فضاء حر

قراء موجزة في خلفيات وافاق المشهد السياسي المصري الراهن (1-2)

يمنات

انقلاب ام تصحيح مسار ثوري؟؟

ما آلت اليه الامور في مصر ليس نتيجة لمؤامرة انقلابية احيكت في ليل كما يروج الكثيرون لذلك.. أيا كان دور الجيش المصري فيما حصل، فان الحديث عن انقلاب عسكري يظل حديثا مجوفا خالي من الموضوعية طالما ان لدينا شارع انتفض ثائرا ضد الرئيس مرسي والاخوان، بأعداد مليونية متحكمة بكافة المعطيات الفاعلة التي قولبت المشهد السياسي منذ لحظة تفجره حتى الان وبكيفية تنم وبما لا يدع مجالا للشك ان الشعب المصري كان هو الفاعل الرئيسي في صنع الحدث.

كما ان ذلك المشهد الواقعي والتفاعلي يؤكد ايضا ان القوي السياسية في جبهة الانقاذ المعارضة وان كانت ملتئمة ومتوافقة مع اهداف الشارع الذي تقوده حركة -تمرد- الشبابية الا انها – أي جبهة الانقاذ المعارضة لم تكن البتة علي علاقة معتبرة بتوجيه ذلك الشارع او تأطيره او التحكم فيه. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان الجيش وان كانت المساحة الزمنية الضيقة التي تركها كمهلات للمتصارعين قد تثير بعض الشكوك، الا ان الجيش ومنذ اول وهلة قد برهن وبطريقة واضحة على انتفاء معطيات اي عملية انقلابية من قبله او بواسطته وذلك ليس من خلال تأكيده على ابتعاده عن السياسة فحسب بل ايضا وهو الاهم عبر اعلانه خطة قادمة وبأدوات واضحة المعالم لإدارة فترة انتقالية جديدة، وتكمن اهمية تلك الخطة الانتقالية انها استوعبت المطالب التي رفعها الشارع الثائر واتت استجابة لها، بمعنى ان الشارع المصري هو من صاغ معطيات اللحظة ومحددات وادوات الفترة الانتقالية وليس الجيش..

إذن في ظل ما ذكرت من انتفاء توافر اي عناصر انقلاب من قبل الجيش في ما حصل.. ولكن هل يملك الجيش المصري بصفته مؤسسة وطنية وليس سياسية مهمتها الأساسية حماية مصر والشعب المصري والشرعية ايضا القيام بالدور الذي قامت به خاصة وان الرئيس مرسي يتمتع بشرعية انتخابية جعلته اول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر. اضف الى ذلك ان الهوامش تضيق اذا حسبنا المدة الزمنية التي امضاها مرسي في رئاسة مصر من حيث كفايتها لتفجير ثورة جديدة عقب ثورة لم يمض عليها الا سنتين وبضع شهور.. إذن امام هذه المنظومة المعقدة من الاستفهامات السابقة والمتداخلة الابعاد والجوانب الموضوعية في بعض وجوهها تارة والمتناقضة معها تارة اخري. فان تفكيك انساق المشكلة والاطروحات الاستفهامية يوجب اولا قراءه المشهد السياسي ومتتالياته ومحطاته منذ ثوره 25 يناير 2011 م حتي اندلاع الثورة الاخيرة واستنتاج ماهية الاسباب والسياسات التي قادت الى المشهد الراهن، وحتى لا اتوه في سرد معطيات المشهد كاملا فاني ساقف عند تشخيص اهم المحطات خلال هذه الفترة المشار اليها والتي ستؤكد بدورها ان ما يحدث الان في مصر انما هو نتيجة لمصفوفة طويلة من السياسات الاعتباطية التي نفذت في سياق بلورة وتشكيل المشروع السياسي لثورة يناير .. فقبل ان يتم تنظيم انتاج الشرعية الثورية آنذاك في صوره منتظمة تتبلور في مدونة دستورية تستوعب كل مخرجات الثورة والتطلعات السياسية للشعب المصري ويحتكم اليها فيما بعد كافه الفرقاء.

