فضاء حر

جمهورية حاشد المشوهه

يمنات

فاطمة عباس باعلوي

أكتب مقالي هذا وأنا أعلم أنه لن يروق للكثير, من أصدقائي قبل خصومي, فلفظة “جمهورية” لها من الأثر البالغ ما يكفي لتطغي على نشوة الألباب, ولتسيطر على القلوب, فما يعود هذا ولا ذاك ليدرك ماهية “حقيقة وروح الجمهوريات الحقيقية”, ليُكتفى باللفظ دون جوهر المعنى.

وقبل أن أخوض في أبعاد وحيثيات تلك “الجمهورية المشوهة”, والتي أعني بها هنا تحديداً “الجمهورية العربية اليمنية”, سأجيب على سؤال هام, أظنه سيقفز إلى عقل القارئ مع توالي سطور مقالي هذا, والذي أخشى معها أن يؤثر ذلك على وعيه, فلا يعود ليفهم ويدرك حقيقة الفكرة التي أريد الوصول إليها, ذاك السؤال هو “هل أنا مع ثورة 26سبتمبر أم ضدها” ؟.

حقيقة أن هذا السؤال من الأسئلة التي يُعذر الكثير ممن يسأله, نظراً لسطحيته, ومع ذلك أقول أنه من الصعب جداً الجزم في إجابة مطلقة لهذا السؤال بـ (نعم/ أو لا), فالأحداث التاريخية الكبيرة لا تؤخذ دفعة واحدة بالحكم المطلق, فالثورات العظيمة مثلاً ليست عقيدة, و لعظمتها فهي تتمايز في مراحلها بين (حركات/ ثورات/ انقلابات/ تمردات/ انتفاضات, … الخ), ومن السُخف جداً القول بأننا حتماً سنتفق جميعاً وكُلية مع كل هذه التغيرات والأحداث وبكل مجرياتها.. إذ لا شك سنتفق في مراحل, ونختلف في أخرى !!

 الإمامة وحركات التحرر

لـن يختلف اثنان من العقلاء في القول بأن عهد الإمام يحي بن حميد الدين قد شهد من العزلة والانغلاق ما يكفي ليجعل كل فرد في المجتمع اليمني, يعاني من بالغ الظلم والجور والاضطهاد, في حين كان الإمام يحي يرى أنه يفعل ذلك خوفاً على اليمن من الأطماع الخارجية على اختلافها, لينكفي داخلياً ويعزل اليمن سياسياً وثقافياً واقتصادياً, فتنطلق اليمن في فضاء رحب وواسع من الجهل والفقر والتخلف, هذا السبب كان أحد الأسباب الهامة لتعمد بعض القوى التقليدية الاجتماعية من كبار القبائل فتستغله و تتأخذ منه منفذاً سهلاً للوصول لأطماعها والسيطرة على كرسي الحكم في اليمن.

وجدير بالذكر القول أنه وعلى الرغم من تناول الكثير من الأبحاث والدراسات السابقة لأحداث 26سبتمبر1962م, وتطرقها لأسبابها وحيثياتها, غير أن أحداً منها لم يتمكن من اقتناص حقيقة وجوهر أسباب هذه الثورة, حيث فندت هذه الدراسات وجود أي ملامح عقائدية لأحداث ثورة سبتمبر1962م, وأضافت أن غياب الملامح العقائدية كان أحد أسباب فشل ثوراتها وانتفاضاتها المتلاحقة. إلا أن هذا الكلام وهذه التفسيرات غير صحيحة على الإطلاق, إذ أن أحداث هذه الثورة المتلاحقة ومن بدء الثلاثينات, ما كانت لتكون لولا أن وراءها أسباب عقائدية و دينية, فمن المعروف أن الإمام يحي كان ممثل الطائفة الزيدية في اليمن, و كان لا يقبل البتة في أن ينافسه أحداً في امامتة, ونظراً لقدرته الكبيرة على دحر الأطماع الخارجية عن اليمن, وأولها الاحتلال التركي, فقد كان يحظى معها بشعبية كبيرة جعل الكثير من أبناء الشعب يغضون الطرف عن ما يسببه لليمن من كوارث وعُزلة.

