.. ويعتبر جزءاً من الإطار المصاحب لموارد الاقتصاد والطبيعية والثروات المتاحة، ومستوى التراكم المحقق في صورته المادية والمعرفية، وتشكل هذه الأخيرة المحدد الموضوعي لنمط الاقتصاد الذي تسعى السياسات إلى تحقيقه، وهو بسبب هذه السياسات إما أن يتعرض للتدمير أو للتوظيف المفيد للاقتصاد، مما يعني أن السياسات (أي المحيط في إطاره الذاتي) يعد عنصراً حاسماً في هذه العملية، فمثلاً لو لم تكن هناك مقومات سياحية بالمعايير التي تؤهل البلد (من الناحية الموضوعية) أن تتوجه بالاستثمار إلى هذا القطاع، لما شغل هذا البلد نفسه بالحديث عن السياسة الاستثمارية، ومجموعة العوامل السياسية والثقافية والاجتماعية التي تؤثر في ذلك، لكن في بلد مثل اليمن وحيث المقومات مغرية بالنظر إليه على أنه من القطاعات القائدة، يصبح الإطار السياسي والثقافي والاجتماعي والقانوني هو المستهدف، وكذا الحال فيما يخص بقية مكونات البحث.

ولا بد أن نشير هنا إلى أن هذا الإطار اليوم يزدحم بعناصر متنافرة يعمل معظمها على توليد بيئة طاردة للتنمية الاقتصادية والاستثمارية، غير أن العنصر الحاسم في هذا الإطار هو العنصر السياسي الذي يتولى بصورة تحكّمية إعادة تشكيل وتكييف العناصر الأخرى، وفقاً لما تمليه عليه حاجته في التمسك بالحكم. فتصفية المؤسسات الاقتصادية والمصانع والمزارع في الجنوب بعد حرب 1994م كان قراراً سياسياً هدفه إعادة هيكلة هذا الجزء من البلاد على قاعدة أخرى يستكمل بواسطته الإلحاق السياسي، ويخسر معه فرصة أن يصبح شريكاً حقيقياً بما تتوفر له من مقومات اقتصادية إلى جانب المقومات الأخرى. وبذلك فقد ضربت هذه السياسة الخاطئة أهم شرط من شروط التنوع الذي يوفر الحماية الذاتية للناس إما من الاندفاع المنفلت نحو المزيد بما يرافقه من ضغوط وإرهاق وشعور بالظلم والغبن، وإما الاندفاع المعاكس نحو الذات وتكوين الشخصية المؤهلة للاستنجاد بالتجربة التاريخية لحماية هذه الشخصية من الظلم والتهميش.

إن جانباً من المشكلة يدور في سياقاته التاريخية والموضوعية، فالمشكلة التي تضع السياسة في واجهة الصدام مع الاقتصاد، بما يرتبه ذلك من تفكيك متواصل للروابط والحوافز الوطنية الداخلية على صعيد البلاد كلها، هي مشكلة بنيوية ذات صلة بطبيعة النظام السياسي وقواه المتحكمة في خياراته التنموية التي ترتكز في الأساس على هيمنة (مركز) عصبوي سياسي أصبح يسيطر مع المدى على القرار السياسي والاقتصادي، وهذا النوع من السيطرة يعرض شروط القوى المهيمنة عليه في جميع مسارات العملية السياسية والاقتصادية، وهذه القوى لا ترى في الاقتصاد والاستثمار- بأنواعه- والتجارة وأسواق المال غير أدوات ملحقه بقرارها السياسي، أي أنه لا يجب على الاقتصاد أن يتحرك خارج نفوذها، والمؤسف أن تجسيد هذا النفوذ لا يجد مجاله في الامتداد الواسع للدولة إلا بمقدار ما يستمده منه من شرعية لتملك في هذا الامتداد الواسع، أما عندما يتعلق الأمر بالتنمية والاستثمار والتجارة فإن هذا النفوذ يحاصر نفسه في الحيز الجغرافي الذي يراه آمناً لممارسة هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية على النحو الذي يعزز مكانته وقوته في احتكار القرار السياسي للحكم.

جانب من هذا موروث تاريخي له صلة بالتركيبة السكانية وتوزيع الموارد وتفاعلات القوة، والخوف من الفقر ومخرجات الصراعات السياسية والثقافية التي تمحورت حول بناء محددات أبدية تدير العلاقة بين الحكم والثروة، حيث ظلت هذه المحددات تضع شروطاً قاسية على تنمية مناطق مثل تهامة والمناطق الوسطى ذات الكثافة السكانية، وما جاور هذا المركز من كتل بشرية، كان لا بد أن تبقى مخزناً للقوة لتسوية معادلات الحكم وهو ما أفقد كثيراً من أجزاء البلاد مزاياها الاقتصادية التي كان من الممكن أن تصبح جزءاً من الدورة الاقتصادية للبلاد، إلا أن وظيفتها في هذه المعادلة القاسية همشت كل قدراتها، وأصبح من الممكن فهم الإصرار على تحويل تهامة إلى مجرد "عِزَب"، وهي التي كانت بمثابة السلة الغذائية لليمن، أي أنه كان لا بد من إعادة هيكلة المقومات الاقتصادية لتهامة على النحو الذي يدمجها في اقتصاد المركز، وبوظيفة لا تبدو فيها قادرة على أن تتطلع إلى شراكة في الحكم، ولم تشعر تهامة بأهميتها الاقتصادية في أجندة نخبة الحكم إلا عندما وضعت بعد الوحدة في مواجهة عدن التي كان قد تقرر أن تصبح عاصمة اقتصادية، وذلك باستنفار المزاج المقموع فيها ضد قرار أن تصبح عدن منطقة حرة، ولم يكن الهدف من ذلك إنصاف تهامة، وإنما تجميد عدن أيضاً حيث تحول اقتصادها إلى اقتصاد مقاهي وبوفيهات، ولكن بوسائل لم يكن من بينها الاهتمام بتنمية تهامة بعد ذلك.

قوى الهيمنة السياسية إذاً هي التي تحدد شروط تنمية أجزاء البلاد المختلفة وفقاً لمعاييرها التي تراها لأزمة لاستمرار الحكم في يدها، كما تحدد المدى الذي تتوقف عنده هذه التنمية، بما لا يتجاوز الحدود التي قد تغير شروط معادلة الحكم والثروة، كما صاغتها عهود من الصراع والحروب التي جعلت هذا البلد- دون غيره من البلدان- يعيش حالة تحفز دائم طارد لفكرة التنمية والاستقرار، ذلك لأن عوامل استقراره الحقيقية لن تنضح إلا بالقبول بحقيقة أن هذه المعادلة قد أصبحت غير قابلة للاستمرار، وأن التمسك بها لن يورث هذا البلد سوى مزيد من الاختلالات والتفكك، ومحاصرته في حالة من التحفز وعدم الاستقرار الدائمين.

إن بالإمكان تتبع هذه الحقيقة في هذين النموذجين اللذين يوضحان التعسف الذي مارسه القرار السياسي على الاقتصاد، وهما نموذجان حيان للمدى الذي عطل فيه هذا القرار قسماً هاماً من مقومات الاقتصاد الوطني، من خلال إعادة دمج هذه المقومات في المنظومة الخاصة بالدورة الاقتصادية للمركز المهيمن بموجب شروطه ومعاييره، بمعزل عن شروط ومعايير الكفاءة والمزايا النسبية، دون أن يولد ذلك أي أثر اقتصادي على المؤشرات الكلية للاقتصاد في صورة توسيع العملية الإنتاجية والاقتصادية، وتوسيع فرص الاستثمار واستيلاء قطاعات قائدة وحل مشكلة البطالة.. الخ. بل العكس من ذلك أدى هذا الدمج القسري، وعلى ذلك النحو العشوائي إلى إفقار هذه المناطق وتفاقم البطالة وانزياح قسم كبير من سكانها نحو المركز الذي لم يستطع بدوره أن يوظف الموارد التي تتدفق إليه، بسبب هذه السياسة فيما من شأنه أن يؤدي إلى توسيع قاعدة الاقتصاد الوطني لأسباب تتعلق بغياب الشروط الأساسية فيه لتحقيق هذا الهدف، الأمر الذي كان له أبرز الأثر في تبديد هذه الموارد في الاستهلاك الترفي وتحقيق الثراء الفاحش لفئة محدودة من السكان على حساب إفقار الأغلبية الساحقة.

إن مفتاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية الجادة يكمن في حل هذه المعضلة البنيوية والاعتراف بها، وعلى قاعدة حلها العادل يصبح من الممكن الحديث عن استراتيجية تنموية مترابطة الأجزاء والأهداف تعالج ضمنها مشكلة الاستثمار والبطالة والطاقة، وبناء قاعدة صلبة لدخل وطني لا يعتمد فقط على الضرائب وإنما على الإنتاج بدرجة أسياسية.

****

نص الورقة التي قدمها الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني في المائدة المستديرة الذي نظمه بصنعاء منتدى التنمية السياسية بالاشتراك مع مركز المشروعات الدولية التابع للغرفة التجارية الأميركية بعنوان "المائدة المستديرة لتحديد الأولويات الاقتصادية    

زر الذهاب إلى الأعلى