تم انتاج تلك الشرعية الثورية واختزالها في عملية سياسية – كان الجيش فاعلا فيها – تمت بين اطراف لهم مصالحهم المسبقة المتبلورة في الحياة السياسية والاقتصادية من قبل الثورة وبحكم ارباك المشهد الثوري تمكنت تلك القوى وعلى راسها الاخوان المسلمين من تأطير الشارع الشعبي واحتوائه بحيث لم يكن هذا الشارع عاملا فاعلا في تسيير العملية السياسية الجديدة ورسم محدداتها لأنه لم يتبلور في صورة مكونات سياسية مدعومة بمصالح اقتصادية واجتماعية جديدة انتجتها الثورة.

وبالتالي صارت معطيات بناء المشروع السياسي محكومة بمصالح القوى القديمة لاسيما الاخوان تلك القوي تكمنت من انتاج نفسها في الواقع عبر العملية السياسية بحجم يفوق حجمها الحقيقي في ثوره يناير او في الشارع وهي بذات الوقت مؤطرة بمصالحها القديمة بينما ظل الشارع ممثلا بالشباب خارج اداره العملية السياسية يستخدم وقودا استهلاكيا في الصراع الجديد بين القوي والمصالح القديمة – الجديدة.

من هنا بدأ الانحراف عن المسار الثوري في معطيات العملية السياسية واضحا جدا لتصل البلاد بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية الى فرز واقع سياسي لا يعبر عن الحالة الثورية الحقيقية للمشهد المصري ولا يتسق مع اهداف الثورة.. ذلك الفرز تبلور في مسارين متصارعين انتظمت فيه مختلف القوي السياسية المصرية:

الاول هو المسار الديني ( تحالف الاسلام السياسي ) -الاخوان وحلفائهم.. والمسار الثاني ليبرالي انتظم فيما يعرف بجبهة الانقاذ.. وبعد مد وجزر تكمن تحالف الاسلام السياسي من التغلب على المسار الليبرالي الاخر .. ليقوم الاخوان بعد ذلك باستثمار هذا التفوق في تمرير دستور جديد بحكم ان مؤسسة الرئاسة اصبحت بأيديهم وذلك بعد سجالات سياسية كبيرة استخدم فيها الاخوان مؤسسة الرئاسة وصلاحياتها القانونية استخداما اعتباطيا وصلت ذروته في الاعلان الدستوري الذي اعلنه مرسي آنذاك وعزل النائب العام خلافا للقانون كل ذلك الاستخدام ليس لصالح العملية الديمقراطية وانما في سياق تعزيز قبضة الاخوان علي مجريات الامور وحماية خطواتهم الاستحواذية من سلطه القضاء التي قد تحول دون ما يسعوا اليه ليسيطروا في الاخير على اللجنة المكلفة بصياغه الدستور .. ومن ثم طرح ذلك الدستور للاستفتاء عليه في ظل حالة لا وفاق وطني.

وهنا يكمن عمق المشكلة السياسية في المشهد المصري .. إنه اشكال كامن في الانساق التكوينية والبنيات التخليقية لللمنظومة الدستورية التي تحدد الاطر السياسية والمحددات البنائية للمؤسسات الوطنية الكبرى وشكل وطبيعة ومهام هياكل النظام السياسي ككل.

لو انه تم في مصر اعداد دستور توافقي اولا يستوعب كافه اهداف ومخرجات وتطلعات الشعب المصري وثورته عبر عمليه متوازنة لا تتوفر فيها ادوات التمكن لطرف دون اخر في عملية الاعداد ومن ثم الخروج بصيغة توافقية لمدونة دستورية اسهم الجميع بإعدادها ومن ثم الاستفتاء عليها وعلى ضوئها يدخل الجميع في انتخابات تشريعية ورئاسية.

لو ان ذلك تم لما كان حدث ما حدث الان لان الدستور الذي اعده وتوافق عليه الجميع بصوره سليمة واصبح المرجعية التي تمثل ارادة الشعب المصري سيكون الفيصل في حل كل الاشكالات السياسية، أما ان تتم الانتخابات اولا (تشريعية- رئاسية) وتفرز تلك الانتخابات بطرف واحد الي السلطتين التشريعية والتنفيذية ومؤسسة الرئاسة وبعد تمكن ذلك الطرف من الاستيلاء على ادوات الدولة ومؤسساتها يتم صياغة دستور. فهذا امرا مجافي لمسارات العملية الديمقراطية الصحيحة، لان الطرف المتمكن لاشك سيفرض ويمرر اطروحاته التي تحفظ له مصالحه دون الاخرين عبر هذا الدستور وذلك ما حصل في مصر تماما..

