فضاء حر

التجربة المصرية قراءة في آفاق عصر جديد

يمنات

تمتاز مصر عن محيطها العربي بأنها دولة مركزية ذات ثنائية اجتماعية متماسكة ولها مؤسسات راسخة، وهذه الحقائق الثلاث الموضوعية هي التي حكمت وتحكم التطور السياسي للدولة المصرية، والسؤال هو كيف ستتطور التجربة المصرية بقواها السياسية في ظل هذه الحقائق الثلاث؟.

للإجابة على هذا السؤال دعونا ننظر في التالي: من الجلي والواضح أن مركزية الدولة وترسخها في ذهن ووجدان المواطن المصري قد حصر الصراع في هوية الدولة ولم يمتد إلى كيان ووجود الدولة ذاتها، فرغم الأزمة التي تعصف بالبلاد لم يناد ولم يفكر أحد بمطالب تمس وحدة كيان الدولة، وحتى المكون الاجتماعي القبطي لا يرى نفسه إلا من خلال مصريته أولاً، ثم تأتي بعد ذلك الديانة.

وهذا يعني أن الحركة الوطنية المصرية مسيجة بإطار صلب يحصر حركتها في التفاعل داخل الإطار الوطني وحول القضايا الوطنية التي لم تحسم بعد، مثل هوية الدولة وأداء الحكومة والسياسة الخارجية وغيرها من القضايا التقليدية.

كما أن من الجلي والواضح أن المؤسسات المصرية كالجيش والقضاء والأجهزة الأمنية هي مؤسسات راسخة وعصية على الاختراق أو التدجين من قبل القوى السياسية المتصارعة، فهذه المؤسسات ذات انتماء وطني لا لبس فيه رغم ما يسود ممارساتها بين الحين والآخر من أخطاء وتجاوزات على الصعيد الحقوقي والإنساني. وهذه المؤسسات هي التي حالت دون انزلاق مصر إلى الوضع السوري أو الليبي أو اليمني.

وبما أن الثابت في مصر هو مركزيتها ووطنيتها ومؤسساتها فإن القوى السياسية محكومة بهذه المعادلة الثلاثية، هكذا كانت في الماضي وهكذا هي اليوم وستظل كذلك إلى أمد غير منظور.

كان عبد الناصر حاكماً فرداً ذو شعبية عارمة تجاوزت حدود مصر، ولكنه كان في الوقت نفسه يدرك حدود حركته، وعندما هزم عام 1967م قرر الانسحاب من المسرح السياسي، إلا أن عاطفة المصريين أخرجتهم إلى الشوارع مطالبين بإبقائه بدلاً من محاسبته.

وكان السادات ذو سلطات مطلقة مسيجة بنزعة أبوية ولكنه لم يتدخل قط في أداء المؤسسة العسكرية رغم كونه أحد أبنائها، حيث ظلت تمارس عملها بمهنية صرفة وكان قرار الحرب في عام 1973م قراراً عسكريا مدروساً لم يكن للسادات فيه سوى إعلانه بصفته رأس النظام.

ورغم أن مبارك سار في مشروع التوريث وتمادى فيه كثيراً، إلا أنه لم يحاول قط الاقتراب بمشروعه هذا من المؤسسة العسكرية فقد ظل أبناءه بعيدين عنها، كان الرجل يدرك حدود حركته.

مشكلة الإخوان المسلمين الغارقين في قراءة كتب اللاهوت أنهم لم يقرؤوا تاريخ مصر، فبعد وصولهم إلى السلطة بدأوا بتلهف، وفي إطار سياسة التمكين، في محاولة محمومة للسيطرة على المؤسسة العسكرية، فلما لم يفلحوا حاولوا اختراق أذرعها الأمنية والاستخباراتية، فلما أخفقوا عمدوا إلى محاولة ضرب هذه المؤسسة ومشاغلتها بوظيفة جانبية تتمثل في ملاحقة الجماعات الإرهابية التي جلبوها إلى شبه جزيرة سيناء من شتى أصقاع المنطقة بمساعدة حركة حماس والمنظمات الجهادية، ولما تبين لهم أن هذه الإجراءات غير كافية لإعاقة المؤسسة العسكرية وصرفها عن دورها الوطني رضخوا للأمر الواقع وأخذوا في الأيام الأخيرة من حكمهم بامتداحها والثناء عليها، ولكن بعد فوات الأوان.

وعلى الجانب الآخر لم تحاول القوى الليبرالية إعادة تنظيم نفسها في حزب سياسي يحظى بشعبية واسعة تستطيع به خوض غمار الحياة السياسية من موقع قوة وتجعل منه رافعة سياسية قوية في معادلة الصراع على السلطة مع القوى الدينية والتقليدية الأكثر تنظيماً منها، بل ظلت في حالة شتات غير مبررة.