هذه العقيدة الدينية “الزيدية” كانت الخصم الأول الذي أوغر صدر عدد من كبار القبائل ضد الإمام, خاصة قبيلة “حاشد” التي يتزعمها الشيخ حسين الأحمر, وقبيلة “مراد” المذحجية بزعامة على ناصر القردعي, حيث عمد الإمام لاستغلال سلطته الدينية هذه لقمع أي تمرد لهذه القبائل, و قمع أي محاولة لمنازعته في سلطته, وكانت قبائل صعدة أكبر معين للإمام في ذلك, لذا عمد هؤلاء إلى التخطيط لتقييض أركان حكمة, و انتزاع كرسي العرش, ولم يكن من وسيلة أمامهم إلا استثمار الغضب والسخط الشعبي الذي أعتمر قلوب الكثير من أبناء الشعب اليمني, وعلى رأس هؤلاء, كانت طبقة الأحرار من أدباء ومثقفين, والذين رأى فيهم الشيخ حسين الأحمر السيف الأبلغ حسماً لاستيلاء قبيلتة على السلطة.

من هنا بدأت الأحداث, وتصدر الأدباء و الأحرار مشهد حركات التحرر, ولم يشكوا قط في أطماع كبار القبائل في السلطة, بل على العكس من ذلك, فقد ذكر الشهيد محمد محمود الزبيري في أحد كتاباته أنهم كانوا يرون أن كبار القبائل هذه ووجهائها سيكون لهم دور بارز في تحقيق نصر كبير للثورة, وذلك لما للقبيلة من ثُقل مجتمعي له تأثيره القوي في مجتمع أغلب تشكيلاته من البسطاء والكادحين, ومن هنا قام الأحرار بتشكيل عدد من هيئات النضال السرية المختلفة, وباستخدام عدد من الوسائل الممكنة و المتاحة من صحف ومجلات واذاعات, يمكن من خلالها مقاومة الحكم الإمامي وكانت غاية الأحرار خروج اليمن من حكم السلالية الملكية, والتحول بها إلى النظام الجمهوري المدستر, في حين كانت غاية جماعة المصالح القبلية هي كرسي العرش, وهنا تعددت الأهداف واختلفت.

مضى تحالف (الأحرار والأدباء), مع (كبار القبائل), في حركات ثورية متوالية لإسقاط حكم الإمام, إلا أن جميعها فشلت, وكان أهمها “الحركة الثورية عام1948م”, و”الحركة الثورية عام 1955م”, وكان لفشلهما عدة أسباب, فتنظيماتها الثورية ناقصة, وتفتقر لرؤية واعية وواضحة في مجتمع ساده التخلف, ولعل من أهم أسباب الفشل هو اختلاف أهداف الأحرار من الأدباء والمثقفين, عن أهداف كبار القبائل, مما اضطر أحرار الحركة وأدباءها للتعاطي والتعايش مع تناقضات وأطماع كبار القوم وأطماع قبائلهم, ولم يكونوا ليقدروا على استثناءهم أو حتى مجرد التفكير بالتخلي عنهم.

وجدير بالقول أنه وعلى الرغم من الهزائم المتلاحقة للحركات الثورية, إلا أنها استطاعت أن تخرج بالقليل من الإنجاز, فحركة 1948م التي أجهضها الإمام أحمد بعد أن اغتيل فيها والدة الإمام يحي, استطاعت أن تكون أول حركة في الوطن العربي تغير نظام الحكم من نظام فردي, إلى نظام دستوري, وذلك بإعلانها ” الميثاق المقدس” 1948م, فعملت بذلك على ترسيخ فكرة (المواطن/المواطنة), بدلاً عن فكرة (الراعي/ الرعية). في حين كان من إنجازات الحركة الثورية عام 1955م, وعلى فشلها أيضاً, أنها أجبرت الإمام البدر على فتح المدارس والمعاهد العلمية, كما أمر الإمام بإرسال عدد من البعثات العسكرية والتعليمية إلى الخارج, وخاصة مصر والعراق.