يعني في خلاصه التوصيف ان ما حصل الان كان نتيجة افضت اليها مجمل السياسات الاعتباطية التي انحرفت عن مسار الثورة في عملية سياسية كان الاخوان هم الطرف المتحكم في صناعة ادواتها وبالتالي لم يكن الدستور الذي تم الاستفتاء عليه دستورا يمثل امال وتطلعات كافه الشعب ومختلف القوي السياسية

لو ان مرسي تم انتخابه لرئاسة مصر بعد اعداد الدستور لكان من حقه ان يتشبث بالشرعية التي يزعمها الاخوان .. اما وان انتخابه تم قبل اعداد دستور توافقي ومن ثم بعد انتخابه لعب دورا استقوائيا عبثيا خارج الاطر السليمة في عملية اعداد دستور لاحق فان الشرعية الدستورية لا محل للحديث عنها، لذلك نلحظ في خطاب الاخوان السياسي مفردة الشرعية الانتخابية – شرعيه الصندوق .. دون ان يستعملوا مفرده الشرعية الدستورية البتة لان مرسي لا يتمتع بشرعية دستورية.

نعم الانتخابات يمكن توصيفها بالشرعية، لكن تلك الشرعية تسقط حين يخرج الشعب الذي اشترك في الانتخابات ليطالب بسقوط تلك الشرعية التي هو مصدرها كونه مالك السلطة، لكن ذلك الشعب لا يستطيع المطالبة بإلغاء الشرعية الدستورية، لأن الدستور عبارة عن عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم يحدد مهام وواجبات الحاكم امام الشعب والجزاءات المترتبة حال اخلال الحاكم بها او على الاقل سيحدد الحالات التي يتعين فيها سحب الشرعية عن الحاكم والجهة القضائية المناط بها ذلك.

اذن ما يحدث في مصر ليس ثورة فاصلة بين زمنين او واقع سياسي قديم واخر جديد، بل ان ما يحصل هو اعاده تصحيح المسار السياسي لمخرجات تورة 25 يناير وبأدوات الفعل الثوري في سياق بناء المشروع السياسي للنظام المصري الجديد، لذلك يتعين على خصوم الاخوان التعامل معهم بصفتهم مكون سياسي لا يستهان به في الشارع والابتعاد عن ملاحقتهم سياسيا او حظرهم عن العمل السياسي الا من كان متورطا بقضايا جنائية.

تعتبر الاسباب التي اشرنا اليها هي العمق الموضوعي المحرك للمشهد اضافة الى ما صاحبها وتلاها من اخفاقات في ادارة الورقتين الأمنية والاقتصادية للدولة المصرية والتي ظهرت نتائج تلك الاخفاقات بشكل سريع وواضح على حياة المصريين لتتفاقم معاناتهم المعيشية وتزيد من اعبائهم في ظل انسداد الاطر الاقتصادية الداعمة لمعيشة المجتمع المصري.

هذا اضافه الي ان الطريقة التي ادار بها مرسي رئاسة البلاد ولدت شعورا لدى النخب الواعية في الشارع بانها تنال وتقلل من القيم الاعتبارية المتعلقة بمكانة مصر وكبريائها الحضاري.

وهذه المصفوفة الأخيرة من الاسباب كان نظام الاخوان يواجهها بمزيد من الفشل ومزيدا من اخونة مؤسسات الدولة والاستيلاء والسيطرة علي محدداتها وادواتها ظنا منهم بان ذلك سيمكنهم من تطويع الجميع ولي عنق الواقع بكل قواه السياسية المناهضة لهم قبل الإطاحة بهم.

هذه الاسباب ذات البعد الاقتصادي والامني والفئوي قد تضافرت الي جانب المشكلة الجوهرية الأساسية للعملية السياسية برمتها لتدفعا معا بالشعب المصري للخروج عن قيادته السياسية الحاكمة، كما مكنت ايضا النخب السياسية والشبابية من تحشيد الشارع بصورة غير مسبوقة للإطاحة بمرسي..

جلال حنداد – القاهرة 3-7-2013م

زر الذهاب إلى الأعلى