ولم يحاول الشباب الذين برهنوا على قدرتهم اللامحدودة على إسقاط نظامي مبارك ومرسي وبينهما المجلس العسكري بحشودهم غير المسبوقة التي أذهلت وأدهشت العالم أجمع، لم يحاولوا صناعة رافعة سياسية حزبية تمثلهم ويكون لها طابع الاستمرارية والحضور اليومي حتى يكونوا معادلاً موضوعياً حاضراً في الحياة السياسية المصرية، لا مجرد عاصفة هوجاء تهوي بالنظام المغضوب عليه ثم لا تلبث أن تتلاشى في الآفاق.

إن إعجاب الشباب بالجنرال السيسي وتنامي شعبيته في أوساطهم لا يقل خطورة على الديمقراطية المأمولة عن خطورة قوى الإسلام السياسي، فإذا كان البديل هو السيسي فلِمَ الإطاحة بمرسي إذاً؟ لا جدوى من تكرار تجربة جمال عبد الناصر، الكاريزما ليست هي البديل، البديل لا ينبغي أن يكون سوى المؤسسات.

إن على القوى الحداثية بشقيها الحزبي والشبابي أن تعي دورها التاريخي وتدرك أن ما هو مطلوب منها ليس مجرد إسقاط نظام، وإنما بناء مؤسسات حزبية راسخة تقود عملية التنمية وتلج بمصر إلى عالم الدول الصناعية المتقدمة كدولة غنية ديمقراطية راسخة ومستقرة.

هذا الهدف المحوري لا ينبغي أن يغيب عن أذهان قادتها في ظل النشوة والنصر الزائف المتمثل في إسقاط الأنظمة باستمالة الجيش، فهذا النصر في الواقع لم يكن نصر هذه القوى وحدها، فروافده تنبع من الجيش وتنبع بدرجة أكبر من فشل الأنظمة المطاح بها، كشلل وعجز نظام مبارك، وتهور وعدم عقلانية الإخوان المسلمين المهووسين بسياسة التمكين تحت دعاوى ومبررات دينية.

ما هو مطلوب الآن من كافة القوى السياسية في مصر بمعسكريها يميناً ويساراً ليس البكاء على ماضٍ لن يعود كما يفعل الإخوان المسلمون اليوم، ولا الاحتفال بنصر لا يملكون كل مقومات صناعته، كما يفعل الشباب.

المطلوب هو التوقف أمام الحدث ومحاولة فهمه ومن ثم البناء عليه. مطلوب من الإخوان المسلمين أن يتوقفوا وأن يراجعوا كل إخفاقاتهم ابتداءً من وعودهم الكثيرة التي نكصوا عنها، ومروراً بأدائهم في الانتخابات البرلمانية ثم تراجع شعبيتهم في الانتخابات الرئاسية، وإخفاقاتهم في إدارة الدولة، وتهورهم بإصدار إعلانات دستورية متلاحقة تحصن قياداتهم وتجعل منهم فراعنة فوق مستوى المحاسبة، ومروراً بخروج المصريين في مظاهرات غير مسبوقة في تاريخ البشرية ضدهم. وانتهاء ببقائهم في حالة من العناد والمكابرة في تحدٍ غير مفهوم لإرادة الشعب المصري.

إن محاولة قهر المصريين وكسر إرادتهم تحت مبررات دينية من قبيل تطبيق أحكام الشريعة وهْم سيجنون ثمنه استعداء عامة الشعب المصري.

عليهم أن يتوقفوا وأن يراجعوا كل بنود هذه التركة بنداً بنداً، ما لم فإنه محكوم عليهم بالفناء.

غالب ظني أن أيدلوجيتهم الدينية القدرية لن تمكنهم من إحداث مراجعة عميقة لإخفاقاتهم، فهم يعتبرون أن ما حدث لهم ليس مجرد أخطاء سياسية ارتكبوها بحماقاتهم، وإنما قضاء وقدر إلهي كتب عليهم، يؤجرون على تحمله وتحمل نتائجه وتداعياته.

ومثل هذه البنية الذهنية ليست مؤهلة لإجراء مراجعة، وإنما مهيأة ومعدة لارتكاب كوارث وحماقات جديدة.

وعليه أرجح أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر سوف تنحل وتتفتت إلى جماعات صغيرة بعضها يزاول العمل السياسي من مواقع هامشية في المجتمع محملاً بكل هذه التركة من الأخطاء، ومطالباً من قبل المجتمع وفعالياته السياسية والثقافية باختبارات قاسية يبرهن فيها على وطنيته المصرية، وبعده عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والإيمان بالديمقراطية التداولية كآلية وطريق مفتوح الجانبين للوصل إلى السلطة والخروج منها، وليس طريق أحادي الجانب متجه إلى أعلى، وبنبذ مرجعية رجال الدين، والإيمان دون رجعة بمرجعية الشعب.

