فضاء حر

الباعث والاستجابة .. قراءة في نظرية التطور الاجتماعي

يمنات

ترى ما هي بواعث وأسباب التغير والتطور الاجتماعي، وما هي المخاضات التي تسبق وتصاحب عملية التغير؟ وكيف يحدث ذلك التغير؟ ومتى تحدث النقلة؟ للإجابة على هذه الأسئلة دعونا ننظر في التالي:

لنفترض لغرض التحليل أننا إزاء مجتمع إنساني بدائي مكون من قبيلتين متجاورتين، وأن هاتين القبيلتين في حالة من الصراعات والحروب المتقطعة، على خلفية التنافس والتكالب على الكلأ والماء، ورغبة كل منهما في التسيد على الأخرى، وبما أن هاتين القبيلتين في طور حضاري واحد وفي حالة شبة متكافئة من حيث العدد والعدة المتمثلة في السيوف، والرماح، والخيول، فإن الحرب بينهما سجال لا غالب فيها ولا مغلوب. ولكن يحدث فجأة أن يتمكن أحد شباب القبيلة الأولى النابهين من اختراع السهم والقوس، فيصبح بإمكانه أن يقتل عن بعد وبدون مواجهة، فيحدث هذا المخترع جدل عنيف داخل القبيلة نفسها، ففرسان القبيلة ورجالها المجربون يرون فيه ثورة في ميدان الحرب، ستمكنهم من سحق القبيلة المنافسة والسيطرة عليها، ووضع نهاية للحروب التي لا تنتهي معها، أما شباب وشابات القبيلة فقد ابتهجوا بهذا المخترع أيما ابتهاج وأخذوا يغنون ويتراقصون في ساحات وميادين القبيلة فرحاً بالمخترع الذي سيحقق لهم النصر المؤزر دون أن يخسروا قطرة دم واحدة.

إلا أن رجال الدين وقساوسة القبيلة المحيطين بشيخ القبيلة رأوا في هذا المخترع الشر عينه، فهو رمز للغدر والخيانة، فالنصر من وجهة نظرهم لا يأتي إلا تحت قعقعة وصرير السيوف وصهيل الخيول، وليس عن طريق رمية يقوم بها غادر جبان يتخفى خلف أكمة، إن هذا المخترع من وجهة نظرهم يشكل إهانة كبيرة لرجولة وشجاعة الفرسان، كما أنه قد يكون وسيلة ناجعة للقتل وتصفية الحسابات والثارات بين أفراد القبيلة نفسها، وقد يؤدي إلى ظهور ونشوء جيل من الشباب لا يعرف إلا أخلاق ولغة الغدر والخيانة. وبناءً على هذه الحسابات وهذا النمط من التفكير فقد أخذوا يشنون حملة شعواء على الشباب الذين وصموهم بالمنحرفين الذين اخذوا يتراقصون كالفاتنات من النساء، والشابات الساقطات من وجهة نظرهم اللواتي أخذن يحركن أردافهن ككثبان رملية متحركة، ويطالبون شيخ القبيلة الغيور على أخلاق ومقدسات القبيلة بضرورة وضع حد لهذه المهازل والمفاسد التي غزت مرابع القبيلة، بحضر هذا المخترع المفسد، ومعاقبة من كان وراء اختراعه، والتعامل مع الشباب والشابات بصرامة تجعل منهم عبرة لغيرهم ممن يريدون إفساد أخلاق القبيلة، والنيل من قيمهما ومقدساتها النبيلة والخالدة.

وأمام هذا الجدل واللغط لا يسع شيخ القبيلة المعروف بحنكته ودهائه إلا أن يسلك طريقاً وسطاً يرضي فيه جميع المتصارعين، فيأمر أولاً بحضر صناعة السهام والقسي من قبل الأهالي، ويتوعد من يقوم بذلك بأشد العقاب، ولكن نظراً للحاجة الملحة إليها في الحرب، فإنه يأمر بصنعها في مشاغل خاصة خاضعة لإشراف شيخ القبيلة، كما يأمر بألا تصرف هذه السهام والقسي إلا في أوقات الحروب، حتى لا تستخدم في الاغتيالات والثارات بين أفراد القبيلة، وأن يتم تسليمها وإعادتها إلى مخازن شيخ القبيلة فور انتهاء الحرب مباشرة، ويأمر بعدم السماح للشباب والشابات بالغناء والرقص في ساحات القبيلة حماية لأخلاق وأعراف ومقدسات القبيلة، وبذلك يكون الشيخ بحنكته ومهارته ودهائه قد اكتسب سلطة جدية، ومكانة جديدة، وأرضى الجميع في نفس الوقت، وإن كان لا يزال هناك بعض المتذمرين.

وما هي إلا فترة وجيزة حتى تحدث الفتنة بين القبيلتين وتبدأ نذر الحرب في الظهور والتصاعد، فتدق طبول الحرب ويبدأ الحشد في ميدان الحسم الذي اعتاد رجال القبيلتين، وفرسانها، وصناديدها على النزال فيه، ولكن القبيلة الثانية تلاحظ أن جيش القبيلة الأولى قد اخذ في التوزع على التلال، والمرتفعات، والأجمات، والآكام، ورؤوس الأشجار المحيطة بميدان المعركة، ولم يعد في الميدان إلا قلة من الفرسان الذين لا يقوون على ردع عدو أو رد عادية، فأين قلب الجيش الذي سيبدأ الهجوم؟ وأين ميمنته وأين ميسرته اللتان ستمنعان الالتفاف عليه؟ وأين الساقة أو المؤخرة التي ستحمي ظهر الجيش؟ لقد أثار ذلك استغرابهم من الخطة الحربية غير المألوفة لشيخ القبيلة المعادية، هل قرر تقسيم جيشه بين أقلية من الفرسان تقوم بخوض المعركة، وأغلبية متفرجة؟ لقد بدا الأمر محيراً بالنسبة لهم، ولكن ما أن بدأ جيش القبيلة الثانية بالزحف إلى قلب ميدان المعركة للالتحام بتلك القلة من الفرسان، حتى انطلقت من المرتفعات، والأجمات، والآكام، ورؤوس الأشجار سيل من السهام المجنحة صوب الجيش المعادي كأنها شياطين مرد، فحصدت أفراده حصداً، فإذا بهم يخرون صرعى قبل أن تبدأ عملية الالتحام، فتكون الهزيمة الماحقة، هزيمة من دون حرب، ومعركة بدون سلاح، فلا الرماح انطلقت من سواعد فرسانها القوية، ولا السيوف خرجت من أغمادها، ولا فرسان صالت، ولا خيول صهلت.

وبعدها يعود الجيش المظفر للقبيلة الأولى مكللاً بالنصر المؤزر، وتستقبله شابات ونساء القبيلة برقصات وزغاريد وأهازيج النصر، وتمتلئ ساحات القبيلة بشباب وشابات القبيلة، المحتفلين بالنصر المؤزر، ويبدأ الشعراء في نظم أورع قصائدهم في وصف قوة وفعالية وفتك السلاح الجديد، ويبدأ الاصلاحيون والوسطيون من قساوسة القبيلة في إصدار الفتاوى المجيزة والمشرعة لاستخدام السهام والقسي في مقارعة أعداء القبيلة، الذين هم في نفس الوقت أعداء الرب، والمجيزة والمشرعة للاحتفال بالنصر كونه وسيلة إلهية لإدخال الرعب في قلوب أعداء القبيلة، ثم لا تلبث القلة الباقية من قساوسة القبيلة أن تلحق بالركب، فما كان بالأمس محرماً قد أصبح اليوم مباحاً بل ومطلوباً، وبأمر آلهة وأرباب القبيلة.

لقد حدث التغيير الاجتماعي، وتمت النقلة الحضارية إلى طور أعلى، بدأ التغيير باختراع الأداة، ثم تحول إلى صراع اجتماعي بين القديم المهيمن والجديد الصاعد، ثم انتصر الجديد ليجر خلفه القديم. إنها صيروه الاجتماع البشري، حدث ذلك مع المحراث، والسيف، والرمح، والقوس، والنار، والقاطرة، والمذياع، والتلغراف، والتلفزة، والانترنت، وسيحدث غداً مع وسائل وأدوات ومخترعات أخرى، لتجد البشرية نفسها في نهاية المطاف وربما بعد مئات السنين أو أكثر تعيش في ظل كيان سياسي واحد، وثقافة واحدة، وربما لغة واحدة. بداية واحدة، ونهاية واحدة، والفرق بينهما هو التاريخ المتعدد والمتشعب، ولكن في نفس الوقت المحكوم بقانون واحد غير مرئي، وغير مكتوب، وغير مدرك، منطوقه: أداة، فصراع، ثم نقلة.

Dr. [email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى