فضاء حر

بحثا عن الحب ( 2 )

يمنات

أمين غانم

في السابعة مساء ،بدت المدينة ودودة ،كأميرة ترفل بأنفس حليها ،متأنقة ،بأضواءها المذهبة ،يتشرب العشاق ،حنين ما ،مايفتأ يمنحهم الجرأة والكياسة معا ،كقوس قوزح ،حين يغمر ناظريه ،متعة التصالح مع النفس ،ومع الحياة برمتها ،بالإمعان في جمال الوانه الفتيه ،الذائبة ، وحينما تنعدم الشقة بين التفرس والإنصات ،يشرع الجمال في فرد جناحيه للإنسان ،وكما قال كافكا : من يملك القدرة على مشاهدة الجمال ،لايشيخ أبدا .

لملمنا كل شيء ،من المقعد الخلفي ،كعروسين ،مضطرين لمقابلة ثلة من الأهل ،وبدا المقعد حينها ،كمخدع وثير ،زاخر ،بكل الأشياء العابقة ،والغير قابلة للنسيان .

أستعدت رباطة جأشي في المقعد الأمامي ،بإشعال سيجارة جديدة ،تاركا هدى تعيد شالها البرتقالي ،إلى هيئته ،في محاولة متعجلة ،تداري كل ماطالته لذة العشق المنفلت هنا ،وكانت ملامحه بادية بفوضوية الأمواج ،حين تداهم الشواطئ ،بغتة .

ادارات هدى مفتاح المحرك ،اما انا ففتحت مشغل الصوت ،وانطلقنا ،على صوت كلمات الأغنية ،المنسابة ،برومانسية لاحد لها :

أسمع رسول أشواق  قلب يناديك 

ترقص اماني نشوتي لاجل اشوفك

وآخذ من ظروف الرخاء وقت واعطيك

عسى الاماني بددت شكوك خوفك

كانت الموسيقى ،تسري في عروقنا ،

تغلي ياسيد الغنادير واغلي

واجيب لك عمر الهنأ في كفوفك

يجوز لي يازين… منك تغليك

واعرف واقدر ياحبيبي ظروفك

كانت الموسيقى ،تنساب بدمنا ،وتوقد وجدانات الخليقة ،لما لها من تدفق لانهائي في أذهان مفتوحة ،بأنصات مستسلم لكل ماهو آت ،مذعن للامعقول ،فكل الحقائق ،غير متاحة الآن ،كأوجاع تبدو مؤقته ، وتوارب قسرا،فالجموح حين يغدو واقعا ،ولو لبرهة من الزمن ،تسقط موانع جمة ،تشي بمرونة الحقائق الصلبة ،وربما هشاشتها ،فالوثبات الخرقاء للإنسان ،لاتخضع لنواميس الأمس ،فصار لازما عليها ،إنتاج قوانين جديدة للغد ،لكن الحب ،بعكس الثورات ، لايموت بالفشل ،ولا يحوله الإخفاق ،مجرد وبالا تعيسا  للقفز فوق الحقائق ،فذكرى الحب لاتعدو عظة مؤنبة للآتيين لتركه ،والعبرات والدروس تظل نكاية مريرة ،بكل المحاولات القاصرة ،صاغها أناس لايعترفون الإ بقوتهم هم ،أما الخائبون ،لايصنعون الحكمة ،وإن فعلوا ، يتحولوا حينها إلى خونة في وضح النهار .

كان عمر ،شابا ،مثقفا ،متزوجا ،له ثلاثة أطفال ،وظل متمسكا بالدور ،محافظا على موقف رجل متزن ،

منذ البداية ،غير خاضع للمساومة ،يقين ثابت لاتبدله مغريات عاطفة جامحة ،كعقيدة متدين مخلص ،يقاوم خشيته من الضعف في أتون حرب  تفتك بكل العقائد .

كانت هدى بالمقابل تعي تلك العقدة ،وماانفكت تردد : دعنا نذهب لأي مدى ،فالواحد لايصدق ان يحظى بلحظات حرى ،صادقة ،لم ولن يذقها بسنوات حياته ، لطالما شفته من اوجاع شتى ،إحساس دفاق بالحياة تلتئم معه كل الجروح الغائرة في النفس ،وتضيف بنبرة متعقلة ناضجة : لو كان هذا كل شيء ،لكان كافيا في زمن لايحمل في جعبته الإ مزيدا من الاوجاع والأسى .

كلمات هدى ،غدت بمثابة الهبة التي تمنح لحائر مثقل بالحاجة للمزيد من الوقت ،كي يدرك كنه مايصنع   ،ومالبثت حتى انتشلتني من دوائر الغرق في تيهانات التمادي في الإختيار ،فلم تكن رغبتها الإ دافعا عمليا لتخطيه ،لإدراكها بإن الإختيار لن يكن في صالحها ،وأكتفت بما تظفر به من ذلك الحب ،وتركنا معا ،الخوض في تفاصيل تنسينا مذاقا خالدا ،قلما يذقه آخرون ،يملكون كل  الأسباب التي نعوزها ،فالعوز حين يتحول إلى دافع ،يتحتم علينا الذود عنه ،فقد غدا مجدا خالصا ،فلا نبدده ،كما يبدد الصابرون كل الفرص ،بتريثهم الزائد الذي يشبه الإستسلام ،فالتقاعس الزائد يفسد الحقائق ،كفاكهة تنضج بطمرها تحت التراب ،بيد أنها تعطب وتتلف حين يزيد بقاءها ،عن الوقت المحدد .

كنا مفعمين بنسيان كل مايعكر لحظات العشق ،نرتشف منها دعة ردود مقتضبة تشي بهناءها ضحكات صادقة لهدى ،لطالما حبستها بصدرها منذ سنوات ،هكذا كانت تعلق عقب كل قهقهة عميقة .

تجولنا بشارع جمال ،راجلين ،تحت زخات مطر خفيف ،دون تذمر ،فلا يجوز لعن أي شيء يهطل من السماء ،حتى ولو كان مطرا ، تمتت بكلمات أليف شافاك ،على وقع حضور زليخة ،لقيطة أسطنبول ،في ذهني ،بإيحاء ضمني لن تكن المقارنه فيه ممكنة ،بقدر ماكانت حثا على تفاصيل سردية مشابهة ،تتوخى التدقيق في ملامح الباعة،حين يسامون هدى ، تحديدا  ،لكني من الآن سأتولى السرد ،وادقق في تفاصيل كل من هدى ،وعمر .

كان عمر بمظهر إعتيادي ،وقسمات كارزيمية ،تبدد ،تماما ،كل الإنطباعات التي يعكسها وجه غير حليق ،بفوطة مبلطة ،وقميص أنيق ،تشي الوانه الهادئة ،بذائقة رفيعة ،مميزة ،يمشي ماسكا بهدى ،بثقة حصيف ،واثق مما يفعل ،في تناغم عميق ،لاينذر خلو جيبه من المال ،بميل هدى الطبيعي ،لقانون من يملك المال ،خليق به أن يستحوذ على وجاهة إنفاقه .

ولج عمر محل ملابس رجالي ،تتبعه هدى بمتعة لامتناهية ،وشرع في إختيار طواقم قطنية خفيفة ،يرتديها ذوي النفوذ والجاه في الافلام الهندية ،حين يقابلون في قصورهم الفارهة ،مخلصين ،يجيئون مرارا لخطب رضاهم ،حاملين أخبارا سارة .

سأل عمر صاحب المحل او البائع ،بغتة بعدما أنهى ،

رشفة صغيرة من قنينة يحملها بيده ،واضعا أياها علي الطاولة الزجاجية ،كأمريكي على حدود المكسيك حين يضع زجاجة  كونياك فارغة ،يمسك بعنقها بقوة ، ضاربا طاولة خشبية أمامه ،بغطرسة مزدريه لكل الموجودين ،قائلا : أيوجد لديكم فوط ابو دلة ؟ ،شارحا شهرتها ،وجودتها ،مارا بإقتضاب على ثمنها الباهض ،الذي يقارب المائة دولار ،رد البائع الخمسيني : لا ،ياعزيزي ،معنا نوعيات متوسطة ،قد تناسبك ،فاردا رزم ،مختلفة ،الالوان ،والأشكال ،ليقع إختيار عمر على واحدة،مميزة منها ،إضافة قميص نايلون يناسبها .

كم حسابك ياحاج : سأل عمر الرجل ،وهو يخرج رزمة من الأوراق المالية ،فئة خمسين ألفا ،لفها بمهارة ،مع لفات رأس فوطته ،كعطفات جمالية ،تغطي حزامه الكاكي العريض ،الخاص بالقوات المسلحة .

في الحقيقة لم يكن تصرف عمر بذات الرعونة التي وسمت تصرف الامريكي في الحانة ،إنما بدت ،ككياسة ،ضافية لعربي نبيل ،يحسن معاملة الغرباء ،لكن تعليقه المزدري لخطاب باسندوه ،رئيس الوزراء الجديد ،في شاشة صغيرة بزاوية المتجر ،كان كافيا ،ليظهر بجلاء مدى ميله لفكرة السفر إلى امريكا ،ولو اعاد إرتشاف الماء ،مرة أخرى ،بلا ريب لن يحافظ على كياسته مطلقا .

كانت حبات العرق ،تتكور في جبهته ،حبيبات متقاربة ،تفسر حميمية ما ،تسكن روح الرجل ،وتمنحه رجاحة العقل أكثر من اللازم ،حين يتعامل مع كل ماحوله .

أثناء خروجهما ،كانت هدى بشوشة ،كفراشة تحط للتو على زهرة ناصعة جلية ،في نبتة شوكية ،صغيرة ،تحمل أشياء عمر ،بكيس بلاستيكي ابيض ،تتبعه بقناعة انثى حين تجد سببا وجيها للتخلي عن الغرور ،في إذعان غريزي لقوة رجل ،كونت خصاله الأصيلة سلوك عيش شراكته الآن ،بعفوية انضجتها تجارب هدى في إختبار مآرب الرجال ،ونقاء سريرتهم ،ولم تأت لهذا السوق لتختبر الرجل ،إنما أتت لتحتفي بمهارة الإختيار ،وتعيش لحظاته الفتية ،والتي انتظرتها لسنوات ،برؤيته كإنسان من لحم ودم ،وكما رسمته بحدس أنثى ذكية ،يمضي أمامها كفارس نبيل ،ماينفك يشعرها بإنها كسبت رجل تستحقه ،ويجدر بها الحفاظ عليه ،فمثل هؤلاء لايقبلون المساومة ،يجيئون بكبرياء ،ويختفون بكبرياء أعظم منه .

الاستمرار في الكتابة

لاتكتب الروايات والقصص ،هكذا!

من مجرد فكرة بسيطة لاترمي إلى الكتابة ،ومن ضمور الرغبة تماما ،في خوض تجربة محفوفة بالكثير من المشقة ،والكسل ،

تساءلت بفتور زائد ،معددا كل البدايات التي وئدت ، في المهد ،لتتحول التجربة كلها مجرد مقالة صغيرة ،قد لاتنشر في اغلب الحالات ،فلست قاصا محترفا ،لألج هذا العالم الساحر ،                                  

لكني استسغت الفكرة ،من باب الكتابة المفتوحة ،لما لها من تدفق مريح ،سلس ،مايفتأ يمنحك اللغة ،ويبدد الوقت ،بحجم مايمنحه السراب من أمل للظائمين ،المجهدين ، في إختزال المسافات ،والسير حثيثيا ،حتى النهاية ،قبل أن يفتك بهم اليأس والقنوط،ويطيح ببقية ثباتهم .

بساطة الفكرة ،تظل هي لغز الفن برمته ،وكثير من الكتاب والمبدعين ،يتيهوا في إلتقاط تلك البساطة  ،في ميل برجماتي للوقائع العظيمة ،او الدنو بنفس الكيفية ،لإعلاء تفاصيل شريحة منسية ،او طائفة مهملة من المجتمع ،متكئين على عوامل نجاح مضمونة ،سلفا،فالشهرة والندرة ،ليست عوامل جوهرية  ،كي  تتحول الكتابة لفن جيد ،يشبع ذائقة الناس ،بقدر ماهي قيود وموانع شائكة ،ومن حيث لايدرون ،فإنهم يحبسون فنهم في قنينة زجاجية ،وتظل مسألة إخراج العمل وتوزيعه ،أشبه بوضع سدادة الفلين على الفوهة ،كإعلان موت روتيني ،لرجل غريب ،لا أهل له ،ولا أحباب.

زر الذهاب إلى الأعلى