ولا أظن أن هذا الفصيل بحمولاته الأيدلوجية الثقيلة قادر على اجتياز كل هذه الامتحانات الصعبة. والبعض الآخر سيتنكب الطريق الأكثر وعورة، ويسلك سبل العمل الجهادي، وهذا محكوم عليه بالفناء في عالم أكثر علمانية لا مكان فيه للمقولات اللاهوتية.

أستطيع أن أقول بثقة وبدون أي تحفظ بأن محمد بديع وخيرت الشاطر ومحمد البلتاجي وعصام العريان وحصانهم البائس محمد مرسي قد أرسلوا قوى وأحزاب الإسلام السياسي في مصر والمنطقة برمتها ودفعوا بها إلى طريق لا عودة منه أبداً.

لقد خدم هؤلاء الرجال، وبدون وعي منهم، العلمانية التي يناصبونها العداء أكثر مما فعل دعاة العلمانية نفسها. ليس بوسع أحد في المنطقة أن يقدم للعلمانية أكثر مما قدمه هؤلاء، فهم من كتبوا الفصل الأخير في تاريخ مسيرتهم اللاهوتية التي استمرت 85 عاماً منذ تأسيس التنظيم على يد حسن البناء عام 1928م، وهم وحدهم من هتكوا ومزقوا آخر خيوط الستار الذي يفصل جماهير الأمة العربية عن فجر عالم جديد وحديث لن يحتلوا فيه أكثر من مواقع الهوامش والتخوم.

وسيصبح هذا العصر الوشيك حقيقة واقعة بعد السقوط المرتقب للإسلاميين في كل من تونس وتركيا وليبيا، وقد تبرز دساتير في وقت لاحق تحظر قيام الأحزاب على أسس دينية، عجلة التغيير دارت ومن الصعب إعادة دورانها إلى الوراء.

أنا هنا لا أتمنى وإنما أقرأ في الوقائع والمعطيات، وستبين لكم الأيام صحة ما أذهب إليه الآن. ومطلوب من قوى الشباب والليبراليين واليسار أن يعوا أن لابتهاج بالنصر لا ينتج أكثر من إيغار الصدور وزراعة الأحقاد وإثارة الفتن، عليهم أن يضعوا على رأس قائمة أولوياتهم إعادة دمج الإخوان المسلمين في العملية السياسية بعد تقليم أظافرهم وكسر نزعة التفرد الملغية للآخر لديهم، وإعادتهم إلى حجمهم الطبيعي كفصيل وجزء من المجتمع، له ما للآخرين دون تمييز، وأن يتبنوا خطاب المصالحة تجاه الإخوان المسلمين، وألا يكرروا أخطاء الإخوان الفادحة، فإلغاء الآخر تعني الانكفاء على الذات ومن ثم إلغاء الذات نفسها، فمهمتهم الأساسية تتمل في خلق درجة من الاستقرار تمكنهم من الدفع بمصر إلى عالم القوى الصناعية المتقدمة فهذا ما يليق بمكانتها، ووسيلتهم لتحقيق هذا الهدف ليس الأشخاص مهما علا شأنهم، وإنما بناء مؤسسات حزبية راسخة تحظى بثقة وإعجاب المواطن المصري والعربي المصدوم بأدائهم البائس الذي لم يؤهلهم حتى للقدرة على مجاراة ومنافسة قوى الإسلام السياسي الأكثر تنظيماً وفاعلية منهم.

لقد خُدع المصريون بقوى الإسلام السياسي طويلاً كما خدع العرب، وقد برهنت هذه القوى اليوم بجلاء على فشلها وإخفاقها، هذه فرصة تاريخية أمام يسار وليبراليي وشباب مصر عليهم اهتبالها والعمل على حسن استغلالها، لما لها من نتائج وآثار لن تتوقف عند حدود مصر وإنما ستعيد صياغة المنطقة العربية برمتها، فمصر هي رأس القاطرة التي تجر العالم العربي خلفها.

السؤال هو هل يتمكن هؤلاء من التقاط الفرصة التاريخية وتوظيفها لإعادة صياغة نظام سياسي ديمقراطي يسع الجميع دون تمييز بمن فيهم فلول الإخوان، أم سيكررون تجربة الإخوان في محاولة احتكار السلطة وتهميش من سواهم بمن فيهم الإخوان والسلفيين وقوى الإسلام السياسي، فتكون هذه بتلك؟ آمل ألا تكون لهؤلاء سياسة تمكين غير معلنة خاصة بهم، إذا كان الأمر كذلك فهي الكارثة عينها تتقاذفنا في حلقة مفرغة لا سبيل إلى الفكاك منها.

على هؤلاء أن يدركوا أنهم في قلب الحدث وأن طريقة تعاملهم معه وإخراج المجتمع من قلب إعصار هذه الدوامة إلى وضعية يتساوى فيها الجميع المختلف والمتعدد تحت سقف المساواة ستعيد صياغة مكانة ودور مصر في المنطقة والعالم، وتعيد صياغة المنطقة العربية برمتها؟ ليس لدي من إجابة على أسئلة كهذه.

 [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى