فضاء حر

الفاتورة التي ينبغي علينا سدادها نيابة عن الحاكم!!

يمنات
كشف العام 2011م, العاصف عن هول الكارثة التي ترزح تحتها البلاد برمتها, شمالاً وجنوباً, فقد عمل النظام, مثل بقية الأنظمة الديكتاتورية, على ترحيل مشاكل البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية, ومراكمتها حتى تحولت الى فاتورة باهظة يتوجب على الجميع سرعة سدادها نيابة عن نخبة الحكم بتركيبتها العسكرية والقبلية وعصبويتهما.
لم يلتفت الى صوت المظلومية في الجنوب, الذي ولد بفعل اجتياحه في صيف 1994م, ليتحول منذ مطلع العام 2007م, الى حراك سلمي له مطالبه الحقوقية, قبل أن يتحول الى صوت مرتفع يطالب بفك الارتباط واستعادة الدولة الجنوبية.
هذا الصوت اجتذب الى صفوفه أغلب الجنوبيين الذين أحسوا أن قوى المركز في العاصمة حولت جغرافيتهم بثوراتها وبنيتها الاقتصادية الى ملكيات شخصية لكبار الموظفين والقادة العسكريين ومشائخ القبائل وإلحاق تاريخهم الثقافي والاجتماعي بالبنية التقليدية المحافظة التي تتحكم بفلسفة الحياة في المركز ومحيطه.
خاض النظام ست حروب عبثية في محافظة صعدة, كشفت الأيام أنها حروب تمت بالوكالة عن أطراف خارجية, لتتلبس بلبوس مذهبية وطائفية حقيرة, عزفت على أوتارها وسائل القتل بشراسة بالغة, ومن أحد تجلياتها أنها كانت تعبر عن التنازعات في البيت الحاكم, لتستيقظ البلاد بعدها على انبثاق مركز قوة جديد صقلته هذه الحروب وتغذى من تهلهل السلطة ورخوتها, ويعرف الآن ب”الحوثية” التي تحولت الى معادل سياسي في المشهد لا يمكن القفز على حضوره في الحياة العامة.
هذا النظام لم يتفكك كما ظن البعص بعد 2011م, بل يعيد إنتاج نفسه بذات الوسائل تقريباً. تبدل رأس النظام وبقيت أدواته وفلسفته التي قادت البلاد على مدى ثلاثة عقود الى الكوارث الماحقة, فذات التالف الحاكم (من العسكر ومشائخ القبائل ورجالات الإسلام السياسي, بالإضافة الى طبقة رجال الأعمال الطفيليين) لم يزل يمسك بكل المقاليد, مستفيداً من ضعف وهشاشة القوى المدنية (من أحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات) ويسوق ذاته, داخلياً وخارجياً, بذات الكيفية التي اتبعها رأس النظام السابق, الذي “درج على طريقة بالغة الذرائعية في التعامل مع الإرهاب, مؤداها تتفيه الموضوع وتسخيفه.
فحين كان ينوي لفت نظر الغرب أو الحصول على دعمه, كان يحذر من الإرهاب, وتحديداً القاعدي منه, الذي يتعرض له بلده, أما حين لم يكن يُستجاب له, فكان يغض النظر عن الإرهاب هذا وعن تصاعده, بحيث يغدو عدم الاستجابة مكلفاً وخطيراً في نظر الغرب”, على رأي المفكر العربي حازم صاغية.
عمل النظام على تعظيم جغرافية المركز على بقايا البلاد, ليتحول الهامش الى مشكلة اقتصادية واجتماعية وثقافية, أقلها أنه صار حاضنا للجماعات الأصولية المتشددة, كما هو الحالي في مناطق البيضاء وأبين وشبوة, وتحويل المدن ذات العمق الثقافي والاقتصادي وإحدى ورافع التنوير في البلاد (مثل تعز) الى مدن طارده لأبنائها, بسبب التعطيش الأزلي وعسكرة الحياة فيها بطريقة ممنهجة.
وحين بدأ صوت تهامة المظلومة تاريخياً بالتململ من الوضع المزري الذي عيشه جراء الإهمال ونهب الأراضي وارتفاع نسب الفقر, ترك النظام عاصمة تهامة (مدينة الحديدة) تغرق في المجاري, دون أن يحرك المركز ساكناً لمعالجة بيئية جديدة الى مشاكلها التي لا تحصى.
يعول اليمنيون كثيراً على مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي انطلق قبل اكثر من نصف عام لإخراج البلاد من عنق الزجاجة؛ غير أن المؤشرات حتى الآن تنبئ بتضعيف مشاكل البلاد, لا حلها؛ لأن أطراف الصراع على الأرض نقلوا موضوعات تصارعاتهم المشخصنة الى قاعات “موفمبيك”.
ويعتقد أكثر اليمنيين أن مخرجات المؤتمر التي قد تفرضها ضغطاً دول الرعاية ستشكل هي الأخرى ترحيلا جديدا لمشاكل البلاد؛ لأن التمييع سمة واضحة من سمات الإدارة في البلاد, وعلى رأسها الإدارة بالأزمات كما ألفنا ذلك لسنوات.
على مدى خمسة عقود تطلع اليمنيون الى بناء دولة جديدة بنظام سياسي يحقق المساواة والعدالة الاجتماعية, الى جانب إنتاج منظومة من البنى الحديثة في الثقافة والتعليم والتطبيب, بدلا من دولة العزلة والتخلف والتحكم باسم المقدس.
تحققت بعض النقلات النوعية في شكل الدولة ونظامها السياسي (شكلياً على الأقل) قبل أن تسجل انتكاسات مرهقة, بفعل التجاذبات السياسية واستقطاباتها الحادة التي انتجت حالة من اللا استقرار طبقة جديدة للحكم تحولت بمرور الوقت الى بنية صلية تشظت الى مراكز قوى متعارضة خارجياً؛ لكنها متصالحة جوهرياً؛ لأن الذي يجمعها هو التراجعات القيمية في المجتمع, التي أتاحت لهذه المراكز ان تستطيل تتقوى وتتكيف أيضا مع كل المتغيرات, بما فيها تحولها الى قوى ثورية منذ مارس 2011!
هذه الطبقة هي ذاتها التي تحاول جاهدة إعادة رسم مسارات المستقبل بما يلبي رغبتها في الاستحواذ والسيطرة مرة أخرى.
ما أريد أن أقوله هو أن ما بشرت به ثورة سبتمبر وأكتوبر قبل خمسين عاماً, وما بشرت به ثورة فبراير 2011, اختصرته لصالحها القوى التقليدية المحافظة التي يتقاطع مصالحها مع أي عملية تحويل وتغيير, لهذا تعمل من أجل بقاء الحال في مربع التخلف, لهذا يتوجب على الوعي الجديد ان يجاهد من أجل إحداث قطعية كع بنية هذه المراكز ومسنوداتها الثقافية والاجتماعية والسياسية.
عن: الشارع

زر الذهاب إلى الأعلى