فضاء حر

مخدرة المستشفى الجمهوري بصنعاء

يمنات

بعد أن اشتد بي المرض، قبل أيام، ذهبت إلى المستشفى الجمهوري، الكائن في شارع الزبيري وسط العاصمة صنعاء. وقبل أن أصل إليه عرجت على مستشفى الكويت، الكائن في شارع الزراعة، وأردت الدخول إليه للمعاينة، لكن الجنود منعوني وطلبوا مني "ورقة".

أخبرتهم أني مريض وأريد أن أتعالج، لكنهم أصروا على طلب الورقة مني التي لا أعرف ما هي. وبعد شد وجذب في الحديث معهم؛ أخبرني أحدهم بأن المستشفى لا يوجد فيه أطباء لمعاينتي، وعليّ الذهاب إلى المستشفى الجمهوري.

غادرت بعدها صوب المستشفى الجمهوري، وكان الوقت تقريباً ما بين الرابعة والخامسة عصراً، عندما توقف بي التاكسي أمام بوابته التي استقبلني أحد جنود الحارسة فيها بتخزينته "أبو أسد".

كان الجندي منهمكاً في حشو فمه بأعواد القات، غير آبه بأحد من الداخلين والخارجين، فتجاوزته صوب فناء المستشفى الذي وجدت فيه عددا من السيارات المركونة، وعليها أناس يتعاطون القات ويرمون بعوادمه وأعقاب السجائر على الأرض وكأنهم في لوكندة أو في أحد المنتزهات، وليسوا في باحة مستشفى يجب أن تُحترم ويحضر تعاطي القات والتدخين فيها.

هذا المنظر كان إلى هنا ما يزال طبيعياً عندي، طالما وهو في الخارج ولم يتعد عتبات مبنى المستشفى؛ لكن ما صدمني هو أني عندما ولجت المبنى، وذهبت إلى مكتب الاستعلامات، وجدت فيه "مُخزنا" وحيدا، كان قد وصل ساعته السليمانية تقريباً، فحببت ألا أقطع عليه "طنانته"، وتركته يستمتع بمضغ القات لأبحث عن أي مكتب بجواره، فيه موظف وليس "مخزنا"؛ لكني فشلت، لأن المكاتب المجاورة كانت مغلقة.

ولأن الألم كان يعتصرني، ولم يعد فيّ أي قوة للبحث عن موظف أو مخزن غيره، قررت العودة إليه لأسأله عن طبيب يقوم بمعاينتي، وبعد أن ناديته ثلاث مرات بـ" يا أخ.. يا أستاذ.. يا دكتور"، التفت إليّ وقال لي "ايش تشتي؟"؛ أخبرته أني مريض وأريد طبيبا، فنصحني بالعودة في صباح اليوم التالي لأن الأطباء ليسوا متواجدين، حسب قوله.

رديت عليه: "يا أخي أنا مريض، ومش معقول ما فيش طبيب في المستشفى!"، فقال لي: "شوف مركز الطوارئ في الحوش، وهناك ربما تجد طبيبا".

ذهبت إلى مبنى الطوارئ، وهناك وجدت عددا من العيادات التي لا يتواجد فيها أي أطباء غير طبيب واحد، كان متواجدا في عيادة الأطفال. وأثناء ما كنت أبحث وأدور في بهو المركز، استوقفتني "طاقة" مكتوب عليها "الصندوق"، وعندما أطليت برأسي من خلالها، شاهدت في الداخل شخصا ذا "بحشامة عرمرمية" يقف خلف جهاز الكمبيوتر، وكانت عينه اليسرى قد أخذت في الاختفاء بسبب وجنته المنتفخة التي قاربت إلى أن تكون بحجم كرة قدم متوسطة.

نسيت ما أنا فيه من مرض وذهبت أتلصص على وجوه المخزنين، أصحاب السترات البيضاء، وغيرهم، الذين يتعاطون القات داخل المستشفى، وفي مكاتبها وفنائها، بدون أي خجل أو احترام للمكان وللمهنة المقدسة. فعلاً ما شاهدته هو شيء مخجل ومعيب وكارثي بامتياز.

غادرت المستشفى خائباً وحزينا وأنا أشاهد كل هذا العبث، الذي كان يحدث داخل قلبي، أكثر من كونه يحدث داخل مؤسسة هي من أكبر المؤسسات الصحية في اليمن. وعند المغادرة تبادرت إلى ذهني فكرة مفادها أن أصعد إلى غرف الرقود لأشاهد هناك "المبحشمين" من الأمراض والمرافقين لهم، وربما الأطباء أيضاً الذين لم أجد أحداً منهم في العيادات، سأجدهم الجميع هناك عاملين مخدرة.

زر الذهاب إلى الأعلى