أحداث 26سبتمبر1962م

في العام 1958م قام الشيخ حسين الأحمر وابنه حميد بعقد “مؤتمر قبيلة حاشد”, و الذي دعى فيه للتمرد والقضاء على الإمام أحمد, وبواسطة “عبدالسلام صبرة, والقاضي عبدالرحمن الإرياني” تم إجراء العديد من الاتصالات مع عدد من القبائل والعلماء وأفراد في الجيش, فاندلعت المواجهات في عدد من الجبهات كحاشد ونهم وبرط وخولان, إلا أن الإمام أحمد والذي أشتهر بخبثة ودهاءه استطاع القضاء على هذا التمرد باستمالته للقبائل بالمال السلاح, وتأليبها على الشيخ, ثم قام بإعدام الشيخ حسين الأحمر وابنه حميد. ولم يكن الشيخ في تمرده يعبر عن روح الشعب وتطلعاته, بقدر ما كان تمرده ثأر شخصي لعبت فيه العقيدة الدينية دورها الصارخ.

وعلى الرغم مما أثاره هذا التمرد من إحباط, ألا أن الجبهة الثورية استمرت في العمل الثوري, يرافقها كبار القبائل, وقاموا بتشكيل “منظمة الضباط الأحرار”, إلى جانب الحركة الوطنية, وكان معظم أفراد التنظيم من الناصريين الذين عمدوا إلى تصعيد العمل الثوري مع التنظيمات القومية كحزب البعث, والقوميين العرب, غير أن الإمام أحمد توفي فجأة بعد عام ونصف من معاناة محاولة اغتيال قام بها “عبدالله اللقية, محمد العلفي, محسن الهندوانة”, وتم على إثرها إعلان البدر إماماً, والذي أعلن أنه سيسير على نهج والدة, حينها وبسرعة مضطربة قامت “الحركة الوطنية”, و”منظمة الضباط الأحرار” بتعيين عبدالله السلال قائداً للثورة, وتوجه الجميع وفي مقدمتهم الجيش إلى دار البشائر, وقصفة وحصار البدر و إنذاره بالاستسلام, وفي صبيحة1962-9-26تم إعلان الجمهورية العربية اليمنية, وانتهاء عهد الإمامة.

التدخل المصري في اليمن

بمجرد إعلان الجمهورية العربية اليمنية سارعت قبيلة حاشد لإعلان انفصالها عن النظام نهائياً واتخاذ أئمة خاصة بها, خاصة وقد جنحت بعض القبائل لتأييد الأمير الحسن بن يحي إماماً لليمن. هنا قام جمال عبدالناصر بإرسال قوات مصرية للقضاء على القبائل الرافضة للجمهورية, وعمد إلى دعم قبيلة حاشد وحلفاءها بالمال والسلاح, ليشتبك الجمهوريين والملكيين في حرب أهلية استمرت من العام 1962م حتى صيف 1968م, حصدت الحرب خلالها عشرات الألاف من القتلى.

هذه الحرب وهذا التدخل كان له من الأثر الكبير ما يكفي للقضاء على كل فرص التحول نحو جمهورية حقيقية, والتأسيس لدولة مركزية قوية. حيث كان التدخل سبباً رئيسياً في تمفصل القبيلة في كيان الدولة لتصبح ركناً أساسياً فيها وربما وحيد في روح الدولة, وهو تكوين فريد من نوعه في كيانات الدول على اختلافها, لتصبح اليمن بعدها هي يمن القبيلة, قبيلة “حاشد” التي جعلت الجمهورية ملكية خاصة بها, كونها ترى فيها ثمرة نضالها لعقود للوصول إلى سدة الحكم وأحقيتها المطلقة بها, لتحكم اليمن بعدها من خلف ستار, وبواجهات مختلفة من الزعماء الذين يتوجب على أحدهم أن ينصاع تماماً لها إن أراد أن يحكم اليمن.

زر الذهاب إلى الأعلى